تستدعي التجربة التركية، لغناها بالمشتركات مع جوارها العربي والايراني، التأمل في محنة العلمانية... أي المشتركات: - التنوع الاثني والديني والمذهبي وما يطرحه من أعباء إضافية على عملية الإنصهار الوطني. - المشكلات التي تثيرها الثقافة الاسلامية المهيمنة في وجه الايديولوجيات الحديثة ومستويات متقاربة من المغنطة الجذب/ النبذ يحتفظ بها المخيال الجمعي حيال الغربين: الأوروبي والأميركي والتوقيت المتقارب للاستيقاظ على حال الفوات التاريخي، وانزلاق العلمانية الى موقع أقلوي بالمعنى الاجتماعي أو الديني او المذهبي. إلا أن ما يميز التجربة التركية استمرارية بقاء العلمانية كأيديولوجيا مسيطرة داخل المؤسسة العسكرية, بفعل قوة الدفع التي منحها إياها ارتباطها منذ البداية بمشروع التحرر الوطني الذي قاده أتاتورك بعد انهيار الامبراطورية العثمانية. لم يقيض للعلمانية في العالم العربي وايران أن تلعب هذا الدور التأسيسي لدولة الاستقلال, بل تسللت على نحو اضطرت فيه لأن تدلس على محتواها, وتمارس القص واللصق تحت ضغط الحفاظ على البقاء بأي وسيلة. إلا أن بيضة القبان في افتراق التجربة التركية عن جوارها العربي - الإيراني، الإنغراس التدريجي لصندوق الإقتراع في تربة العلمانية التركية. يشير هذا التمايز الى ارتباط مصير البدائل الأيديولوجية بمستوى قدرتها على انتاج ما يسميه الفلاحون بالثمار الباكورية. فالمجتمعات كما الأفراد يصعب عليها مفارقة ما تعودت عليه, إن لم يطرح الجديد قطوفاً مبكرة. ولعل الفك المبكر لزمالة الطريق بين العلمانية والديموقراطية في التجربة العربية بصعود العسكر الى السلطة - على رغم الإنجازات التي حققها على مستويات إعادة توزيع الثروة وكسر التراتبية الطبقية الموروثة عن المرحلة العثمانية وتعميق التحول الرأسمالي بإخراجه من وضع التشرنق داخل المدينة الى الأرياف والبوادي وغيرها، يتحمل معظم المسؤولية عن الأزمة الراهنة. لعل المشهد العراقي الراهن إذا جربنا انزال مسؤوليته عن مشجب الاحتلال, سيظهر على حقيقته كعينة مما آل اليه اجتماعنا بفعل الشرخ الذي أحدثه العسكر قبل نصف قرن بين العلمانية والديموقراطية. ومن هذه الزاوية يتبدى حجم المسؤولية - الأخلاقية على الأقل - التي يتحملها الرعيل الراهن من ورثة الاستبداد العلماني في العالم العربي. لا توجد أوهام عن جاهزية مجتمعاتنا العربية لتشغيل صناديق الاقتراع بطريقة مثمرة. لقد تبخرت هذه الأوهام على نار الحرب الأهلية العراقية التي يتعفف الجميع من تسميتها بهذا الإسم تطيراً أو تكاذباً، الا أن هذا يرتب علىالسلطات الحاكمة ما يسميه ياسين الحاج صالح بعقلنة الدولة، وأظنه يقصد عقلنة السلطة، بمعنى انفكاكها تدريجاً عن سيرورة التمركز التي سّهل الانزلاق اليها المناخ الثوري الذي تولد من تلاقح استعصاءين القضية الفلسطينية والعلاقات الاقطاعية مع جرعات من الماركسية الايديولوجية وافدة من المعسكر الاشتراكي. لقد فك تسلم الجيوش قيادة عربة التغيير زمالة الطريق بين العلمانية والديموقراطية في لحظة بدت فيها الأخيرة فائضة عن الحاجة. وراحت الاولى تنقح نفسها لتتأقلم مع شعبوية هذا الجنرال أو ذاك يكفي النظر في التعديلات على الكتاب المدرسي التي أجرتها ثورة الجيش في مصر الناصرية, وتعممت لاحقاً في معظم العالم العربي لمعرفة مأزق التفكير العلمي الذي سببه هذا الكتاب لخمس شرائح عمرية تشكل معظم ممن لا يزالون على قيد الحياة. يمكن لانفكاك تدريجي عن جدلية التمركز التي تحكمت منذ خمسة عقود بالمستويات الثلاثة للبنية: أي الاقتصاد والايديولوجيا والسياسة أن يفلح في تجنيب مجتمعاتها مآلاً عراقياً إعادة تسليم الطوائف مفاتيحها لنخبها الدينية في مناخ تعبوي تختصره الحكمة البدوية"النعجة الشاردة يوكلها الديب"، ويفتح على استعادة اللحمة الوطنية التي تأسست في المرحلة الكولونيالية, واكتست شيئاً من"اللحم"في الفاصل الليبرالي من عمر دولة الاستقلال، وعلى الخروج من الاستعصاء الراهن الذي تتشابك أسبابه ونتائجه. ومن يرسم خارطة طريق للخروج من المأزق؟ سؤال برسم الجميع: السلطة والمعارضة والمجتمع. سامي العباس - بريد الكتروني