الأصوات تتلاحق ولا تتشابه. وهي لا تمت الى أي لغة معروفة بصلة : "إغ ... إغا... بّبا...". وحدهما الأم والطفل يفهمان بعضهما بعضاً. هي تبتسم وتكرر هذه "اللا عبارات"، وهو يضحك ويحرك يديه وساقيه صعوداً ونزولاً في الهواء من حوله. يردد احياناً كثيرة ما تقوله فيتفاعل معها بكل حواسه. إن بكى، تركض إليه، تحمله وتسأله ما به. هل هو الجوع، ام الالم، ام الانزعاج من حفاضه، ام الاشتياق اليها؟... وتنتظر منه الجواب عبر سلسلة من الاصوات التي يصدرها. تدرك ما به من دون ان يتكلم وبفضل أصوات أو"ألفاظ"غريبة يطلقها. فهي بالتأكيد تدّعم نظرية الباحثة الاسترالية بريسيللا دنستن التي اكتشفت وجود لغة موحدة لكل أطفال العالم أنظر الإطار. ولكن، مهما قالت النظريات العلمية والفرضيات والبحوث في هذا الشأن، يبقى لكل طفل لغته. وفهمها حكر على الأم، قبل سواها، ربما لأنها تشعره بأنها تستمع إليه حقّاً، فهي تتحاور معه بلغة مجهولة من بقية الكائنات. وإذا بادرها ب"الجملة المفيدة":"إيغ، بف، نيه، دا"، وأجابته بأخرى أكثر إفادة:"ناه، تا، دي، لا"، يفرح وتضحك عيناه. تجف دموعه حالاً إلاّ إذا كان يتصرّف بنكد وينسى كل احزانه ووجعه، إن كان هناك من وجع. فالتواصل هو أول شيء يتعلمه الطفل فور ولادته وقبل وقت طويل من تعلّمه الكلام. وتتوطد هذه الميزة لديه ما إن يشعر بأن أمّه تجاريه وتسايره، منذ يومه الاول، ولو عبر البكاء أولاً، وشعوره في ما بعد انه في مكان آمن، لأن أمه تهرع إليه. ويترجم التواصل بعدئذ بين الاثنين عبر ترداده عبارة ما، مثل"إيغ"، ومن ثم انتظاره ان ترد عليه الام بكلمة مثلها، قبل ان يعيد الكرة مجدداً. وهي في أكثر الأحيان لا تفهم معنى تسلسل العبارات بالكامل. لكن يكفي ان تقول له:"نعم، نعم"، مع ابتسامة عريضة حتى يشعر بأنها تفهمه تماماً. فالولد يتعلم فنّ التحاور بفضل تكتيك الأم اللاشعوري. تقول له:"انظر، لقد اتى والدك. او تؤنبه قائلة:"كفّ عن رمي ألعابك على الارض"... وهي تعرف كل المعرفة انه لا يفهم حقاً ما تقول. إلا أن مجرّد توجيه الكلام إليه من دون انقطاع يجعله يتقن فنّ الاستماع ومحاولة التحاور. ومن هنا، برزت نظرية أميركية علمية جديدة تستند الى دراسات عدة، وتقضي بتعليم الطفل مبدأ الكلام عبر حركات اليد منذ شهره السادس أو الثامن، بحيث يكون لكل حركة من الحركات الثلاثين، معنى... مثل رفعه اليدين مثلاً للتعبير عن رغبته في ان تحمله امه، او التلويح بيده لمن يغادر. الا ان هذه العملية الشبيهة بلغة البكم نوعاً ما، أثارت الكثير من ردود الفعل السلبية التي قالت أن الطفل سيجد صعوبة في تعلم الكلام في ما بعد. فلغة الطفل قد لا تتعمم على كل أطفال العالم، لأن ال"إغ"في اللغة الصينية، مثلاً، قد لا تدل على الشيء نفسه في اللغة العربية او الشيشانية. لكن المهم بالنسبة الى اي امّ، ومن أي جنسية كانت، يكمن في مبدأ التواصل مع طفلها من دون انقطاع، كي يشعر هذا الاخير بأن اذناً تسمعه، وتبادله التعبير، سواء عبر اللغة غير المفهومة أم الحركة.