من الواضح أن النظام العربي استمرأ الاستمرار في "الاستقرار", وهوغير راغب في التغيير إلا بحدود ضيقة تفرض عليه بفعل ضغوطات داخلية أو خارجية. وغالباً ما يكون هذا التغيير شكلياً, وهذا ما يشكل بحد ذاته نكسة للتغيير وعدم إنجازه وفقاً لما ترغب غالبية شرائح المجتمع. إنها تغييرات فوقية يرافقها طنين إعلامي, دون أن يكون لها رصيد في المجتمع, أو نتائج حقيقية فعالة. وهذا ما يجهض عملية التغيير ويحولها إلى عملية دعائية. وبذلك يكون النظام السياسي قد تحول من راع للتغيير إلى عقبة أمامه. وهذا ما فرض البحث عن خيارات أخرى لتحقيق التغيير بعيداً عن طريق النظام السياسي. من هنا طرحت فكرة المجتمع المدني الذي يستطيع أن يقوم بدور مهم في عملية التغيير, من خلال بناء المؤسسات شبه المستقلة, متجنباً الصدام المباشر مع السلطة. المجتمع المدني ليس معادياً أو بديلاً للدولة كما تنظر إليه بعض المؤسسات الحكومية العربية. إنه رديف للدولة أي النظام السياسي القائم ويتحمل معها كثيراً من المسؤوليات. وهذا ما جعل الفكر الليبرالي يعتبر بمثابة الوسيط بين المجتمع بفئاته وشرائحه المختلفة وبين الدولة بهيمنتها الكلية. المجتمع المدني ليس سوى مجموعة من الجمعيات المدنية اليقظة والقائمة على التنظيم الذاتي, وهي ضرورة لازمة لدعم الديموقراطية وتحقيق غايتها في اشتراك النسبة الأكبر من المجتمع في مؤسسات الدولة أو مراقبتها. وخلافاً لما يعتقده بعض المسئولين في الأنظمة العربية من أن المجتمع المدني يعني المعارضة, أو تتستر تحته قوى معارضة فقط. وهذا صحيح إلى حد ما, حيث لا يسمح بتشكيل أحزاب معارضة, ولكنه أيضاً وقبل كل شيء مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والدينية والتعليمية والنقابات والنوادي الثقافية. وبذلك يكون المجتمع المدني قد دخل في علاقة جدلية مع الدولة. فهو يراقب الحكومة ومؤسساتها عن طريق مؤسساته هو, في حين تقوم الدولة كما ينبغي ويفترض برعاية المجتمع المدني وتحافظ على استقراره. والدولة الديموقراطية فقط هي التي ترعى هذه المؤسسات. أما الدولة الشمولية فهي لا ترى في المجتمع المدني إلا عاملاً يهدد أمنها واستقرارها, لذلك فهي تخشاه وتقمعه وتضع ناشطية تحت المراقبة الكاملة. وبذلك تتلاشى أو تضعف مؤسسات المجتمع المدني وتصبح ظلاً باهتاً للمؤسسات الرسمية. راج مصطلح"المجتمع المدني"في الأدبيات العربية في وقت متأخر. ورافق رواجه التباس واضطراب كبيران, وهذا متعلق بطبيعة الفكر العربي أولاً الذي لم يتعامل مع المفاهيم وفق سياقها الطبيعي. يضاف إلى ذلك أن مفهوم المجتمع المدني ذوجذور غربية ليبرالية في تطوره الحديث, وهذا ما أعاق تكيف العقل العربي المعاصر معه بسهولة مما جعل المفهوم يزداد ضبابية وغموضاً. فدعاة المجتمع المدني, أو بعضهم حاولوا إسقاط مفهوم الحزب السياسي عليه , أو على الأقل المعارضة. كما أن الدولة العربية من جانبها تختزن إرثاً احتكارياً من السلطة يصعب عليها التنازل عنه, إذ أن هيمنتها على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية حالت في كثير من الأحيان قيام مؤسسات مستقلة ترغب بالنشاط في أحد المجالات لأنها تصطدم حتماً بتوجه الدولة نحو الأحادية غير المستجيبة لرغبة المجتمع في ممارسة دوره وفق تصوراته واجتهاداته. لهذا كنا نجد غالباً إن لم يكن دائماً العلاقة بين الدولة العربية والمجتمع المدني علاقة يسودها التوتر والتنازع, تفتقر إلى التصالحية, خلافاً لما نجد في الدول الديموقراطية المتقدمة, وإنما صراعيته تكاد تقوم على الإلغاء إن لم يكن القمع. هل يمكن الوصول إلى صيغة متوازنة بين الطرفين؟ نعم هذا ممكن كما نجد في الدول الديموقراطية المتقدمة. أما لدينا في الوطن العربي فهذا يتعلق بالدولة ونظامها السياسي أولاً. إذ إن كثيراً من هذه الأنظمة رهنت المجتمع المدني بإرادتها وسلطتها, وهي إذاً أرادت لهذا المجتمع أن يمارس دوره وفعاليته فما عليها إلا أن تعترف بمؤسساته وأن تترك له هامشا حتى يؤدي وظيفته بحرية وانطلاق. لقد شهدت فترة التسعينات بعض التحول الديموقراطي في الوطن العربي بشكل عام مع وجود اختلافات تراوحت ما بين قطر وآخر. فمصر والأردن والمغرب وبعض بلدان الخليج خطت خطوات لا بأس بها في سياق التحول نحو الديموقراطية , في حين ما زالت بلدان أخرى تصر على المراوحة في المكان. ولكن يجب علينا ألا نلقي العبء كله على السلطة العربية, إذ تتحمل الأحزاب والبرلمانات والمؤسسات الأهلية وغيرها دوراً مهماً في عملية التحول الديموقراطي, على الرغم من أن الأحزاب العربية لا تؤدي دورها إلا في هامش التعددية السياسية الذي تفسحه السلطات الحاكمة. وهذا الهامش غالباً ما يضيق حتى يقتصر على الحزب الحاكم وحده. وهكذا يبدو دوره هامشياً وغير فعال, وكثيراً ما تستنسخ تجربة الحزب الحاكم في التوريث والشخصنة والاستبداد بالرأي. كذلك ترتبط البرلمانات بالهامش الذي تفسحه لها السلطة. ومحاولة التغيير ترتطم دوماً بقرار السلطة. هنا ينحصر الرهان الوحيد بدور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية غير الحكومية في القيام بأدوار تساعد على التحول إلى الديموقراطية. لكنها مرشحة دوما ً إلى الارتطام بالسلطة والدخول معها في حرب غير معلنة. وهذا ما يحتم عليها القيام بوظائف يجعلها محمية بإطار اجتماعي واسع يحتويها ويتبنى آراءها بحيث لا يبدو خيار البطش سهلاً مادامت السلطة تحاول باستمرار ترقيع أزمة اهتراء شرعيتها.