يذكر كثر من الذين شاهدوا فيلم"المهنة... مخبر"لميكائيل انجلو انطونيوني أواسط سبعينات القرن العشرين ان الديكور الأكثر غرابة الذي ظهر في بعض مشاهد الفيلم، كان ذاك الذي ظهر فيه سطح بناية بدا من التأرجح والبعد الخيالي الى درجة ظن معها المتفرجون انه مبني خصيصاً للفيلم، اذ لم يخطر في بالهم انه سطح حقيقي لمبنى يعتبر مفخرة من مفاخر الهندسة العمرانية، ليس في مدينة برشلونة الاسبانية التي تحتضنه وحدها، بل في طول أوروبا وعرضها. في تلك السنوات لم تكن كثرة من الناس قد سمعت باسم المهندس والفنان الاسباني انطونيو انطوني غاودي. ولكن بعد ذلك، وبفضل سقوط نظام دكتاتورية فرانكو في اسبانيا، بدأ الناس بالتدفق بعشرات الملايين الى هذا البلد لزيارته، كما بفضل الفورة التي راح يعرفها كل ما هو اسباني في العالم، صار اسم غاودي على كل شفة ولسان. واشتهرت تلك الأبنية الرائعة والعجيبة التي تتمركز خصوصاً في برشلونة، وأقل من ذلك في مدريد وغيرها من مدن اسبانيا، والتي أنفق غاودي حياته يبنيها، ومن أشهرها الآن بالطبع كنيسة"ساغرادا فاميليا"في برشلونة أيضاً، التي تبرز اليوم تحفة معمارية استثنائية على رغم ان المهندس غاودي لم ينجزها قبل موته، بل انها لم تنجز حتى اليوم. ونعرف أن"ساغرادا فاميليا"العائلة المقدسة ليست الأثر الوحيد الرائع الذي تركه غاودي. بل ان"مبنى ميّا"الذي صور جزء من"المهنة... مخبر"فوق سطحه، يكاد يكون أكثر شهرة. بل لعله واحد من أشهر المباني السكنية في العالم كله، مع انه من ناحية وظيفته، مبنى سكني عادي، وهذا الواقع لم يمنع منظمة الأونيسكو من تصنيفه مبنى أثرياً لا يجوز احداث أي تغيير في شكله أو جوهره. يقع مبنى ميّا أو ميلا... بحسب اللهجة التي تنطق بها، عند الرقم 92 جادة غارسيا في المدينة الاسبانية العريقة عاصمة اقليم كاتالونيا... وهو بني في الأصل لحساب الثري الفونسودي ميلا، خلال العامين 1905 وپ1907... ليكمل نهائياً في سنة 1910. ولئن كان هذا المبنى ينتمي من ناحية أسلوبه الى ما يسمى بپ"الآر نوفو"الفن الجديد، فإنه ينتمي أيضاً الى ما ابتدعه غاودي نفسه من أسلوب قوطي محدَّث. غير أن هاتين النزعتين لا تكفيان في الحقيقة لوصف هذا المبنى الغرائبي والذي يتميز بتموج في جدرانه وسطحه وشرفاته ولا سيما بواجهته. ولئن كان في وسعنا أن نقول ان أسلوب البناء الذي اتبعه غاودي هنا مبتكر ومن الصعب ايجاد سابقاً له في العمارة الأوروبية، فإن في وسعنا في الوقت نفسه أن نقول إن غاودي يبدو فيه وقد تأثر بتلك المآوي الأفريقية التي كان بعض القبائل اعتاد حفرها واقامتها في الكهوف والتلال الصخرية، ناهيك بما يذكره الكاتب الاسباني المستعرب خوان غويتسولو، الذي وضع دراسة فلسفية - استشراقية معمقة عن فن غاودي العمراني، من أن ثمة في هذا المبنى، وغيره من أعمال غاودي ما يحيل الى البيوت الكهفية - الصخرية المنتشرة في منطقة كابيدوس في أواسط تركيا. اذاً، سواء كان المصدر الأساس أفريقياً أو كان تركياً، من الواضح أن أنطونيو غاودي انما سعى هنا الى النهل من تراث عمراني بدائي عثر على فوائده وجمالياته، فأضفى عليها تحديثاً ليوظفها في نمط جديد من الحياة العمرانية السكنية. وهو ما سيحاوله نفسه، لاحقاً، وان في مجال آخر وحيز جغرافي آخر، المعماري المصري الكبير حسن فتحي حين جرب المزاوجة بين القديم والجديد في بيوت قرية القرنة التجريبية. والحقيقة أن غاودي نجح كثيراً في وقت أخفقت فيه تجارب حسن فتحي، ولأسباب لا تتعلق بموهبته بل ببيئته كما يروي لنا هو نفسه في كتابه الرائع"البناء مع الشعب"لكن هذه حكاية أخرى ليس هنا مكانها بالطبع. ونعود هنا الى أنطونيو غاودي، لنشير الى أن كثراً من الذين يعرفون مبناه هذا ويحبونه يشبهونه، في شكل عام، بالكثبان الرملية، وأحياناً بأكوام الطمي، أو المواد البركانية الزاحفة. وفي الأحوال كافة ينسف هذا المبنى، الذي أُعطي غاودي حرية مطلقة في بنائه، ينسف منذ ذلك الوقت المبكر - أوائل القرن العشرين - كل الأساليب والتقنيات العمرانية المتعارف عليها، علماً أن الجزء الأغرب من المبنى هو سطحه الذي يبدو، بحسب الباحثين أشبه بپ"بيداء تنتمي الى عوالم الحلم". ومهما يكن من أمر فإن كثراً ينظرون الى هذا المبنى على أنه منحوتة متكاملة متعددة الأجزاء، أكثر منه مبنى سكنياً. حتى وان كان ثمة من بين هؤلاء الكثر من ينتقد المبنى بسبب أن معظم ما فيه يقع خارج أي وظيفة اجتماعية، ما يجعله يبدو منتمياً الى عالم"الفن للفن"أكثر من انتمائه الى علم السكن ووظيفته الاجتماعية. غير أن المبنى نفسه لم يعبأ بكل هذه الانتقادات بل بقي في مكانه علامة أساسية من علامات التحديث العمراني، كما علامة أساسية من علامات الاستحواذ على وظائفيات اجتماعية أو بيئوية قديمة ومن ثم اعطائها وظيفة جديدة اجتماعية ولكن جمالية أيضاً. والطريف أن أهل برشلونة في ذلك الوقت المبكر من العصر الحديث كرهوا المبنى كراهية حقيقية وراحوا يطلقون عليه نعوتاً والقاباً شديدة القبح، بعضها لا يزال ملازماً للمبنى حتى اليوم. ومنها لقب"لا بدريرا". وكثيراً ما شبه البرشلونيون واجهة المبنى بأفعى تسير متموجة من أعلى الى أسفل. ولكن لاحقاً، ومع تكاثر الأبنية التي حققها غاودي في برشلونة وصولاً الى مبنى"العائلة المقدسة"، اعتاد الأهالي على المبنى، بل انه صار واحداً من علامات مدينتهم ومعالمها مع ازدياد اعجاب العالم الخارجي به وبفن انطونيو غاودي في شكل عام. ولاحقاً، خلال العقود التالية من القرن العشرين، وفي وقت راح يترسخ فيه وجود مبنى"ميلا"في برشلونة ويتدافع الزوار والسائحون لمشاهدته جزءاً جزءاً، كان يكفي أهل برشلونة أن يتجولوا في العالم الخارجي كي يشاهدوا بأم أعينهم، بعض كبار معماريي القرن العشرين يبدون، في بعض أروع مشاريعهم المنفذة، تأثراً واضحاً وأحياناً معلناً من دون مواربة - بعمران غاودي هذا. ونذكر من بينهم هنا، بحسب الدراسات المتخصصة: اريك مندلسون في تشييده برج اينشتاين في مدينة بوتسدام الألمانية سنة 1921، وفرانك لويد رايت في تشييده متحف سولومون ر. غوغنهايم في مدينة نيويورك، ولوكور بوزييه حين شيد كاتدرائية"نوتردام دي أو"في رونشوم في فرنسا، وخصوصاً الفنان والمعماري النمسوي هوندر تفاسر، في تصميمه المباني المعروفة باسمه في النمسا، بل في أعماله كلها بشكل اجمالي. أما أحدث المباني التي بنيت انطلاقاً من تموجات غاودي فمبنى"قاعة ديزني للكونسرت"في لوس انجليس من تصميم المهندس فرانك جيري. بقي أن نذكر في هذا المجال أنه على رغم أن مبنى"ميلا"مبنى سكني، فإن الداخل الى طابقه الأول حيث ثمة معرض عمراني دائم والصاعد الى سطحه مضطران الى دفع رسم معين مقابل الزيارة. أنطونيو انطوني غاودي أي كورنيت 1852 - 1926، كان حين حقق هذا المشروع العمراني القريب، في أوج فنه وشهرته. وهو على رغم انه يحمل الجنسية الاسبانية، لا يعتبر نفسه سوى كاتالوني، على غرار معظم أهل هذه المقاطعة الشمالية الغربية الاسبانية التي لها لهجتها الخاصة وذهنيتها الخاصة أيضاً. وهو ولد في بلدة تاراغونا، غير بعيد من برشلونة نفسها. وهو في طفولته كان من الضعف بحيث لم يكن قادراً على المشي، وكان يستخدم حماراً في تنقلاته. ومن هنا فإن بقاءه غير بعيد من منزله وحيّه، جعله دائم التأمل في الأبنية وخصوصياتها، فكان من الطبيعي أن تنفتح مواهبه على الرسم والتصميم. ومن هنا اتجه لاحقاً الى دراسة الرسم والهندسة، ما جعل العمران والتصميم مهنته طوال حياته، التي حقق خلالها عشرات المشاريع العمرانية التي يبقى أهمها تلك الموجودة حتى الآن في برشلونة نفسها، ومنها اضافة الى ما ذكرنا"كازا فيتنس"وپ"حدائق غويل"وپ"كازا باتلو"وپ"كازا كالفيت"وپ"كلية تريزياناس".