تشغل الصومال منطقة استراتيجية حيوية، فهي تقع على كامل القرن الأفريقي بشاطئ طوله اكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر يمتد من المحيط الهندي غرباً الى باب المندب شمالاً، أي انها عند الممر الحيوي لناقلات النفظ والبضائع على اختلافها بين آسيا وأوروبا وأميركا، لذلك كانت المنطقة دائماً محل نزاع بين المستعمرين، وقد تمكن مستعمرو القرن الماضي من التوصل الى تقسيم بلاد الصومال الكبرى فكان نصيب الفرنسيين ما يعرف اليوم بدولة جيبوتي، ونصيب الإنكليز ما يعرف اليوم بجمهورية"صومالي لاند"في الشمال أو"أرض الصومال"، غير المعترف بها دولياً، إضافة الى إقليم أوغادين في أثيوبيا وشمال شرقي كينيا، أما نصيب الإيطاليين فكان جنوبالصومال ووسطه. في مطلع الستينات من القرن الماضي، وفي وهج نهوض حركات التحرر، حصلت هذه المستعمرات الصومالية على استقلالها وتوحدت"صومالي لاند"مع الصومال في دولة الصومال التي باتت عضواً في جامعة الدول العربية فيما بقي إقليم أوغادين تحت الحكم الأثيوبي وبقيت جيبوتي دولة مستقلة تدور في الفلك الفرنسي كما بقيت منطقة شمال شرقي كينيا تابعة لكينيا، وفي العام 1969 قام الجنرال محمد سياد بري بانقلاب عسكري وشكل حكماً قريباً من المعسكر السوفياتي والرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وأنشأ دولة قوية أصبح لديها في سنوات قليلة رابع أقوى جيش في القارة الأفريقية، لكن تحولت قوتها الى لعبة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، فانقلب سياد بري على السوفيات وطرد خبراءهم من بلاده ليشن في العام 1977 حرباً على أثيوبيا تحت شعار استعادة إقليم اوغادين، ونجح خلال اشهر قليلة في السيطرة على الإقليم، لكن الزعيم الأثيوبي منغستو هيلامريام الذي كان أيضاً حليفاً للسوفيات استعان بحلفائه من المعسكر الشرقي ومنهم كوبا وطرد الجيش الصومالي بعد حرب استمرت سنتين. انعكست الهزيمة صراعاً داخلياً في الصومال امتد بصورة سياسية حتى العام 1991 عندما وقع انقلاب عسكري على سياد بري فدخلت البلاد حرباً أهلية تناهشتها فيها القبائل وزعماء الحروب. مع بداية الحرب الأهلية سارع أهل الشمال الى إعلان انفصالهم عن الصومال وإنشاء دولة"صومالي لاند"التي لم يعترف بها أحد فيما تواصلت الحرب بين القبائل وزعماء الحرب في الصومال الى ان حاولت الأممالمتحدة التدخل فأرسلت عام 1992 قوة دولية لفض الصراع الداخلي لكن أنصار زعماء الحرب هاجموا القوة الدولية ودمروا عدداً من آلياتها وقتلوا العشرات من جنودها، فتدخلت الولاياتالمتحدة الأميركية عام 1993 لمساعدة القوة الدولية غير ان مصير جنودها لم يكن افضل فتعرضت قوات المارينز لنكسة كبيرة عندما وقعت في كمين محكم نصبه لها أنصار زعيم الحرب محمد فرح عيديد وقتل العشرات من الجنود وجرى سحلهم في شوارع مقديشو. انسحبت القوات الدولية والأميركية من مقديشو عام 1994 وتركت البلاد في فوضى عارمة حتى السنة الماضية عندما قام تنظيم المحاكم الإسلامية، ذو النفوذ الواسع وسط قبيلة"الهواية"كبرى القبائل الصومالية، بهجوم كاسح اقتلع فيه أمراء الحرب من البلاد واحكم قبضته عليها ورفض التفاوض على مستقبل البلاد فكان ان تدخلت أثيوبيا بدعم أميركي وأرسلت جيشها لطرد المحاكم الإسلامية من الصومال بذريعة ان المحاكم تشجع الصوماليين في إقليم أوغادين على الانفصال. مقارنة أثيوبيا بسورية حال الاهتراء السياسي والأمني والاجتماعي وغياب الشقيق العربي عما يقوم به جيش أثيوبيا التي ينظر إليها الكثير من الصوماليين على انها العدو التاريخي، أو أنها"الشيطان الذي لا بد منه لإنقاذ البلاد"بحسب ما قال لنا مسؤول صومالي طلب عدم الكشف عن هويته. وعن رأيه بالوجود الأثيوبي في بلاده أجاب"ان سورية شقيقة للبنان وقد لعبت دوراً كبيراً في إعادة بناء مؤسسات الدولة فيه على رغم كل ملاحظات السياسيين اللبنانيين عليها ولكن اللبنانيين في النهاية وبعد قرابة ثلاثين سنة قالوا كفى وسعوا الى سحب الجيش السوري من بلادهم. اليوم وعلى رغم العداء التاريخي بين اثيوبياوالصومال أرسلت أثيوبيا جيشها إلينا وأوقفت الحرب، وهي تحاول المساعدة في بناء مؤسسات البلد الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، فلتفعل ذلك، ولو على الطريقة التي فعلتها سورية في لبنان، وأنا أضمن انها لن تبقى اكثر من 15 سنة في أرضنا". وعن انفصال الشمال وإعلان دولته الخاصة لا يخفي المسؤولون الصوماليون ارتياحهم الموقت لهذه الخطوة ويصفها البعض بالحكيمة لأنها"جنبت جزءاً كبيراً من البلاد ويلات الحرب الأهلية". وكشف المسؤول الصومالي ان مفاوضات تجرى خلف الكواليس لإعادة توحيد البلاد في رعاية أثيوبية. وعند مغادرتنا البلاد صادف ان كان معنا على الطائرة التي أقلتنا من عاصمة"صومالي لاند"هيرغيسا الى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، رئيس"صومالي لاند"ضاهر ريالي كاهن وكانت السجادة الحمراء في انتظاره على ارض المطار من دون مسؤولين كبار أو فرقة تشريفات كما العادة في استقبال رؤساء الدول. لا يخفي الصوماليون احباطهم من العرب وكثير منهم ردد أمامنا القول"لا نعرف ما أهمية وجودنا في الجامعة العربية، فهي لم تلعب أي دور فعال في اي من مشاكل المنطقة من لبنان الى فلسطين الى العراق الى هنا، كما ان القلة من الصوماليين يتحدثون اللغة العربية لأن اللغة الرسمية هي اللغة الصومالية، وتعتبر الإنكليزية اللغة الثانية في مناهج التدريس. اننا مسلمون وفخورون بإسلامنا وانتمائنا الى الأمة الإسلامية أما العرب فلا فائدة ترجى منهم". ويذهب البعض الى معاتبة مصر تحديداً قائلاً:"لقد استخدمتنا مصر تاريخياً فزاعة في وجه اثيوبيا لئلا تتحكم اثيوبيا بمجرى نهر النيل ولكن عندما واجهتنا الأزمات تركنا في البحر الهائج بلا اهتمام من أشقائنا العرب وتحديداً مصر". ومن خلال التواصل مع دوائر القرار في رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء كان لافتاً وجود عدد لا يستهان به من المثقفين الشباب القادمين من أوروبا وأميركا لمد يد العون في إعادة بناء بلدهم، وهؤلاء من المتحمسين الذين يحتلون مواقع استشارية، ولكن، ليس في الإمكان معرفة مدى فعالية استشاراتهم وان كانت ستظهر في القريب العاجل. أغرب المطارات يصعب على من يرغب في زيارة الصومال للمرة الأولى ان يجد طريقاً اليها، فالطائرات التي تصل الى الصومال قديمة تملكها أربع شركات خاصة من جمهورية"صومالي لاند"غير المعترف بها دولياً ومن جيبوتي ومن كينيا، ورحلات هذه الشركات الى مقديشو غير مدرجة في نظام الملاحة العالمي. لذلك لا بد للمسافر من أن يشتري بطاقة السفر بنفسه من مكاتب تلك الشركات. تستمر الرحلة الجوية من أديس أبابا الى عاصمة"صومالي لاند"هيرغيسا نحو ساعتين، ومن هيرغيسا لا بد من شراء بطاقة الى مقديشو على متن طائرة تابعة لشركة طيران خاصة اسمها"دالو". ركوب هذه الطائرة في حد ذاته مغامرة مرعبة، فالطائرة روسية الصنع من طراز اليوشين-18 صنعت عام 1958، يقودها طيار روسي يرتدي بنطلوناً للرياضة وپ"تي شيرت"وحفاية ويطوّق رقبته بفوطة صفراء. سلم الطائرة من الحديد الذي يرفع ويوضع بين المقاعد عند إغلاق أبواب الطائرة، ويوجد مضيفان زوجة الطيار التي تجاوزت الستين من العمر وولدهما الذي تجاوز العشرين، وفريق من ستة فنيين لإصلاح ما يطرأ من أعطال خلال الرحلة. أما أحزمة الأمان فيتم ربطها لأنها قديمة وبالية من يحتاج الى حزام أمان في هكذا طائرة. يشعر المسافر عند وصوله الى مطار مقديشو انه ولد من جديد. وأول ما يراه المسافر على مدرج المطار في مقديشو طائرة من"بيلاروسيا"دمرت جراء الحرب الأخيرة بين القوات الأثيوبية وميليشيات المحاكم الإسلامية، اما مبنى المطار فخال من اي باب او شباك وينتشر حوله وفيه جنود من القوات الأوغندية التابعة للاتحاد الأفريقي وجنود أثيوبيون. وفي داخله ينتشر رجال الشرطة الصومالية الذين لا يلبسون زياً موحداً، فكل يرتدي ما يتوافر لديه من لباس يدل على انه عسكري، فهذا ببنطال عسكري وتي شيرت وذاك بقميص عسكري وبنطال مدني وحفاية. الفوضى عارمة والحقائب تشق طريقها الى عنبر خاص ليصار الى تفتيشها وتسليمها الى أصحابها. ولا تستغرق الرحلة بالسيارة الى الفندق وسط مقديشو اكثر من عشرين دقيقة في طرقات رملية لم تر الإسفلت منذ قرابة العشرين سنة، مليئة بالحفر، تتحرك عليها حناطير بدواليب سيارات تجرها الحمير، وتسرح على هذه الطرقات المواشي من بقر وغنم وماعز والسواد الأعظم من الناس يمضي يسير على الأقدام تحت شمس حارقة. وتنتشر تحت الأشجار على جانبيها مقاه متواضعة عبارة عن كراس بلاستيكية بلا طاولات، ومناقل فحم تعلوها أباريق شاي غير معروفة اللون. أول ما يلفت نظر الزائر في الطرقات هو السيارات التي لا تحمل لوحات تسجيل، وان صادف ورأى أحدها بلوحة تسجيل فتكون اللوحة التي استوردت بها السيارة من دبي ولم يكلف صاحبها نفسه عناء نزع اللوحة عنها، ومن السيارات الحاملة لوحات دبي سيارات الشرطة التي تشبه بركابها والرشاشات الثقيلة المحمولة عليها سيارات الميليشيات أيام الحرب الأهلية. كما يلفت نظر الزائر عدم وجود محطات بنزين، فهذه المادة توزع بصهاريج صغيرة تجرها الحمير او في غالونات عند الباعة في الشوارع. ولأننا الصحافيون الوحيدون الذين زاروا الصومال بعد دخول القوات الأثيوبية إليها، كانت السلطات مهتمة بأمننا اهتماماً ملحوظاً، إذ نصحتنا بالمبيت في فندق يقع داخل المربع الأمني التابع لمؤسستي الرئاسة ورئاسة الوزراء والسفارة الأثيوبية الجديدة في مقديشو، وهو كان في غابر الزمان فندق خمس نجوم لا تزال النعمة بادية عليه، بالموكيت البالي على أرضه والغرف الواسعة فيه والمزودة مكيفات قديمة، لكن الحشرات على أنواعها تنتشر في غرفه بكثافة. لا يحتاج الزائر الى أكثر من ساعات قليلة حتى يكتشف حجم المغامرة التي خاضها بالذهاب الى الصومال، فعناصر الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية هم تجميع لرجال الميليشيات الذين تحاربوا ست عشرة سنة وليس بينهم من يعرف معنى الدولة، لذلك كان بديهياً ان يتعرض فريقنا الصحافي لمحاولة خطف من مجموعة مسلحة ابلغنا لاحقاً انها تابعة لما يسمى فرع"مكافحة الإرهاب"في الشرطة، بذريعة معلومات تفيد اننا من تنظيم"القاعدة"الأصولي. وقد كان أحد مساعدي رئيس الوزراء الصومالي طوق نجاتنا من محاولة الخطف داخل مطعم الفندق، بعد ان عرّف عن نفسه واجبر المسلحين على الخروج بعد المعاملة الفظة التي عاملونا بها والإرهاب الذي مارسوه علينا. ولم يخف مضيفنا مخاوفه الأمنية علينا بعد الحادث إذ قال إن هؤلاء المسلحين بحسب تقديره كانوا يهدفون السرقة وبعدها يمكن ان يقتلونا ويرمونا في شارع ما، ومن الطبيعي ان يتهم بقتلنا مسلحو المحاكم الإسلامية"النائمين"، لكنه وعدنا بعد الحادث بإيجاد مرافقة أمنية لنا من جنود ثقة لخشيته من ان يبيعنا المرافق ان لم يكن أميناً.