حين نشر إدوارد سعيد كتابه "الاستشراق" في نهاية السبعينات من القرن العشرين بعدما سبق أطروحته من دراساتٍ في نقد الاستشراق وخصوصاً في التطبيقات الماركسية على الدراسات الاستشراقية، اعتقد كثير من المفكرين بل المحللين للدراسات الأكاديمية أن الدراسات الاستشراقية أوشكت على الزوال، وأننا نشهد مرحلة"نهاية الاستشراق". لكن في السنة نفسها 1978 أصدر جون وانسبرو 1928-2002 -الأستاذ ب SAOS لندن والقادم من الولاياتالمتحدة - كتاباً أطلق عليه"دراسات قرآنية"، Quranic Studies, Oxford University Press حيث طبق فيه المنهج الجذريَّ في نقد النص والذي اشتهر تطبيقه منذ القرن التاسع عشر على نصوص العهدين القديم والجديد. وقد خلص إلى أنَّ القرآن لم يُكتب على مرحلة واحدة بل على مراحل متعددة، وأنّ ما في أيدينا من المصحف إنما دوِّن بعد القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري. لكنّ هذه الدراسة ما انتشرت إعلامياً كما اشتهرت دراسة إدوارد سعيد. بيد أنه في الدوائر العلمية الأكاديمية الغربية أخذت بعداً آخر من حيث الاهتمام، وذلك لأمرين: الأول من حيث دراسة نشأة الإسلام وجذوره، والثاني للتطبيقات النظرية الحديثة على العلوم الاستشراقية. فمن حيث المبدأ شكلت الأطروحة صدمةً في مجال الغمز من مناهج الاستشراق الكلاسيكي واعتبار أن هذه الدراسات قد وقعت في خطأ جسيم في دراسة جذور الإسلام وتاريخه، وأنها تحتاج مبدئياً إلى مراجعة كليَّة، لذلك هي أخطأت في تقديرهم فهم نشأة وتكوُّن نصّه المقدَّس. لقد أحدثت هذه التطورات إرباكاً في الاستشراق الكلاسيكي من جانبين الأول: تحوّل الدراسات الشرقية الكلاسيكية بسبب الهجمات الماركسية وإدوارد سعيد، والأخرى قادمة من دائرة النقد الجذري للمنهج التاريخاني الاستشراقي. لم يكن وانسبرو يدعو إلى توقف الدراسات الاستشراقية بل إلى المراجعة الكليّة لمناهج تلك الدراسات، وهو تجاوز المناهج الفيلولوجية والتاريخانية في المدارس الاستشراقية الكلاسيكية، ولذا أطلق على هذا الاتجاه"المراجعون"، لا يبدأ هذا التيار بالمقدمات حول النص بل يتعامل معه مباشرة من نقطة الصفر، منذ جاك دريدا ورولان بارت حيث ابرزا منهجي ما بعد البنيوية والتفكيك بعد منتصف الستينات، فالبنيويون يعتقدون بأن هنالك علاقة ثابتة ومستقرة بين اللفظ والمعنى، لكن أصحاب منهجي"ما بعد البنيوية"و"التفكيكية"، قالوا ليس هنالك علاقة ثابتة بين اللفظ والمعنى، وإنما القراءة هي التي تخلق النص، والقراءات هي التي تخلق العلاقة بين اللفظ والمعنى، وعلى هذا فالنص مفتوح لكل الاحتمالات والمعاني، وتطورت بمقتضى ذلك مفاهيم نقدية أشهرها"موت المؤلف"، باعتبار أن المؤلف عندما يكتب يخرج النص من ملكيته ويصبح النص ملكاً للمتلقّي. بيد أنه لأكثر من قرن ظلت هنالك ثلاثة اتجاهات رئيسة مسيطرة على الدراسات الاستشراقية. الأول هو التقليدية الوصفية، واستخدمها المؤرخون في وصف التاريخ العام ونقده، وهذه اشتغلت بكتابة التاريخ الإسلامي الشامل مثل كتاب كارل بروكلمان عن تاريخ الشعوب الإسلامية وكتاب وات عن النبي صلى الله عليه وسلّم بمكةوالمدينة. ولكن التطور الآخر هو الاتجاه الثاني للمؤرخ الألماني فلهاوزن Wellhausen، حيث قام بتطبيق عمل مشترك للمصادر الإسلامية المبكرة كما في الكتاب المقدس. والافتراض الأساسي في أعمال فلهاوزن، أن المصادر القديمة التي تعتمد المؤلفات المتبقية على مختارات منها كانت مصادر مكتوبة ثابتة يمكن اعتبارها وثائقية، ولذلك سمي اتجاهه في حقل الدراسات النصيَّة الدينية"بالنظرية الوثائقية"Documentary hypothesis وافتراضه الثاني هو أن لكل هذه المصادر المفقودة شخصية أو سِمَة مميزة تعكس اهتمامات كاتب المصدر الأصلي وميوله، وقد شكلت هذه المفاهيم الأساس لاتجاه نقد المصادر إلى منتصف القرن العشرين. أما الاتجاه الثالث فكان من ابتداع المستشرق المجري"غولد زيهر"حيث لاحظ أن الأخبار المتفرقة مملوءة باختلافات في المتن، وهذه الاختلافات تلقي شكوكاً على نظرية فلهاوزن بأن المصادر القديمة المفقودة كانت ثابتة ووثائقية، بل إن هذه أدت إلى طرح إمكانية أن ما لدينا هو مجرد روايات منقولة من راوٍ إلى آخر على مدى زمن طويل وربما أدخل الرواة تغييراً في المتون، ونظريته تفترض أن الروايات نقلت مشافهة وتتطور وتتغير عبر الزمن وتنتشر في فروع مختلفة على أيدي رواة. بيد أن دراسة الأخبار لا تقتضي تعيين مصادر ثابتة بل تقتضي تحليلها، وهذا المنهج يسَّمى"نقد النص والروايات". لقد كانت منهجية وانسبرو تفترض أن النقد ليس موجهاً إلى الخطاب الإستشراقي بصفة عامة، إنما كانت مراجعته متجهة نحو إعادة القراءة بأسلوب آخر. ولكن بسبب منهجية واسنبرو المعقدة وأسلوبه الكتابي لم يحظ بقرَّاء كثر أو دعاية إعلامية بل حظي باعتمادٍ أكاديمي في الوسط العلمي الغربي، واقتباسات وإشارات واسعة لمؤلفاته في الكتابة عن الإسلام المبكر وبالأخص في نقد النص الذي اعتبر مظهراً لموجة جديدة في الدراسات الاستشراقية للإسلام. وهذا التنظير صوب بحوثه نحو ثلاثة أركان: أولاً: إعادة فهم جذور الإسلام ونشأته، ثم جدليةِ الكتاباتِ الإسلامية المبكرةِ، وثالثاً: وثائقية الموروث الأركيولوجي للإسلام. وعليه فقد استخلصت هذه الدراسة منهجين اثنين من المستشرقين الكلاسيكيين وهما غولد زيهر وجوزيف شاخت من دون سواهما، باعتبار أنهما استنتجا أن الإسلام ذو منابع متعددة وليس ذا مرجعية واحدة في نشأته، فغولدزيهر لا تزال تنظيراته عن مصادر التشريع الإسلامي من القرآن والسنّة والمراجعات التي أثارها حول موثوقيتها تثير الجدال من حين لآخر، كما أن جوزيف شاخت درس هذه المصادر التشريعية من زاوية أخرى وهي جانب نشأة الفقه الإسلامي وتوثيق السنة كمصدر ثاني في التشريع، وإن الأحكام الموجودة في مرويات أدبيات السنة النبوية لن يتجاوز قدمها بداية القرن الثامن الميلادي بل حدده بعام 718م وهي بداية الصدام والجدال بين الفقهاء والأصوليين في موثوقية السنة كأساس في التشريع، وهنا كانت عملية الخلط بين الرواية والفتوى وتأييد الأحكام، على رغم أن آراءه حول الفقه الإسلامي لا تزال تثير الجدال إلا أن فكرة توثيق أسس التشريع هي النظرية الحافزة في تكوين الإسلام. هجرات المسلمين وتبع وانسبرو تلميذان من تلامذته وهما باتريشيا كرون 1944- الدنمارك ومايكل كوك 1942- بريطانيا بإصدار كتاب متميز أطلقا عليه اسم"الهاجرية"Hagrism والذي وسع أفق هذه الدائرة بل أحدث ردوداً ليس في الدراسات الاستشراقية فحسب بل تجاوزتها إلى الدراسات الدينية والتاريخية على حد سواء، والهاجرية نسبة إلى هاجر - عليها السلام - والمقصود بذلك تأثير القبائل الشمالية في تكوين الإسلام عبر العصور منذ إبراهيم عليه السلام وهجراتهم التدريجية نحو الجزيرة العربية. أو بمفهوم مغاير إن المسلمين الغازين في الفتوحات لم يطلق عليهم خلال الفتوحات الإسلامية المبكرة"المسلمون"بل كانوا يسمون الهاجريين، و هو المراد من هذا المفهوم بأن المسلمين انتسبوا لمسمى الإسلام متأخرا وسموا بدل الهاجريين، المسلمين. وهذا الكتاب يطرح فكرته بشكل غريب في التخيل بأن الإسلام نشأ كحركة دينية مشتركة بين اليهود والعرب متحدين معاً تهدف الى استعادة بيت المقدس من البيزنطيين، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يعظ بالمواعظ اليهودية خلال بداية الفتوحات وهذا هو التأسيس الذي انشأ عليه التشريع الإسلامي المتشابه مع الأديان الإبراهيمية. وأن هذه الحركة انقسمت وتخلى العرب عن اليهود، ولم يحدث هذا الانشقاق في المدينة كما هو معلوم في المدينةالمنورة بل في القدس بفلسطين وأخفي ذلك الحدث عندما تحول الإسلام إلى دين إمبراطوري متفرد. فأطروحة الكتاب تتحدث بأن الإسلام في نشأته لم يفهم من الوحي المحمدي، فالقرآن ذاته كما أشير سابقاً لم يكتمل إلا في نهاية القرن الثاني للهجرة/ الثامن الميلادي بحسب نتائج وانسبرو، ومعلوم أن الإسلام نشأ وظهر في الشرق الأدنى حيث ظهرت المسيحية واليهودية، ولكن الإشكالية تكمن في مسألة"أين بدأ..."في الشرق الأدنى تأكيداً حيث لا توجد أدلة أثرية موثقة كما هو متعارف عليه في الحجاز، وإذا كان التبرير بأن الكتب المقدسة الثلاثة هي وحيٌ منزَّلٌ للمؤمنين بها، والمسلمون من جهتهم يؤمنون بنزوله في مكة، بينما يرى بعضهم بأنه ظهر بمنطقة مأهولة باليهود والنصارى، فلابد للمتلقين لهذا الخطاب الوحي من أن يكونوا ذوي وعي به وهم أكثرية بحيث يمكنهم استيعابه. بل زادوا على ذلك بمخيلة قد تكون غريبة كلياً بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يعظ الناس بمواعظ يهودية. والمنهجية التي يدعون إليها هي تفكيك فهم الإسلام كوحدة تقليدية معرفية للاستنتاج بأنَّ الإسلام نشأ غامضاً كلياً، ذا بداية مبهمة وتقاليد متشظية ليست متكاملة بحسب الفهم الإسلامي للقرآن والسنّة والسيرة، وإنما تمت لملمة هذا التراث المتشظي طوال قرون من الزمن. فكل الإثباتات المادية الأثرية للإسلام لا يوجد منها إلا الشيء اليسير الذي يفصح ويبين ذلك. فالقرآن كنص بحسب جدلياتهم نزل معظمه بمكة، وأهل مكة يفترض أن يكونوا وثنيين، لكن الاطلاع على هذه السور حتى ممن لديه إلمام بسيط بها يعتقد بأنها تتحدث عن مجتمع يهودي - مسيحي في شكل ما أو ذي تقاليد إبراهيمية وليست وثنية. فالمقارنات بين النصوص القرآنية والعهدين الجديد والقديم يتضح من السرد القرآني لبني إسرائيل، أو قصص الأنبياء كقصة يوسف وإبراهيم. فالسرد العام وموثوقيته بهذه المقارنات يشير دائماً إلى التقارب في النصوص للأديان الإبراهيمية. وإذا كانت فرضية التجارة، فالتجار غالباً لا يكتسبون ديانات وثقافات شركائهم إلا في حال اعتناق دياناتهم، بينما التجار العرب ظلوا وثنيين فكيف إذاً. وهذه التنظيرات الاستشراقية في جذورها ترجع إلى التطبيقات في فهم اليهودية والمسيحية خلال القرنين المنصرمين خصوصاً في عصر التنوير التي فرضها العقل النقدي. وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تطورت التقنيات الفيلولوجية وسميت"بالنقد الأعلى"على رغم أثر الصدام الكنسي الذي حدث في تلك الفترة. فالتقاليد والأدبيات اليهودية امتدت لقرون منذ إبراهيم إلى ما بعد النبي سليمان، وموسى في هذا السياق ما هو إلا حلقة في تلك السلسلة. وكذلك الموروثات المسيحية تم تدوينها لقرون طوال ما يقارب أربعة قرون منذ المسيح، أي أن الإسلام ووحيه وموروثه لم تتم خلال حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم. ولذا كان افتراضهم لثلاثة أمور لحل هذا الإشكال وهي: افتراض أن التقاليد الإسلامية إما أن يكون فيها شيء غامض أو خطأ، وإما الافتراض بوجود نسبة كبيرة من اليهود والنصارى بمكة حيث أن الذين ذكروا في القرآن ليسوا من الجزيرة العربية خصوصاً أن السور المكية تُكثِرُ من الذكر القصصي، والحل الأخير أن مكة"مدينة محمد"صلى الله عليه وسلم. كانت توجد في الحدود ما بين الشام والجزيرة العربية. وأن الإسلام نشأ في مناطق قريبة من الهلال الخصيب. وهذه الأطروحة في مجملها تجعل من الفتوحات الإسلامية منذ عصر عبدالملك بن مروان وما ترتب عليها أساساً في تكوين الثقافة الإسلامية وتقاليدها حيث أن العرب واجهوا متطلبات الحضارة. واعتمدوا في هذا التقييم في نشأة الإسلام على المصادر غير الإسلامية من عبرية وآرامية وبيزنطية وأرمينية، والمقصود بذلك الانتقال بالنص من المرحلة التوثيقية إلى المرحلة الأركيولوجية. قوبلت هذه النظرية بالرفض دولياً في ذلك الحين بدلالة المنهج الذي استخدم فيها وهو المنهج التجريبي وهو أقرب إلى التخيل مما جعل منها فكرة غير مترابطة ومتناقضة في علاقة العرب باليهود. ومن جانب آخر إنها جعلت المصادر العربية موازية للنصوص غير العربية في مجال التشكيك ونقد النص، وهو غير مقبول ذلك أن الفحص الأولي للمصادر غير العربية يثبت أنها كتب جدلية، وليست موضوعية تذكر من تشاء وتستبعد من تشاء. وطريقة النقد الأعلى تجعل منهم أشبه بالمحْكمين بالقضايا وليسوا محللين لها. البرديات المسلمة لكن الأمر لم يتوقف على هذا الحال في التلهف لهذه التنظيرات حول جذور الإسلام بل تبعه بعد ذلك مصنفان الأول لمايكل كوك"Early Muslim Dogma"طبع بپجامعة كمبردج 1981، عقيدة المسلمين المبكرة حيث انتقد فيه دراسات نقدية سابقة تعاملت مع النص الإسلامي المبكر في علوم الكلام لمستشرقين كلاسيكيين وفي شكل أساسي لشيوخ معاصرين في دراسات تاريخ علم الكلام الإسلامي في الغرب وهما يوسف فان آس Josef Van Ess وويلفرد مادلونغ Wilferd Madelung. وعليه بدأ السجال بين جيلين مختلفين تماماً في مراجعة وثائقية النصوص الإسلامية المبكرة ومدى تاريخيتها وكيفية ربطها مع النصوص الدينية الأخرى في سياق تطور تاريخ الأديان العام. اختلفت منهجية كوك عما سار عليه أساتذته ومضوا في تقييم النصوص المبكرة، فهي قد لا تكون متأخرة كالذي يدعيه إلى ما بعد القرن 2ه/8م وليست متقدمة كما يدعي الطرف الأخر، فنقد النص هو تفكيكه وقراءة بنيته بطريقة معاصرة، لقد اعتمد كوك في دراسته بمقارنة البرديَّات الإسلامية المبكرة، وكانت فرضيته أن الرسائل التي تفتح بعد البسملة بپ"أما بعد"أو"الوصية بتقوى الله"ترجع إلى أواخر الفترة الأموية وليست الى القرن الأول الهجري، وذلك لعدم احتواء هذه البرديات على التمهيدات، وأضاف إليها كذلك تقييم رسائل القديس يوحنا الدمشقي في الكتابات الإسلامية المبكرة وأسلوبها في نشأة الجدال بين الأنا والأخر وافتراضية المجادلة والرَّد، على رغم الدراسات الإستشراقية المبكرة لهذه الرسائل. بيد أن مراجعته المهمة لآراء لغولد زيهر حول نشأة الحديث النبوي ومدى صحته في الكتابات الإسلامية المبكرة وشواهدها، تعد تطوراً مهماً لآرائه، مما أذهل كلا الطرفين في كيفية التعامل النصي الجامع بين التاريخ والأركيولوجيا والنص، ومنذ ذلك الحين اعتبر هذا الكتاب مرجعاً في الدراسات النقدية ليس في نطاق علوم الكلام فقط بل وفي دراسات النثر العربي المبكر. لقد سبق أن وجَّه البرفيسور"فان أس"نقداً موجعاً"لكرون وكوك"، في مراجعته الشهيرة لكتاب"Hagarism"في ملحق الأحد الثقافي في جريدة التايمز وكان وصفاً ساخراً لعملهم في سوء فهمهم الإسلام وتقاليده وآثاره، ولذا اعتبر الكتاب الثاني رداً من كوك كمناظرة علمية بين الجانبين. كان تأمل الإسلام الأول من خلال المصادر اللاإسلامية هو المنحى الأكثر جديَّة في هذا الشأن، فقد أثارت رسائل القديس يوحنا الدمشقي منذ اكتشافها أهمية كبرى لمراجعة الإسلام المبكر من المصادر غير العربية، خصوصاً أن القديس يوحنا عاصر بداية الدولة الأموية. كانت فكرة يوحنا الدمشقي أن الإسلام لا يعدو أن منتسبيه أعراب، ودينهم لا يعدو أن يكون يهودية منحرفة أو مسيحية محرَّفة من حيث مفهوم الدين الإبراهيمي التوحيدي ثم اعترافه بالتراث الإسرائيلي وتواصله معه أو نقده ومخالفته. فكان هذا مبعثاً أساسياً لتنظير دراسات تاريخ الأديان عن نشأة الإسلام، ولذلك حاولت مدرسة"المراجعون"وصف الإسلام بأنه أشبه بالفسيفساء بحسب هذا المفهوم أو هو شي مبعثر وأدبياته تنتقل من جيل إلى جيل وتشكلت عبر قرون. لقد أثرت كتابات القديس يوحنا بحيث استقرت في أذهان الكنيسة المسيحية خلال القرون الإسلامية المبكرة، وبذلك حدث هذا التأثير والتفاعل في القضايا الكلامية من خلال هذا الموروث المسيحي في القدر والجبر وقضايا التشبيه والتجسيم للذات الإلهية إلى أن أخذت في التطور نحو الاستقرار الكلي في تاريخ علم الكلام الإسلامي. أما باتريشيا كرون فأصدرت كتاباً بعنوان Roman، Provincial and Islamic Law Cambridge، 1987، وهو عملٌ أخر يتمحور حول تكوُّن الشريعة والقوانين الإسلامية من مراجعاتها آراء جوزيف شاخت، وكانت نتيجة بحثها أنَّ المصادر الأولى لهذه الشريعة هي القوانين الرومانية والتشريعات التلمودية اليهودية التي كانت موجودة في بلاد الشام وعلى حدود الهلال الخصيب وكيفية احتواء الإقليمية الإسلامية لها لأجل هذه الصياغة. وقد طورت نظرية شاخت في إقليمية الفقه من الفقه البصري أو الكوفي أو الحجازي أو الشامي إلى هذا الامتزاج ومؤثراته في القرون الإسلامية المبكرة مع الجذور البيزنطية للقوانين الرومانية، وعليه فليس هنالك واقع محدد لهذه الصياغة الفقهية في التشريعات الإسلامية، وهذا تغليب للإقليمية على المذهبية في هذا التكوين ثم مزجها بالمصدرين القرآن والسنّة، وإنما المرجعية المذهبية جاءت متأخرة، إلى ما بعد القرن 4ه/10م، وإن المصدرية للشريعة في التشريعات ممتدة قبل الإسلام. كل هذا يجعل الدارس في حيرة، لأن معلوماتهم تشير الى ان المذاهب الكلامية لا يمكنها ان تتكون إلا في القرن الثاني الهجري، حيث أن الآراء الكلامية لم تتبلور بمفاهيم علمية يمكن الجدال عنها، وهذا ما عمل عليه كرون وزيمرمان في تحقيقهما ودراستهما لنص سيرة سالم بن ذكوان، وفي ارجاع النص الى بداية القرن الثاني للهجرة. ومن جانبه تتبع كوك في مراجعته لحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم في كتابه Muhammad Oxford 1983، لأعمال المستشرق البريطاني المعروف مونتغمري وات وديفيد مارجليوث 1858-1937. مثل هذا الكتاب تتبع الكتابة التقليدية الاستشراقية في استخدام المصادر الإسلامية والمدرسة النقدية الحديثة. وقد تبع هذا المنهج المؤرخون الغربيون أمثال أوري روبين Uri Rubin في كتابة"حياة محمد"، The Eye of the beholder: The Life of Muhammad as viewed by Early Muslims أو"هارالد موتزكي في كتابه Harold Motzlcki"The Biography of Muhammad: The Issue of the sources""سيرة محمد: إشكالية المصادر"أو كريغ وين Carig Winn في كتابه Prophet Doom. بيد أن الصدام منذ البداية كان يدور حول موثوقية المراجع الإسلامية المبكرة، وليس نقد المصادر الإسلامية ذاتها في القضايا الموجودة بها واعتمادها للنقد. وهنا كان الفارق بين الجيلين في الإستشراق. فكوك لم يكن سلبياً كأستاذه واسنبروا لكنه لم يكن متقبلاً لتلك السيرة كلها، لأن مفهوم الإسلام في ذاته يدعونا إلى مراجعة تلك الأدبيات. وأنجزت باتريشيا كرون عملاً آخر في التنظير وتوثيق النص اركيولوجياً وهو كتاب Meccm Trade and the rise of Islam،"تجارة مكة ونشوء الإسلام"، جامعة برنستون 1988، في هذا الكتاب ناقشت الكاتبة موثوقية موقع مكةالمكرمة في طريق التجارة الدولية القديمة بقراءة جانبية بين الكتابات البيزنطية والرومانية والخرائط القديمة وكمركز تجاري لم يُذكر مطلقاً في المصادر العلمية القديمة، ومن هنا تبدأ في تساؤلاتها وتشكيكها. وكما تتساءل الكاتبة منذ بداية الكتاب ما الذي يجعل مكة محور التجارة الدولية بين شمال وجنوب الجزيرة العربية وهي ليست ذات مورد مائي أو غذائي ولا إنتاج صناعي كما أنها تبعد عن الخط التجاري المعروف للقوافل ما يقارب المائة ميل. هذه التساؤلات طرحتها في دراسة مطولة وصلت إلى الاستنتاج بأن مكةالمكرمة ليست هي مكة القديمة إنها بحسب الإشارات تقع إلى غرب الفرات في الحدود ما بين العراق والشام في الهلال الخصيب. وبطبيعة الأمر كانت المراجعة هي مناقشة للمستشرقين في البناء العلمي لهذه القضية، فكتاب مونتغمري وات"محمد في مكة"والذي يعتبر بمثابة مرجعٍ للسيرة النبوية في الدراسات الاستشراقية كان هو الأساس النقدي لتقويض تلك الآراء. هذه الدراسة تثبيت لجذور النظرية لكتابها السابق Hagarism، وبطبيعة الأمر فإن هذا الكتاب أحدث جدلاً بأطروحته، بل أصبح مرجعاً تاريخياً ليس لأطروحته فحسب بل من مبدأ التساؤل التاريخي في منهجية الرؤية والتي تعدت فيها الإطار الاستشراقي إلى حيز الدراسات الأثرية بل وتوسعت في الأقسام الأخرى لتشمل الدراسات الإنسانية سواءً التاريخية منها أو الجغرافية. * رئيس تحرير مجلة "التسامح" - عُمان