عندما زار جورج بوش الإبن اسرائيل في المرة الأولى، استقبله ارييل شارون ورافقه خلال جولته على المواقع التاريخية التي حفظ اسماءها من التوراة. وأمضى بوش ثلاثة أيام يتنقل بمروحية نقلته من القدس ومنطقة الجليل الى المواقع الأثرية المعروفة داخل الضفة الغربية يهودا والسامرة. ومع انه تظاهر أمام شارون بأن الزيارة هي تحقيق لرغبة شخصية تملكته إثر اعتناقه عقيدة"التجدد"، لكنه من جهة أخرى انتقد سياسة والده نحو اسرائيل، وقال انه لن يتبنى مواقفه إذا ما رافقه الحظ في انتخابات الرئاسة. وهذا ما طبقه بالفعل طوال السنوات الأربع الأولى من حكمه. ذلك ان نائبه ديك تشيني وأفراد"عصابة الأربعة"، استغلوا إخلاصه لعقيدته الدينية للانحراف بسياسة أميركا الخارجية عن خطها التقليدي، اي الخط الذي التزمه كل الرؤساء السابقين، بدءاً بهاري ترومان وانتهاء ببيل كلينتون. وتعتبر تلك السياسة ان القضية الفلسطينية تمثل لبّ النزاع في منطقة ملتهبة يصعب إطفاء نيرانها قبل ايجاد حلول عادلة للمشكلة المركزية. ولدى دخول جورج بوش الإبن الى البيت الابيض، أقنعته"عصابة السوء"بضرورة تغيير هذا النهج واستبداله بنهج يغنيه عن التعاطي مع قضية فشل كل الرؤساء في حلها. وتستند الرؤية السياسية الجديدة الى منطق يقول: إن تغيير تركيبة الشرق الأوسط وتبديل صورته ينتجان حلاً تلقائياً للقضية الفلسطينية، من هنا إصرار إدارته على مهاجمة العراق لاقتناعها بأن الطريق الى القدس تبدأ من بغداد، وليس العكس! ولكن حرب العراق اثبتت خطأ نظرية الترابط بين"الفوضى الخلاقة"وما قد ينشأ عنها من حلول لقضايا معقدة مثل قضية فلسطين. وانتظرت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس خروج"عصابة الأربعة"من الإدارة كي تحيي السياسة التقليدية التي مورست في السابق. وبناء على توصيتها بعث الرئيس بوش مشروعه"خريطة الطريق"ليغطي به فشله العسكري في العراق، ويجدد المسيرة التي رعتها بلاده في مؤتمر مدريد واتفاقات اوسلو. تقول الصحف الاسرائيلية ان الدافع الحقيقي لاستئناف مفاوضات السلام، يكمن في المخاوف التي أثارها سعي ايران المتواصل الى صنع القنبلة النووية، والى اصرارها على القيام بدور المدافع عن حقوق الفلسطينيين. ومن أجل توسيع دائرة هذا الدور، جندت طهران حلفاءها في سورية ولبنان وفلسطين وبعض دول الخليج. لذلك رأت الإدارة الاميركية - بتوجيه من الوزيرة رايس - ان السبيل الافضل للقضاء على استراتيجية طهران هو تحقيق سلام اسرائيلي - عربي شامل يمنع تمدد النفوذ الايراني. ثم ضاعفت عدد بوارجها الحربية حول مضيق هرمز للايحاء الى اسرائيل، بأنها على استعداد لتوجيه ضربة عسكرية الى المنشآت النووية في حال اقتربت ايران من صنع القنبلة، ولكنها من جهة أخرى واصلت ضغوطها الاقتصادية بهدف عزل النظام، على اعتبار ان نتائج الضربة العسكرية غير مضمونة النجاح. وعندما بدأت اجتماعات انابوليس، فاجأ الرئيس بوش المجتمع الدولي، بخطاب قال فيه ان ايران علقت برنامجها النووي سنة 2003، واستند في هذا الزعم، الى تقرير أعدته وكالة الاستخبارات بالاشتراك مع 16 وكالة أمنية في واشنطن، وكان الهدف غير المباشر الكامن وراء هذا الاعلان، تطمين اسرائيل من جهة، وخلق ظرف موات يفتح باب الحوار بين طهرانوواشنطن من جهة أخرى. في حين توقعت كوندوليزا رايس ازدياد الخلاف بين مرشد الثورة علي خامنئي ومعارضي سياسة الرئيس محمود أحمدي نجاد مثل الرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. وكان ذلك عقب اعلانها عن الاستعداد للقاء نظيرها الايراني، شرط قبول طهران قرار مجلس الأمن الداعي الى تعليق نشاطاتها لتخصيب اليورانيوم. أول رد فعل جاء على لسان الرئيس السابق رفسنجاني، مستشار المرشد الأعلى ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام. فقد انتقد سياسة أحمدي نجاد، وقال ان"مشكلة التضخم تتفاقم، الأمر الذي يدفعنا الى التعاطي معها بجدية وحنكة لا بالشعارات والبهلوانيات السياسية". ولكنه اتهم الغرب بالإصرار على إخافة ايران، معتبراً ان الوجود الأميركي في المنطقة هو سبب الخراب. النائب قدرة الله علي خاني هاجم الرئيس نجاد بقسوة، واتهمه بتضليل الرأي العام عندما يتحدث عن اسباب الغلاء، وذكرّه في مقالة نشرتها صحيفة"همبستغي"بأن دخل الحكومة خلال سنتين ونصف السنة بلغ 150 بليون دولار، اي أكثر من دخل حكومات رفسنجاني في ثماني سنوات... وما يعادل دخل حكومة خاتمي في الدورتين. ومع هذا كله، فإن الجماهير لم تستفد من حقها في اقتسام عائدات النفط. الاصلاحيون في ايران استغلوا التقرير الاميركي للتذكير بأن بلادهم أيدت الحرب الأميركية ضد غزو الكويت، كما أيدت الحرب ضد نظام طالبان في افغانستان، وعندما دخل الجيش الاميركي العراق، سارع المسؤولون الايرانيون الى عرض تسوية شاملة تُطرح فيها على الطاولة كل نقاط الخلاف: من المشروع النووي الى معارضة المسيرة السلمية الاسرائيلية - العربية. واعتبر هؤلاء الاصلاحيون ان سقوط نهج رامفسيلد - تشيني قد يفتح أفقاً جديدة في العلاقات الاميركية - الايرانية، خصوصاً انهما عارضا سياسة الانفتاح على"إحدى دول الشر". ويبدو أن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، شعر بتعاظم حملة الاعتراض ضد محمود نجاد، وباتساع حلقة المطالبين بالانفتاح على الولاياتالمتحدة. ولتوضيح موقفه من النقاش السياسي الدائر داخل البرلمان وخارجه، قال إن"العلاقات مع الولاياتالمتحدة مضرة بإيران، ويجب اجتنابها". وأكد أنه"يوم تصبح العلاقات مع أميركا مفيدة لأمتنا، سأكون أول من يقرها". ورأى أن استئناف العلاقات في الظروف الحالية، من شأنه أن يعرض أمن إيران للخطر ويفسح في المجال كي تنشر نفوذها. وعن التهديدات العسكرية الأميركية، علق علي خامنئي عليها بالقول إن بلاده سترد بقوة على أي هجوم قد تتعرض له على خلفية أزمة ملفها النووي. ويُستدل مما تقدم، أن مرشد النظام خاف من تنامي موجة الانفتاح على أميركا، ومن مخاطر إحداث شرخ داخلي بين الراديكاليين والاصلاحيين يؤثر على ثبات النظام. وهو يرى أن واشنطن تريد تغيير النظام عن طريق منع انتشار السلاح النووي. والنتيجة التي انتهى إليها خامنئي أن الانتماء إلى"محور الشر"مع سلاح نووي مثل كوريا الشمالية، أفضل من دولة من دون سلاح نووي - مثل العراق - يسهل ضربها. على هامش زيارة بوش للمنطقة، جرى حادث خطير في منطقة الخليج، فرض على البنتاغون رفع حال التأهب بسبب تهديد الحرس الثوري الإيراني لبارجة أميركية. ومن القدس حذر الرئيس بوش طهران من عواقب وخيمة إذا لحق الأذى بالبوارح التي تحرس ناقلات النفط قرب مضيق هرمز. واختار رئيس جمهورية إسرائيل شمعون بيريز هذه الحادثة ليركز في محادثاته مع بوش على الملف الإيراني. وذكر المراقبون أن بيريز أكد للرئيس الأميركي أن بلاده تعطي الأولوية للمشروع النووي الإيراني، في حين يأتي الملف الفلسطيني في الدرجة الثانية من الأهمية، كذلك اطلع أولمرت ضيفه على تقارير الاستخبارات الإسرائيلية التي تنفي ما جاء في تقرير الاستخبارات الأميركية بشأن وقف المسعى الإيراني لبلوغ قدرات نووية. ردت طهران على عملية نشر صور الزوارق الحربية الإيرانية اثناء اقترابها من البارجة الأميركية، بالقول إنها قصة مفتعلة لاغراض سياسية. وقالت مصادر تابعة لحرس الثورة إن هناك دوريات روتينية تتولى حراسة المياه الاقليمية من الاختراقات. والمعروف أن السلطان قابوس كان قد كلف أحد مستشاريه بالتباحث مع السلطات الإيرانية في عهد الشاه 1973 حول ترسيم حدود المياه الاقليمية التابعة للبلدين. واعتبر الفريق الإيراني أن حدود المياه الاقليمية تصل إلى حدود الجزر الموسمية. في حين رأى الفريق العماني أن عمق المياه الاقليمية على الجانب الإيراني لا يسمح لسفن النقل العملاقة 300 طن من النفط الخام، بأن تعبر قبالة مضيق هرمز. بينما يصل عمق المياه على الجانب العماني إلى 28 فاثوماً أي إلى 196 قدماً. ولما رفض شاه إيران هذا الترسيم، تدخل السفير الأميركي ريتشارد هيلمز وأقنعه بضرورة التجاوب مع الدراسة التي قدمها المبعوث العماني. والمؤكد أن حراس الشواطئ قد اعتمدوا تلك الخطوط حتى بعد قيام نظام الثورة. وفي تحليل آخر يقول إن"حراس الثورة"استغلوا تصريح علي خامنئي لرفع حدة التوتر في منطقة حساسة مثل مضيق هرمز، وأقدموا على استفزاز قيادة الاسطول الأميركي الذي يحرس ناقلات النفط العملاقة. وكان الهدف من وراء هذا الحادث إعلان التحدي للقوة العسكرية الأميركية وللرئيس بوش الذي يزور المنطقة لتأمين ضمانات الرعاية لمشروع السلام. يتوقع وزير خارجية إسرائيل السابق شلومو بن عامي، أن يصبح السلام الإسرائيلي - العربي أفضل وسيلة لاحتواء استراتيجية إيران، خصوصاً بعدما ثبت أن تردد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يساعد إيران على نشر نفوذها. وهو يقترح استخدام اساليب الحرب الباردة، وادخال إيران في سباق تسلح يمنع أحمدي نجاد من تحقيق وعوده في التنمية والعدالة الاجتماعية. وفي هذا السياق كتب المعلق الإسرائيلي الوف بن في صحيفة"هآرتس"يقول إن جورج بوش سيضطر الى حسم موقفه قبل نهاية ولايته الثانية المنتهية في كانون الثاني يناير 2009، أي خلال سنة. وبما أن أي رئيس ديموقراطي لن يبدأ ولايته بمعاداة إيران، فإن إسرائيل تتطلع إلى جورج بوش كمنقذ يمكن أن يساعدها على التخلص من كابوس القنبلة الإيرانية. وبما أن الهجرة المضادة من إسرائيل إلى أوروبا وأميركا قد ازدادت بعد تهديدات أحمدي نجاد... وبما أن مرشحي الحزب الجمهوري من أمثال رودي جولياني وجون ماكين، سيخسرون الرئاسة من دون انجاز كبير يهز مشاعر الناخبين، فإن جورج بوش يطرح على القيادة العسكرية فكرة كسر شوكة إيران، مثلما فعل مع العراق. والثابت أن كبار الجنرالات أشاروا عليه باستخدام سلاح العقوبات لاعتقادهم بأن هذا النوع من العمليات غير مضمونة النجاح. وقد تكون ردود فعل إيران والقوى المتعاطفة معها، مهيأة لضرب المصالح الأميركية وتدمير مشروع السلام الذي يروج بوش حالياً لضرورة تحقيقه! * كاتب وصحافي لبناني