للاستعراض في الولاياتالمتحدة مكانة بارزة، هذه البدعة متغلغلة في أعماق الحياة الإجتماعية، فهناك استعراض في المحاكم، واستعراض الانتخابات الرئاسية، وكذلك استعراض الحروب... هذه الظاهرة تختلف عن الإعلان، كونها تشترط أن يكون الاستعراض حياً، ومسلياً يضفي رونقاً على الواقع ويبهر المشاهدين. أما العرض الأخير قبل النزول عن المنصة، قبل الإعتزال، فهو الأهم. وختامها مسك كما يقال. ولكن، من لا يتقن قوانين تلك اللعبة الظريفة، ينقلب الجمهور عليه بلمحة بصر. فالجمهور الأميركي متطلب، يبحث دائماً عن الإبداعات الجديدة، والأدوار الخلاقة، وإلا فسرعان ما يتسلل الملل إليه. جورج بوش الإبن لم يحسن اللعب! عبثاً حاول مناصروه تلميع صورته وترميم صيت أميركا، ولكنه التزم بالدور الذي اختاره لنفسه وفشل. لم يختلف خيار بوش بإنهاء ولايته بجولة في الشرق الأوسط عن خياراته السابقة التي تميزت بعناد غير عقلاني ومواقف إستعراضية فاشلة. الكاوبوي أضاع فرصته الأخيرة، وهو ذاهبٌ مع الريح. العرض انتهى، وفرح الجمهور والجمهوريون أن ولاية بوش في عامها الأخير. والمشكلة إنما تكمن في إستحالة تقويم تاريخه الحافل بالأخطاء حتى وان كتب النجاح لرحلته السياحية في المنطقة. فبين إصلاح الأخطاء وارتكاب حماقة أخرى خيط رفيع لم يتوقف عنده الرئيس الأميريكي. كان من الأفضل لو للتزام البيت الأبيض، أو ربما عليه اختيار خاتمة كالتي حاكها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الأخيرة الى بلغاريا. جاء بوتين، وانتصر. هكذا بكل بساطة، من دون الحاجة الى أن يرى ويدرس الوضع كما فعل يوليوس قيصر، ليرفع تقريره الشهير Veni, Vidi, Vici. جاء بوتين، وسجل هدفاً، هكذا بما يشبه جولتي ملاكمة سريعتين، وترك البلغار منبهرين، يتساءلون عما حصل. أضاف تفوقاً آخر على لائحة انجازاته الإقتصادية، إنجازات حولت روسيا من البؤس إلى الإزدهار، حيث بلغ معدل النمو في الناتج الإجمالي نحو 7 في المئة سنوياً إبتداءً من عام 2000، ما يعني زيادة الإنتاج نحو 50 في المئة خلال سبع سنوات من حكم بوتين، وبلغت الإستثمارات الأجنبية نحو 45 مليار دولار. جاء بوتين وغادر كما تغادر الأعاصير مفسحة المجال لتحليلات الخبراء وتأويلاتهم. الحصيلة كانت ثمانية إتفاقيات تنوعت بين تجارية، واقتصادية، وثقافية أعلن عنها في مؤتمر صحافي مشترك قبل مغادرة الوفد. مؤتمر، كان الكلام يجري فيه سريعاً في الدقائق العشر الأولى، الى أن طرح سؤال كوسوفو. الموقف واضح، والنبرة قاطعة، والخطابة جمل قليلة وقد أمكن اختزالها الى أدنى حد ممكن:"إعلان الإستقلال من طرف واحد غير شرعي، ولن نقبل به."إنها نبرة دولة كبيرة واثقة من نفسها، وتعليق قائد جاء ليتم صفقات إقتصادية في الوقت الراهن. السبب الرئيس للزيارة الرسمية التي قام بها بوتين الأسبوع الماضي هو إنهاء المحادثات حول مشروع إنشاء محطة"بيلينيه"الكهرذرية التي ستتعهد بها شركة"آتوم ستروي اكسبورت"الروسية التي فازت في الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأول أكتوبر بالمناقصة، وكذلك اتفاقية إنشاء خط لنقل الغاز عبر الأراضي البلغارية المعروف باسم"ساوث ستريم"أو السيل الجنوبي، إضافة إلى عقد لإقامة شركة دولية لتصميم خط أنابيب النفط العابر للبلقان من بورغاس إلى ألكسندروبوليس. ومن المعروف أن مشروع الپ"ساوث ستريم"يعد منافساً لمشروع"نابوكو"الذي يرعاه الأميركيون. وقد مهدت الحكومة البلغارية لاحتمال تأجيل توقيع الاتفاق الخاص بمشروع"السيل الجنوبي"لنقل الغاز بالإعلان الذي قامت به قبيل زيارة الرئيس الروسي. وربما كانت المراوغة البلغارية لتأجيل توقيع الإتفاق محاولة خجولة لمراعاة مشاعر بوش. ولكن روسيا تستطيع مواجهة الضغوط الأميركية بضغوط أقوى من خلال تأثيرها على حلفائها في أوروبا كألمانيا وفرنسا المهتمتين بالحصول على مصادر الطاقة الروسية. أما نائب مدير مركز التكنولوجيات السياسية في موسكو ألكسي ماكركين فيرى أن مراوغة بلغاريا قد تسيئ الى سمعتها، وعلق بوتين على الموضوع قائلاً إن حكومته لن تفرض مشاريعها على أي كان، والعديد من الدول تطرق أبواب موسكو راجية إدخالها في مشاريع مماثلة. والرئيس الروسي يمتلك أسهماً في ثلاث شركات غاز ونفط، من بينها شركة"غازبروم"العملاقة، وتديرها شبكة المؤسسات والهيئات الدولية ويتحكم فيها أصدقاء بوتين. وبالتالي، أوروبا لا يمكنها أن تتخلى عن روسيا ومصادر طاقتها، بما فيها بوتين وطاقمه. جاء الرئيس الروسي كالعراب المتقاعد الذي نظم حفلة تعارف يقدم فيها"أفراد العائلة"الجدد، يريد ابلاغ الأوروبيين والأميركيين بأنه باقٍ بطريقة أو بأخرى. وصل بوتين يرافقه وزير الخارجية سيرغي لافروف، ورئيس بلدية موسكو يوري لوجكوف، وديميتري ميدفيديف المرشح لخلافة الرئيس. وزار الوفد معرضاً افتتحه وزير الدفاع البلغاري فيسيلين بليزناكوف بعنوان"حروب وحرية"في المتحف التاريخي العسكري في صوفيا أقيم بمناسبة مرور 130 سنة على تحرير بلغاريا من الهيمنة العثمانية على أيدي القوات الروسية، كما حضر الضيوف عرضاً في القصر الثقافي الوطني، أعلن فيه أفتتاح السنة الروسية في بلغاريا. وكانت الدولتان قد اتفقتا، إثر زيارة قام بها رئيس الوزراء البلغاري سيرغي ستانيشف الى موسكو أيار مايو الماضي، على إعلان عام 2008 سنة روسيا في بلغاريا، وعام 2009 سنة بلغاريا في روسيا. العلاقات بين البلدين من أولويات السياسة الخارجية البلغارية، ولكن بلغاريا تنظر الى روسيا عبر منظور انضمامها الى الاتحاد الاوروبي، أي إنها تتبع مبادئ الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية ومواقفها العامة من روسيا لن تتضارب مع مواقف أوروبا. التعاون بين البلدين مستمر وسينظر البلغار أبداً الى روسيا كدولة صديقة، والزعماء الروس الذين توافدوا على صوفيا سيجدوها دائماً مكاناً هادئاً ومجتمعاً أليفاً. حتى أن تقارير بلدية صوفيا تشير الى أن شرطة السير وقوى الأمن لم تواجه أية مشاكل خلال زيارة الوفد، فبوتين يشعر أنه في بيته. وقد تفاجأنا بانتهاء الزيارة التي، على أي حال، لم تزد عن 36 ساعة. لا يمل! حقاً لا يمل من بوتين. قد تختلف مع المنهج الذي يتبعه، أو توافقه الرأي لكلنك دون شك ستعترف بقدرته الرشيقة على للوصول الى مبتغاه، والأهم من ذلك كله أن بوتين يعلم جيداً ما يريد.