ما نشهده لا ينفع فيه أن يحاط بإطار من الشروح والتحليلات التي ترّد هذه أو تلك من الأحداث إلى عوامل ظرفية محددة. ما يجري هو مظاهر جلية على تفسّخ أو تعفن الجسم الاجتماعي. ليس ما يحصل اليوم من عنف منقطع النظير في العراقوفلسطينولبنان منعزل عما حصل بعنف لا يقل عنه في الجزائر، وعما هو معتمل في كل الأماكن الأخرى وإن تحت أشكال ومسميات شتى. يكفي لندرك ذلك تفحّص القيم السائدة. إنها أولى الروائح التي يستدل منها على العافية أو العفن! ما معنى أن يصبح وسطاء صفقات السلاح ومروجي المخدرات أو المواد الغذائية الفاسدة وتجار كل أنواع"القوادة"بعض أعيان الأمة، بعض نوابها ووزرائها فعلاً، وعلى أية حال بعض وجهائها المتنطحين لتلك المناصب ولغيرها، بدلالة احتلالهم واجهة المجتمع بلا حرج من أي نوع، وإثارتهم الإعجاب العام بهم لشطارتهم وهي هنا تعني فحسب النجاح في تكديس الأموال، وتسابق الناس إلى الاقتداء بهم، كل على مستواه، مما يترجم بانتشار ممارسة للعلاقات الاجتماعية اليومية منفلتة من أي ضوابط سوى تلك العائدة للقنص. فيتحول كل واحد إما إلى مسكين إذا استنكف وهم قلة، أو إلى صياد دائم للآخرين. وليس المهم إن كان البعض ضحايا البعض الآخر. فالضحية التي تصنف كذلك لأنها فشلت في قنصها وخسرت، هي رغم بؤسها تتبنى تلك القيمة السائدة وبالتالي تنتمي إليها. ثم، وبمقاربة لا يحركها بتاتاً الاعتبار الأخلاقي كجوهر مطلق، وهو حينذاك لا يمكن إلا أن يكون رياءً، ما دلالة هيمنة السخافة والانحطاط الفكريين على أغلب ما تذيعه وسائل الإعلام لدينا، على أغلب ما يتم تداوله من كتب وأشرطة مسجلة رخيصة، وبعضها"مدني"، والمقصود أنه لا يستند في ممارسة ابتذاله إلى عالم الدين، بينما بعضها الآخر - كثيره - يدّعي الانتساب إلى الإسلام، وهو هنا لا يقل ابتذالاً ولا إباحية عن سالفه! فإن تركنا جانباً الترهات من نوع تلك"الفتوى"حول إرضاع الموظفة لزملائها في العمل ليحق لها مخالطتهم، وكل ذلك العالم القائم على النقاش حول حميميات الحياة اليومية، لوقعنا مباشرة في المستوى الثاني من الانحطاط، أي تلك الأقوال الشائعة والبرامج المتكررة التي تنضح بطائفية بدائية. وكمثال، أجاب"شيخ"في إحدى القنوات التلفزيونية الفضائية الأساسية عن سؤال أحد المشاهدين حول نيته الزواج من فتاة تحمل كل المواصفات اللازمة:"لكنها"شيعية، بالصراخ والقول:"لا ننكح نساءهم ولا نأكل طعامهم ولا نصلي على موتاهم"، ولم تقم الدنيا وتقعد، ولم يعتذر احد! ولا شك انه بالإمكان الوقوع على أمثلة مشابهة لدى"الفريق الآخر". إن تحقيقاً صحافياً أو سوسيولوجياً حول الكاسيتات التي يسمعها الناس أو حول ما يقرأون حين يقرأون، ولنتذكر أن القرّاء نخبة فالأميون بالمعنى الحرفي هم الأكثرية، ومشاهدة متّصلة لبرامج التلفزيونات، وبخاصة منها المحلية حيث الالتصاق بالواقع أكبر، أو جولة على مواقع الانترنت تكفي لتبيّن مبلغ العطب: اتساعه وعمقه. هل بعد ذلك تفاجئنا حقاُ سياقات أحداث لبنانوفلسطينوالعراق، ومنها ما حدث هذا الأسبوع بالذات؟ هل حقاً يفاجئنا أن يتجاهل الناس مناشدات مراجعهم الدينية، آية الله السيستاني والسيد مقتدى الصدر، وهي كانت فورية وواضحة بلا أدنى لبس، تصنّف تفجير مآذن مرقد الإمامين العسكريين في سامراء كوسيلة لافتعال الفتنة. يتجاهلونها ويعمدون إلى الفتنة بالذات، أي إلى أضرام النار في مساجد يصلي بها"السنة"في العراق؟ في العام الماضي أدى تفجير قباب المرقد إياه إلى موجة من العنف الطائفي منقطعة النظير والى مذابح وضعت العراق على أبواب حرب أهلية، وتطهير طائفي للمناطق، وهجرة هائلة الحجم، وبؤس مضاعف، هذا إذا كانت المضاعفة ممكنة، وضياع لمعنى كل شيء، بما فيه فعل مقارعة الاحتلال. ها هي السنون تمر وراء السنين ولا يحدث التلاقي اللازم بين التيارات المناهضة للاحتلال، سنية وشيعية وقومية ويسارية. كيف تكون وطنية إنْ لم تتلاق؟ كيف تولد حركة تحرر وطني؟ وهذه لا تولد آلياً جراء وقوع عمليات مقاومة ضد جنود الاحتلال، ولا تكفي العمليات لقيامها، بل تحتاج إلى خطاب وطني، أول عناصره تصوّر يمثّل توافقاً مجتمعياً، يقول رأيه بوضوح في"العملية السياسية"التي يديرها الاحتلال بالتقاسم مع إيران التي تستخدم العراق ساحة خلفية لمناوراتها كدولة عظمى إقليمية، كما يصفّي الحساب مع فترة الديكتاتورية التي نخرت الجسد الاجتماعي للعراق والتي من السذاجة أن يُفترض أن أفولها يكفي لقلب الصفحة، ثم يطرد، ثالثاً، من صفوفه هؤلاء المشبوهين الذين يقول عنهم الرئيس بوش أنه استدرجهم عمداً إلى العراق ليحوّله إلى ساحة للحرب على الإرهاب... كل هذا على الأقل! وبغيره لا يمكن أن تستقيم الأمور. هل حقاً يفاجئنا ما يجري في غزة؟ وقوع حماس في فخ الصراع على السلطة ? أيّ سلطة يا قوم؟ والدرجة غير المسبوقة، حتى فلسطينياً، من تزاوج الانتماء السياسي والعشائري، بحيث لا يعود واضحاً أيهما أساس الآخر؟ وتحوّل هؤلاء الشباب العاطلين عن العمل والجوعى الذين يكتظ بهم القطاع، إلى أدوات ووقود لصراعات تافهة وعبثية، يحركها أمراء حرب طامحون إلى نفوذ لا يقل تفاهة وعبثية. هل كان يمكن لوجود تناقضات غير معالجة أن يولّد غير ذلك: شطب إسرائيل للقيادات التاريخية التي راكمت خبرة وحكمة رغم كل ما يمكن أن يقال من نقد حيالها، وبقاء أماكنها فارغة نتيجة العنف المستمر للاحتلال وأيضاً نتيجة عطب تاريخي في آليات الحياة السياسية الفلسطينية، واستشراء الفساد في بعض الأطر القيادية للسلطة وحركة فتح وحتى منظمات ما يقال له المجتمع المدني، التي انفصلت تماماً عن واقع الحياة اليومية للفلسطينيين وشكلت"طبقة"عاقبها الناس بالتصويت لحماس، وانسداد الأفق التام أمام التسوية السياسية التي نهضت عليها خريطة فلسطين منذ 1993 على الأقل، دون توليد بديل لها، بل الاكتفاء بتكرار بليد لمناشدة المجتمع الدولي بتطبيق قراراته! هل نطرح المقدمات ثم نتوقع لها نتائج مناقضة لما هي عليه؟ أم هي الفوضى الذهنية تطبع اليوم بُنانا، وليس فحسب الفوضى الاجتماعية وفوضى السلاح. هل حقاً يفاجئنا ما يجري في لبنان؟ ذلك الصمم المستشري، تلك المتاريس النفسية العالية وهي من شروط الحرب الأهلية. سورية تعبث بأمننا؟ أو إسرائيل أو الولايات المتحدة؟ هل نوقشت خطة بديلة للاستقطاب/الانقسام العمودي الجامد الذي يتحكم بالحياة السياسية اللبنانية منذ سنتين على الأقل، ويزداد تفاقماً؟ هل، على الأقل، ناقشها كل فريق على حدة واستنتج ما ستؤول إليه الأمور؟ هل وضع النتائج في حسابات حركته الراهنة؟ هل يتحمل مسئوليتها أم يعتمد في محوها على فقدان الذاكرة وغياب تقليد المحاسبة، وعلى فوضى لن تبقي مجالاً لمساءلة، وعلى ضياع المقاييس بدلالة وجود كل أمراء الحرب السالفة وجزّاريها كزعماء للبنان اليوم. ثم، هل نردد أن لبنان لا يُحكم بالإخضاع والغلبة ثم نمارسها كل يوم؟! أين الشباب، أصحاب المستقبل... لا يلتحقون بالماضي المتكرر، أين النخبة المثقفة...لا تخدم المنظومة السائدة؟ فات الأوان على العراقوفلسطين... حتى إشعار آخر، وها هو يفوت رويداً على لبنان. وسائر أعضاء ذلك الجسد سوف تلي.