مرة أخرى نعود هنا الى تأكيد كان سبق أن عبرنا عنه قبل فترة لدى الحديث عن لوحة لبيكاسو، تحدثنا عنها سابقاً: للوهلة الأولى تبدو اللوحة غريبة عن العالم المتوقع، في شكل عام، من بيكاسو. فنحن نعرف أن هذا الفنان الاسباني الكبير، والذي عاش معظم سنوات حياته في فرنسا، حتى اعتبر أكبر فنان"فرنسي"حي في القرن العشرين، ارتبط اسمه أكثر ما ارتبط بأنواع شديدة التعقيد والتلوين من الفن التكعيبي، الفن الذي كان هو على أي حال في طليعة الفنانين الذين ابتكروه وأبدعوا فيه ? الى جانب جورج براك، معادله الفرنسي، وخوان غري، مواطنه الاسباني -. ومن المعروف أن الفن التكعيبي اعتبر دائماً من أكثر الفنون انتماء الى القرن العشرين، في مقابل أنماط أخرى من فن الرسم، كانت لها جذور ضاربة في التاريخ، حتى ولو كانت سوريالية أو تجريدية وشديدة الحداثة. الفن التكعيبي ارتبط بالثورة العلمية التي شهدها العالم في القرن العشرين لا سيما بنظرية النسبية التي وضعها البرت اينشتاين، من ناحية تجاوز بعدي الزمان والمكان الى افتراضات ثالثة تمزج بينهما من طريق حركة ? وهمية طبعاً في الفن التكعيبي، لكنها تقدم فيه كناتج من تضافر هذين البعدين. طبعاً ينتمي هذا الكلام، الى تحليلات تحتاج الى تعمق واسهاب ليس هنا مكانهما، لكننا سقناه من أجل التأكيد على كم ان هذه اللوحة التي ننشرها مع هذا الكلام، ستبدو غريبة بالنسبة الى كل الذين عرفوا بيكاسو طول القرن العشرين وعرضه، وصارت البيكاسوية بالنسبة اليهم خصوصية فنية لا تشبه شيئاً، وتعطي صاحبها مكانة تبعده عن كل ما يعهد عنه منطقية أو واقعية ما في الفن. لكن هذا كله لم يمنع بيكاسو أبداً من أن يقول دائماً عن فنه التكعيبي وحتى عن مراحله اللاحقة التي تبدو أكثر فوضوية وحرية بالتالي، أنها تنتمي الى الفن الواقعي، أي الى الواقع ولكن كما تلتقطه وتفهمه عين الفنان، لا كما يمكن تصوره في شكل مسبق وميكانيكي. والحال أن كثراً من المحللين رأوا منطقية هذا الحكم ووافقوا الرسام عليه، لا سيما منهم أولئك الذين درسوا، خصوصاً، لوحته الأشهر"غرنيكا"واجدين فيها أعظم عمل فني واقعي في تاريخ البشرية، غير موافقين على آراء أولئك الذين رأوا ان واقعيتها تنبع من الفكرة المسبقة التي يملكها مشاهدها، عن موضوعها المعبر عن تلك المجزرة المرعبة التي ارتكبها الطيران النازي في المدينة الاسبانية الوادعة. كل هذا يبقى في حيز السجال النظري، وفي حاجة الى كثير من التعمق المتخصص. ولكن في المقابل، ومهما كان من شأن"واقعية"التكعيبية البيكاسوية، نذكر مرة أخرى بأن بيكاسو كانت له أكثر من مرحلة"واقعية"في فنه. ونعني هنا واقعية مباشرة أو شبه مباشرة، عبرت عن مواضع وبشر ومواقف قد لا تكون - طبعاً - فوتوغرافية تماماً، لكنها تدرج في خانة الفن الواقعي بأنماطه الكثيرة. ولعل في امكاننا أن نعتبر معظم اللوحات التي رسمها بيكاسو فترة شبابه وشهرته الأولى، منذ حل في فرنسا، في شكل موقت أولاً، ثم في شكل شبه دائم بعد ذلك - لوحات واقعية سواء انتمت الى المرحلة الزرقاء أو الى المرحلة الوردية وهما مرحلتان في فن بيكاسو سبقتا التكعيبية حتى من دون أن تمهدا لها. لوحة"عائلة فناني السيرك": التي ترافق هذا الكلام، تنتمي الى المرحلة الوردية من تراث بيكاسو وتاريخه. بل ان النقاد يعتبرونها عادة، اللوحة التي وصل فيها فن بيكاسو"الوردي"الى ذروة تعبيره، حتى وان كان ثمة بين النقاد من يعتبرها لوحة بؤسوية، أي همّها، من منظور اجتماعي نضالي غاضب، أن تعبِّر عن حياة البؤس التي يعيشها الناس الصغار في هذا العالم. غير أن هذه الفرضية، وان كانت صحيحة نسبياً، يجب ألاّ تجعل الجانب الاجتماعي المتعاطف مع البائسين يغلب على فنية اللوحة وهيمنتها الجمالية المطلقة. ومردّ ذلك أن بيكاسو لم يكن، على أي حال ولو لحظة بعيداً من التعاطف مع الناس الصغار الطيبين. لكنهم إن وُجدوا في"عائلة فناني السيرك"فإن هؤلاء الناس هنا ليسوا بصفتهم فقراء، بل فنانين. وربما أراد بيكاسو أن يصور هنا الحقيقة خلف القناع، تماماً كمن يصور المهرج في لحظة وحدته أمام مرآته، ليصبح التعبير انسانياً شاملاً لا طبقياً مناضلاً. ومن الواضح هنا أن خصوصية العائلة نفسها، تفصح عن هذا الأمر، اذ لو أراد بيكاسوا أن يكتفي في لوحته بالتعبير عن البؤس الطبقي ما كان من شأنه أبداً أن يعطي الشخصيات هذا النوع من الخصوصية. فالعام لا يعبر عنه إلا بما يفضي الى العمومية. أمّا التخصيص فإنه يلغي البعد الجماعي. وبيكاسو كان يعرف هذا بالطبع، ومن هنا حظل كل التحليلات التي راحت تضفي على هذه اللوحة ومثيلاتها بعداً نضالياً. في المقابل قد يصح الافتراض بأن لهذه اللوحة بعداً وجودياً. ذلك أن الموقف القريب في اللوحة، حيث أفراد العائلة مصطفون أمام الرسام، كما لو أنهم واقفون في مواجهة كاميرا فوتوغرافية تصورهم، من دون أن يجرؤ أي منهم على توقع كيف ستكون الصورة في النهاية، هل ستعجب أو لا تعجب؟ وما هي نظرة الرسام/ المصور اليهم، وأي منهم سيكون الأكثر بروزاً؟ وما الى ذلك من أسئلة يمكن أن تكون شاغلة بالهم جميعاً. كل هذا يضفي على اللوحة طابعها الغريب المدهش. والى هذا تنطلق غرابة اللوحة أيضاً من احساس مشاهدها، بأن المشهد انما هو موجود هنا منذ الأزل وسيظل موجوداً دائماً، خصوصاً فرضية الكاميرا الفوتوغرافية التي تلتقط مشهداً أعدّ بعناية، من دون أن يبدو أن ثمة حواراً داخلياً بين الشخصيات أنفسهم وپ"وجودية"اللوحة تبدو أيضاً من خلال احساسنا بأن الشخصيات تقف معاً في مكان هائم من المستحيل تحديده جغرافياً أو حتى من ناحية التضاريس. كذلك فإن الزاوية السفلى اليمنى من اللوحة تشغلها امرأة جالسة تبدو وكأن لا علاقة لها على الإطلاق بالعائلة المصورة. بل انها لا تكلف نفسها حتى مشقة النظر الى المكان الذي يقف فيه أفراد العائلة. هذه المرأة تبدو، على أي حال، غريبة هنا... أكثر من بقية الشخصيات التي نعرف أنه سبق لنا أن قابلناها مرات عدة في لوحات أخرى للرسام نفسه تنتمي الى نفس مرحلته الوردية هذه. اذ ان الذين يعرفون لوحات هذه المرحلة الأخرى يتذكرون من غير صعوبة تعرفهم فيها على الباليرينا الصبية، وعلى هارلكان، وعلى البهلوانين وعلى بقية الشخصيات مع استثناء المرأة الجالسة فقط. مهما يكن من أمر فإن الدارسين المحللين تلك اللوحات وتلك المرحلة من عمل بيكاسو، افترضوا أنه أراد في هذه اللوحة أن يجمع في بوتقة واحدة كل تلك الشخصيات التي كان سبق له أن رسمها، اما فرادى أو متجمعة جزئياً. بل ويقول هؤلاء ان الرسام يبدو وكأنه جعل الشخصيات في لوحته هذه ترتدي من الثياب، ما يجعل اللوحة تبدو وكأنها المشهد الختامي الذي يجمع الفنانين جميعاً، طلباً للتصفيق، بعد أن كانوا أدوا أدوارهم، الفردية أو الجماعية في جملة من اللوحات السابقة... ذلك ان وضعية الثياب تبدو مستريحة، أي أن الفنانين يبدو وكأنهم استدعوا على عجل بعد انتهائهم من أداء أدوارهم وبدء تحضير أنفسهم للعودة الى الحياة الطبيعية ثوب الراقصة ناقص، مناشف حول ثياب البهلوان الكبير والصغير.... واللافت هنا أن أشخاصاً عدة من الواقفين يبدون وكأنهم ينظرون ملياً الى المرأة الغامضة الجالسة. ويفترض بعض الدارسين ان تلك المرأة في لوحته ونظرة الممثلين اليها، يبدوان كوعد بولوج مرحلة جديدة في فنه، بعد أن بدت اللوحة وكأنها خاتمة مرحلة سابقة. حين رسم بابلو بيكاسو 1886 - 1973 هذه اللوحة، في عشريات القرن العشرين، كان لا يزال طبعاً في بداياته، لكنها كانت في حقيقة الأمر بدايات كبيرة، اذ انه لفت الأنظار اليه والى أساليب تعبيره الجديدة منذ العروض الأولى التي أقامها لأعماله. من هنا كان الجمهور الى جانبه مسبقاً... وكان هذا الجمهور لا يكف عن مناصرته، وظل كذلك طوال عقود طويلة تالية من السنين.