كان يحلو له أن يردد، في كل مناسبة، قولاً كان هو في الأصل مبتكره، كنوع من التعليق على ظهور الناس، عاديين أو غير عاديين، على شاشات التلفزة. هذا القول هو: "ان كل انسان في زماننا هذا بات من شأنه أن يكون نجماً ولو لخمس عشرة دقيقة". أما هو، آندي وارهول فإنه عرف كيف يصنع من نفسه نجماً، ليس خلال تلك الدقائق وحسب بل طوال حياته وبعد مماته أيضاً. وذلك على رغم أن ثمة من بين نقاد الفن ومؤرخيه من يقول ان آندي وارهول لم يكن يستحق أن يكون نجماً إلا بالمعنى المبتذل للكلمة. وهذا يعني طبعاً طرح سؤال أساس حول الفن الذي انتهجه وارهول طوال حياته في مجال الفن التشكيلي والسينما وفنون الفيديو وما شابه ذلك، سؤال، فحواه: هل كان هذا الرجل فناناً حقيقياً، أم كان حرفياً حاذقاً وتقنياً متميزاً، غطى بمهاراته على قصور خياله وموهبته الإبداعية؟ والحقيقة أن السؤال مطروح وربما سيظل مطروحاً دائماً. أو على الأقل حتى وجود جواب نهائي وقاطع من المرجح أنه لن يوجد أبداً -، لسؤال آخر : ... ولكن ما هو الفن؟ ومنذا الذي يمكنه أن يحدّد ما اذا كان هذا الإنتاج فناً أو حرفة أو أي شيء آخر؟ للوهلة الأولى وفي شكل منطقي قد يستغرب القارئ مثل هذا السؤال. وهذا الاستغراب محق. ولكن، ما إن يتعلق الأمر بنتاج مبدع مثل آندي وارهول، حتى يقفز السؤال الى الواجهة. يقفز بادئاً في أيامنا هذه - بوارهول ليصل الى شتى أنواع"الفنون"الجديدة، من فنون الفيديو الى فنون التجهيز وربما أيضاً من الكاريكاتور وفنون الشرائط المصورة، من دون أن نتوقف عند"الفيديو كليب". واضح هنا أن ثمة أموراً كثيرة تبدو في حاجة الى اعادة تعريف. ولكن بما أن موضوعنا هنا هو آندي وارهول، ستتوجه اليه مباشرة. أكثر من كونه فناناً، عرف آندي وارهول كيف يحول نفسه، خلال حياته الى أسطورة. وذلك بالتحديد، عبر الاشتغال فنياً على بعض أساطير القرن العشرين من مارلين مونرو الى ماوتسي تونغ مروراً بحساء كامبل والبيبسي كولا واليزابيت تايلور ومايكا جيغر. ولأن وارهول كان يعرف باكراً أن جوهر الأسطورة - والنجومية المطلقة بالتالي - يقوم على الغموض وكثرة التخمينات من دون اجابات قاطعة، نراه يقطع خيوط اليقين حتى مع تاريخ ميلاده. والى هذا كان من الذين يعرفون كيف يدرسون اطلالاتهم ويضبطون ايقاع كلامهم وتعابيرهم، بحيث يبدو حيناً وقحاً، وحيناً خجولاً. وفي معظم الحالات كان يحاول أن يظهر على صورة العصامي الأميركي الذي يتحول من عامل غسيل سيارات الى بليونير. لكنه، في الحقيقة، لم يعمل أبداً في غسيل السيارات، بل بدأ حياته رساماً للصفحات الإعلانية. ولعل هذا الواقع يفسر تماماً نمطه الفني الذي يجعل"لوحاته"تبدو في نهاية الأمر وكأنها لوحات إعلانية. ورسم هذه اللوحات هو بالتأكيد حرفة مميزة وتتطلب موهبة وحذقاً... ولكن - مرة أخرى - يصح طرح السؤال: هل هي فن؟ في السينما وفي الرسم، خصوصاً، كان آندي وارهول، منذ وصوله نيويورك سنة 1949، يحوِّل كل ما يراه أو يلتقي به الى عمل"فني". ثم كان يحوِّل كل عمل فني الى تكرارات لا تنتهي. والحال أن هذه التكرارات هي التي جذبت الناس الى فنه. فمثلاً لو رسم وارهول لوحة لمارلين مونرو، ينطلق طبعاً من الاشتغال التلويني على صورة فوتوغرافية لها، لكان الرسم مرّ بعد نظرة اعجاب أو فضول أولى، مرور الكرام ثم نسي... لكنه كان يعيد انجاز اللوحة نفسها مرات عدة، انما دائماً بألوان مختلفة وهذه الإعادة كانت هي السر. مثال آخر: لو رسم علبة من صفيح لمنتج غذائي معين، على لوحة واحدة - وهو فعل هذا كثيراً على أي حال - لما استوقف الرسم أحداً. لكنه حيث يرسم عشرات العلب متراصة في لوحة واحدة، يتخذ الأمر دلالة أخرى، بل يعطيه الحق في أن يدعي أن لوحته تساهم في التصدي لعصر الاستهلاك والانتاج واعادة الإنتاج الى ما لا نهاية. والحقيقة أننا أمام النتيجة النهائية لا نعود قادرين على تكذيبه اذ يصبح تأكيده - ثم نجوميته الخاصة بالتالي - جزءاً من العمل. وبدايات وارهول الفنية امتلأت بهذا النوع من الانتاج. لكنه عند أواسط ستينات القرن العشرين، بدا له، على الأرجح، أنه وصل الى طريق مسدود فاتجه صوب السينما مقللاً من لوحاته. وهو طوال سنوات ليست بالكثيرة، تمكن في ذلك الحين من أن يحقق نحو ستين فيلماً، من بينها تحف حقيقية انتجها لكنه كلف آخرين بإخراجها. ومن بينها أيضاً أعمال لا معنى له مثل الشريط الطويل الطويل الذي لا يصور شيئاً سوى أعلى ناطحة سحاب امباير سيكت والريح والنور يتغيران حولها طوال 18 ساعة مملة حقاً. ولاحقاً حين أوصل وارهول"لغته"السينمائية الى طريق مسدود آخر، نراه خلال السنوات الأخيرة من حياته يعود الى الرسم، والى الرسم التكراري حتى ولكن، ضمن أبعاد تحمل هذه المرة من المعاني ما لم يكن لديه من قبل. وهو اذا كان في لوحاته الشهيرة لماوتسي تونغ قد ظل أسير تكراريته الرتيبة السابقة، فإنه في سلسلة اقتبسها عن أبرز لوحات عصر النهضة، بدا أكثر تراجيدية وأكثر تنويعاً في استلهاماته ومواضيعه. غير أن المجموعة الأبرز خلال تلك المرحلة، كات تلك التي أنتج ضمنها عشرات اللوحات التي عرضها أولاً في أوروبا تحت عنوان عام هو"سيداتي وسادتي"، أو زنوج في ثياب نساء. في هذه المجموعة، انطلق وارهول ومن دون أن يزعم للوحاته أية غاية سياسية أو نضالية، من صور فوتوغرافية تصور عشرات الشخصيات لسود أميركيين، وغير أميركيين سواء أكانوا فنانين وأدباء معروفين أم أناساً عاديين، ليحوِّل كل صورة الى بورتريه صخبت ألوانه وصولاً حتى محوها الأصل الفوتوغرافي تماماً. ووارهول إذ عرض كل تلك اللوحات معاً، جعل منها صورة ما لمجتمع الخواء في سبعينات القرن العشرين الأميركي خصوصاً. والحقيقة أن علينا ألا ننكر هنا أن هذه اللوحات حملت، الى لغة الاحتجاج الضمني على العنصرية، بعداً شاعرياً من خلال لعبة التوليف في ما بينها. ناهيك بأن كل لوحة على حدة، ثم مجموع اللوحات معاً. كل هذا حول الوجوه الزنجية الى وجوه أسطورية، حيث، وتبعاً لما قاله وارهول نفسه عن هذه المجموعة:"أردت هنا أن أري"اللاوجود الكامن خلف اللاكينونة". طبعاً قد يبدو هذا الكلام لغواً أو لعباً على الكلام، ولكن من الواضح أن وارهول قصد في هذه اللوحات أن يقدم هوية جماعية لأفراد كان المجتمع يفضل ألا تكون لكل منهم هويته الفردية. وفي هذا المعنى وحده، تتخذ هذه المجموعة سمة استثنائية في مسار آندي وارهول الفني وتصبح تعبيراً عن بعد نضالي لم يكن ليتوخى التعبير عن مثله في أول اطلالاته الفنية أو السياسية. واذا تذكرنا هنا أن تلك الحقبة الزمنية السبعينات كانت هي التي رسم فيها بورتريهات ماوتسي تونغ، ثم خصوصاً سلسلة كان من أشهر لوحاتها صورة للمنجل والمطرقة - علامتي الشيوعية - وهما مقلوبان على الأرض ما أعطى اللوحة عنوانها"طبيعة ميتة"، يمكننا أن نفهم ان وارهول السنوات الأخيرة آثر أن ينتقل من"الاحتجاج والتزيين"على المجتمع الاستهلاكي الأميركي، الى مواقف سياسية أكثر راديكالية بل أكثر وضوحاً أيضاً. ولد آندي وارهول، على الأرجح، سنة 1930 في فورست سيتي بولاية بنسلفانيا الأميركية لأب تشيكي الأصل. وهو ما إن تخرج من دراساته العليا حتى انتقل الى نيويورك حيث بدأ من فوره العمل رساماً للوحات الإعلانية، لينتقل عند بداية الخمسينات الى الرسم ويبدأ في اقامة معارضه التي راحت تثير صخباً، احتجاجياً أول الأمر، ولكن إيجابياً بعد ذلك. ولقد عززت من شهرته استفزازيته ومواقفه الغريبة، التي ظلت له وطبعت علاقته بالفن السينمائي والرسم ومفاهيم النجومية... وما الى ذلك. ولقد ظل هذا دأبه حتى رحيله سنة 1987، نجماً من كبار النجوم في الفن... ولكن أيضاً في المجتمع.