"إن غاية مباحثي الجمالية هي العثور على الحقيقة ليس من خلال مظاهر الأشياء بل من خلال التفاعل الحميم مع روح الأشياء"قول مأثور للفنان الفرنسي جورج سير Georges Cyr الذي يدخل في عداد المؤسسين للحداثة التشكيلية في لبنان، لمناسبة اقامة معرض ضخم لأعماله، في فيلا عودة الأشرفية - بيروت تضمن 93 لوحة زيتيات ومائيات وسيريغرافي ورسوم فحمية جُمعت من مقتنيات قرابة أربعين مجموعة خاصة من نخبة المجتمع اللبناني الفرنكوفوني، فضلاً عن الصور الوثائقية التي تجمع جورج سير الى طلاب محترفه في عين المريسة ورفاق دربه وأصدقائه من المثقفين والفنانين اللبنانيين. كان نافذة لبنان على الثقافة الفرنسية، في الحقبة المتأخرة من الانتداب الفرنسي وامتداداً الى أواسط الستينات من القرن الماضي، وصفحة مشرقة من ماضٍ ليس ببعيد، امتد طوال ثلاثين عاماً منذ إقامته في ربوع لبنان العام 1934 الى وفاته العام 1964 تاركاً إرثاً من الأعمال تجاوز ثلاثمئة لوحة. مع جورج سير ترتسم إشارات العلاقة الفنية المثمرة بين الشرق والغرب. يقول سير بأن أعماله اغتنت من تأثير لبنان، وتفاعله مع الحياة الثقافية والطبيعة الغنّاء من حوله، حتى لقّب بپ"عميد عين المريسة"لشغفه بمناظر البحر والمراكب والبيوت البيروتية والحياة الداخلية الحميمة التي ظهرت في تصوير جلسات الأصدقاء. في حين ان شخصية المبشر بالحداثة تجلت في تنظيمه المعارض الفنية في المراكز الثقافية في بيروت وتحويل صالة فندق السان جورج الى قاعة عرض فنية. فقد علّّم كيفية الانفتاح على العصر، كما رفع من قيمة تذوق الفنون المعاصرة مشجعاً تلاميذه على الاختصار والتلطيخ اللوني بجرأة لم تكن معهودة من قبل. من الوهلة الأولى يدرك الزائر للمعرض، بدء المرحلة اللبنانية في فنه من الألوان المشرقة والحارة التي سيطرت على ملوناته، على نقيض الألوان الداكنة التي طبعت مناخات لوحاته في الحقبة الفرنسية التي سبقت مجيئه الى لبنان، والتي راوحت ما بين واقعية كوربيه وأسلوب ما بعد الانطباعية. ولئن تأثرت أعماله في العقد الأول من إقامته اللبنانية بموضوعات الانطباعيين اللبنانيين، كالمناظر البحرية والريفية والوجوه الإنسانية والموضوعات الفولكلورية التي تنم عن عادات وتقاليد محلية، غير أنه بدءاً من الآخر الثلاثينات أدخل ثورة التكعيبية في تجزئته للأشكال مبشراً بأسلوب جديد في قطف الواقع، مبنيّ على ضربات لونية تلقائية وفورية من الريشة الى القماش متخلياً عن الخط. فالفراغ هو لعبة سير في علاقته بعناقيد اللمسات اللونية، لا سيما في المائيات. أما طريقة التعقيب المتوازي للطخات اللون، فهي شبيهة بأسلوب معلم الاكس- ان بروفنس سيزان الذي ينصح بمعالجة الطبيعة من خلال الكرة والاسطوانة والمخروط. يقول سير انه أدخل الزخرف الشرقي على مبدأ التكعيبية لقوة إحساسه باللون والعناصر، وهذا هو مكمن التجديد والاختلاف عن التكعيبية في أوروبا. جورج سير من مواليد العام 1881، نورماندي الأصل، بعد إقامة عابرة في شمال فرنسا، عاد الى مسقط رأسه واستقر في روان، وهناك ساقه القدر الى عالم الفنون الذي لم يبرحه قط بعد ذلك، على رغم دراسته القانون إذعاناً لمشيئة والده. أقام مزرعة في النورماندي حيث أنشأ فيها محترفه، فطبع كل من اوجان وفرنسوا دينوايي وكاميل بيسارو بداياته. وهناك التقى بول كلي وبونار وبيكاسو وفلامنك وماتيس ودوران الذين ربطته بهم أواصر الصداقة. بعد معارض متتالية أقامها في روان، وجد جورج سير انطلاقته في باريس حيث صُنّف من بين رسامي مدرسة باريس الناشئين، وانتُخب شريكاً في جمعية رسامي"صالون دو باري"وبدأت أعماله تدخل الى عالم المجموعات الكبرى. غير ان رحيل من صنعوا شهرته ساهم في اختياره الابتعاد من فرنسا، لا سيما بعد وفاة زوجته الشابة كريستين وطفلته وصديقه تاجر اللوحات شارل فيني. وبحثاً عن النسيان والعزلة لمداواة الآلام النفسية والجسدية، توجّه جورج سير الى بيروت بناء على نصيحة أحد أصدقائه الفرنسيين، لكي يستقر نهائياً في لبنان منذ العام 1934، من دون ان يقطع صلته كلياً بفرنسا، بل دأب على إقامة المعارض بانتظام في غاليرهات باريس. وباستقراره في عين المريسة على شاطئ بيروت، تعلق جورج سير حتى الرمق الخير بأرض الفينيقيين لما وجده في الطبيعة اللبنانية وما لمسه لدى أصدقائه الأوائل من حرارة استقبال وتعزية ومؤاساة، ولكي يندمج اكثر بالأرض المضياف التي استقبلته ذهب جورج سير الى حد ارتداء العباءة وهي الشاهد على أناقة الزيّ الشرقي التقليدي. وقد أرّخ الفنان عمر الأنسي لمظهر سير بالعباءة في رسمٍ ذيّله بعبارة"سير الراهب"وكان الأنسي في الحقبة نفسها قد فقد زوجته الفرنسية ووجد في صداقة سير العزاء لتشابه المُصاب الأليم الذي منيا به. منذ السنة الأولى لإقامته في بيروت العام 1934، راح جورج سير، الرسام والناقد الفني، يثير الاهتمام بالفن المعاصر من على أعمدة الصحافة اللبنانية، فيحض الطبقات الاجتماعية الثرية على التخلي عن تحفظها واقتناء أعمال من الفن الحديث على نحو غير متصل بالوجاهة الاجتماعية فحسب. ويقال إن سير أمطر بيروتيي الخمسينات والستينات بالمقالات والتحقيقات المصورة حول الرسامين الفرنسيين. وكان تعليم الفن في بيروت وقتئذٍ يتسم بالطابع الأكاديمي التقليدي، فعمد الى تنشيط المعارض، وأخذ أصحاب المجموعات اللبنانية يُقبلون على شراء لوحات لغوغان وفلامينك وسواهما. وتضمنت المعارض التي نظمها سير مجموعات لفنانين لبنانيين وفرنسيين، أخذ يقدمها كل من غبريال بونور والشاعر صلاح ستيتيه. وقد استرعى انتباهه فنانون لبنانيون كثر من أمثال عمر الأنسي وجان خليفة وايلي كنعان وعارف الريّس ورفيق شرف. وفي أحد مباحثه عن الفن الراقي قال سير عن بول غيراغوسيان"إنه من أمهر الرسامين في لبنان". ومن دارته في عين المريسة التي دكتها معاول الهدم في العام 1967، كان يتأمل البحر وشمس لبنان التي كان يحتاجها كي يضفي على لوحاته هالة من نور لا تزول. عكس جورج سير في أعماله وجوه شخصيات عصره، من أبرزهم الشاعر جورج شحادة وهو معتكف في مكتبه، بما يذكر بلوحة مانيه لصديقه الكاتب اميل زولا، ومن إيحاءات مانيه أيضاً تطل لوحة بارعة لسير سماها"الأصدقاء"ما هي إلا رؤية محدثة للوحة"غداء على العشب". فالانفتاح على الحياة العامة شكل نهجاً اتبعه سير في استقائه لإلهاماته المباشرة، فضلاً عن الموضوعات التي زاولها التكعيبيون، ويأتي في طليعتها"لاعبو الورق"والمناظر الطبيعية البحرية والريفية والطبيعة الصامتة، من داخل رؤية محلية شغوفة بالطراز اللبناني في العمارة.