رحلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة ليل الأربعاء - الخميس عن أربعة وثمانين عاماً في القاهرة التي اختارتها بدءاً من العام 1990 منفى طوعياً، بعدما ضاقت في وجهها ظروف الحياة في بغداد. جاءت الى القاهرة مريضة من جراء الاكتئاب الذي ألمّ بها ولزمت منزلها ثم الفراش طوال سنوات. ولم تكن تقابل سوى الأقارب، ثم اشتد عليها المرض فانقطعت عن العالم، حتى ظن الكثيرون أنها رحلت. والضجة التي أثيرت اخيراً حول معاناتها المادية هي التي أعادت اسمها الى الذاكرة فتذكّر الجميع انها ما زالت حية. راجع ص 16 لكن نازك الملائكة، الشاعرة الرائدة والناقدة يصعب أن تُنسى لا سيما بعدما دخلت "تاريخ" الشعر الحديث من باب الريادة وشكّلت دواوينها التي تناهز التسعة"تراثاً"حداثياً مستقلاً بذاته. ولا تُنسى ابداً المعركة التي دارت بينها وبين زميلها في دار المعلمين العليا في بغداد الشاعر بدر شاكر السياب حول القصيدة الحرة الأولى. وكانت تعتبر انها السباقة الى كتابتها عبر قصيدتها"الكوليرا"التي نشرتها مجلة"العروبة"البيروتية لصاحبها الشاعر اللبناني محمد علي الحوماني في 1/12/1947، فيما كان السياب الذي يصغرها ثلاث سنوات يقول ان قصيدته الحرة"هل كان حباً؟"ظهرت في ديوانه الأول"أزهار ذابلة"الصادر في القاهرة منتصف العام 1947. حينذاك دار سجال واسع حول هذه الريادة شمل العالم العربي وشارك فيه ايضاً شعراء آخرون قالوا انهم سبّاقون الى كتابة الشعر الحر. إلا ان نازك ما لبثت ان اعترفت لاحقاً عندما احترفت"مهنة"النقد أن بضعة شعراء كتبوا القصيدة الحرة في مطلع القرن الماضي. لا تكمن اهمية الدور الذي أدته نازك الملائكة في حركة الشعر الحديث في تجديدها الشكلي أو الإيقاعي فحسب، على رغم الثورة العروضية التي أحدثتها، منطلقة من إحساسها الموسيقي العميق، هي التي درست الموسيقى في كلية الفنون واحترفت العزف على العود. بل ان ما يميز شعرها ايضاً هو انفتاحه على قضايا وجودية وشؤون فلسفية ذات بعد وجداني، وعلى أسئلة الحياة والموت. ولم يكن مفاجئاً ان يحمل ديوانها الأول عنواناً رومنطيقياً هو"عاشقة الليل"1947، فالليل كان أنيسها هي الشاعرة المتبرّمة بالحياة المفعمة بالألم والإبهام، والمتشائمة والعاجزة عن استيعاب المآسي البشرية. ولعل ديوانها الثاني"شظايا ورماد"1949 رسّخ هذا الطابع الكئيب والسوداوي الذي وسم قصائدها الأولى، وقد تضمن قصيدتها"الكوليرا"التي كانت كتبتها كرد فعل إزاء مأساة مرض الكوليرا الذي فتك العام 1947 بأهل الريف المصري. إلا ان الشاعرة لن تتوانى في ديوان مثل"شجرة القمر"الصادر العام 1968 عن خوض التجربة السياسية ناظمة قصائد حماسية عن فلسطين والوحدة العربية والثورة العراقية التي عرفت بثورة الثالث عشر من تموز يوليو 1958. وبعد هذه المرحلة تستعيد الشاعرة إيمانها في مواجهة أحوال الكآبة والتشاؤم والقلق، وتكتب خلال شهر رمضان 1974 قصيدتها الإسلامية الشهيرة"زنابق صوفية للرسول"وقد ضمّها ديوانها"يغيّر ألوانه البحر". يصعب حقاً اختصار عالم نازك الملائكة والمراحل التي اجتازتها نظراً الى رحابة هذا العالم وتداخل تلك المراحل. واللافت في مسارها الشعري الحداثي انها لم تتخلّ عن القصيدة العمودية على نحو مطلق، فمعظم دواوينها عرفت حالاً من"التعايش"بين الشعر الحر القائم على نظام التفعيلة والشعر الكلاسيكي القائم على وحدة البيت، لكنها تظل شاعرة التجديد، في الإيقاع والبنية. اما نازك الناقدة فكانت الوجه الآخر للشاعرة: ناقدة صارمة ذات منهج شبه أكاديمي، تناقش وتساجل وترفض وتنتقد بشدة أحياناً. وكتابها الشهير"قضايا الشعر المعاصر"ما برح واحداً من المراجع المهمة التي لا بد من العودة إليها لقراءة النظريات والمفاهيم التي رافقت ثورة الشعر الحر. رحلت نازك الملائكة بعد سنوات طويلة من المرض والعزلة، رحلت كما لم تتمنّ يوماً، بعيداً من بغداد مدينتها التي حملتها في القلب وصانتها من عبث العابثين ومن الجرائم التي شوهتها وما زالت.