ليس مستغرباً ان يكون الاتحاد النقدي الخليجي محط أنظار المعنيين باقتصادات المنطقة، لأنه سيكرّس قيام تكتل اقتصادي عملاق، يمكّن الخليج من المنافسة ومواجهة تحدّيات العولمة. وإذا كنا في المحطة السابقة توقفنا أمام الأسئلة المثارة حول إمكان ولادة النقد الخليجي الموحّد في موعده المحدّد عام 2010، فإن الموضوع، لأهمّيته، يستحق معالجة أخرى من خلال مقاربة جوهرية، لا تتعلق بتاريخ تحقيق الاتحاد النقدي، بل بالشروط الضرورية لقيامه. ولا شك في ان السلطات المتخصصة في بلدان مجلس التعاون، خصوصاً المولجة منها بهندسة بنيان الاتحاد النقدي، تدرك تماماً ان الاتحاد النقدي هو تتويج لوحدة اقتصادية متكاملة، وليس مجرد عملية نقدية تقنية معزولة"إنه صهر لاقتصادات الدول الأعضاء في اقتصاد موحّد، ما يقود إلى تأثير محتمل للوضع الاقتصادي في أي بلد عضو في الاتحاد على اقتصادات الدول الأخرى، والأوضاع المعيشية فيها. لذلك، فالاتحاد النقدي يتطلب معايير وشروطاً صارمة، سابقةً لقيام الاتحاد ولاحقة له. ولعل التروي الذي تبديه السلطات الخليجية حيال موعد ولادة النقد الخليجي يعود إلى وعيها أهمّية احترام هذه الشروط والمعايير. فرض اتفاق الوحدة الأوروبية على المصرف المركزي الأوروبي ان يعدّ تقريراً، مرّة كل سنتين على الأقلّ، حول مدى تقدّم الدول الأعضاء في تطبيق شروط الوحدة النقدية والاقتصادية. ومن البديهي ان يدرس التقرير بعناية مدى التزام الدول الأعضاء بالمعايير الاقتصادية المطلوبة، حتى لا تؤثر الثغرات الاقتصادية في دولة ما في أوضاع البلدان الأخرى في الاتحاد. ويركز التقرير، في مجال التطابق الاقتصادي على معايير رئيسة، من المفيد ذكر أبرزها. في المقام الأوّل تأتي مراقبة استقرار الأسعار، إذ يشترط ان يكون معدّل التضخم معتدلاً، وقريباً في كل بلدان الاتحاد من المعدّل المسجل في الدول الثلاث الأفضل أداءً على هذا الصعيد. ويحرص المصرف الأوروبي على اعتماد معايير إحصائية موحّدة لقياس مؤشر أسعار الاستهلاك. ومن المعروف ان مسألة التضخم هي أكثر المسائل حساسية في مسار الاتحاد النقدي الخليجي، وقد تكون أحد أبرز الأسباب التي ترجح عدم الالتزام بالموعد المضروب لولادة الاتحاد. فمعدّلات التضخم متفاوتة في بلدان مجلس التعاون، كما ان هناك تبايناً في طرق احتساب مؤشر الأسعار. ويبقى التضخم أكثر العوامل الجديرة بالرقابة والحذر في المنطقة بسبب النتائج الممكنة للتدفقات النقدية الكبيرة الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، والسياسات الحكومية التوسعية التي تقود إليها. أما الموضوع الثاني الذي يوليه المصرف المركزي الأوروبي اهتماماً فائقاً فهو وضع المالية العامّة في بلدان الاتحاد الأوروبي، إذ تحدّد معاهدة الوحدة الأوروبية السقوف التي يجب عدم تجاوزها على صعيدي عجز الموازنة والدين العام. إن الأوضاع الراهنة للمالية العامّة في بلدان الخليج توحي ان هذه المسألة ليست موضع قلق. ففي البحرين يبلغ الدين العام، كنسبة من الناتج المحلي، نحو 30 في المئة، وهي النسبة الأعلى في بلدان الخليج. وعلى رغم ان هذه النسبة تعادل نصف السقف المسموح به في الاتحاد الأوروبي، فإن الدين العام في بلدان الخليج الأخرى هو أفضل حالاً، إذ يشكل الدين العام كنسبة من الناتج المحلي أقلّ من 25 في المئة في قطر ومن 20 في المئة في بقية بلدان مجلس التعاون. ولا مجال للاعتقاد، ضمن المعطيات الراهنة، بأن الأوضاع المالية للدول الخليجية قد تخلّ في المدى المنظور بالمعايير والسقوف السليمة، ولكن خطط الاستثمار العام يجب ان تبقى متيقظة، تحسباً لأي تطوّر غير منظور في أسعار النفط. ومن المعايير المهمّة التي تخضع لرقابة صارمة في أوروبا هي استقلالية المصرف المركزي الموحّد، واستقلالية المصارف المركزية الوطنية للدول الأعضاء. وهذه مسألة بالغة الأهمّية، لا بد من ان تكون موضع تفكير عميق ووعي مسبق في مرحلة التحضير للاتحاد الخليجي. فهل هناك استعداد لاستيعاب هذه الدرجة العالية من الاستقلالية؟ استقلالية المصرف المركزي تعتبر حجر الأساس في البنيان النقدي الأوروبي، لأن مهمته هي حماية الاتحاد وشعوبه من التضخم، والسهر على استقرار الأسعار. وربط الفكر الأوروبي بين قدرة المصرف المركزي على تحقيق هذه المهمّة وبين استقلاله الكامل عن السلطة السياسية. وتتجلى هذه الاستقلالية، المقدّسة أوروبياً، في انفراد المصرف المركزي بتحديد أهداف سياسته النقدية ووسائلها من دون أي تدخل من السلطة السياسية. وحصانة هذه الاستقلالية هي حماية مسؤولي المصرف المركزي من ضغوط الحكومة، وقدرة المصرف على تحديد وارداته ونفقاته من دون ضغوط من الخارج. هل سيتبنى الاتحاد الخليجي نموذج المصرف المركزي الأوروبي؟ ان ذلك لن يعني استقلال مؤسّسات النقد الوطنية فحسب، بل أيضاً، تأسيس مؤسّسة نقدية مشتركة خارج التراب الوطني، تتحكم بالسياسة النقدية وأهدافها ووسائلها. إن الإجابة على هذا السؤال المهم قد تشكل تطوّراً بارزاً، ليس على المستوى النقدي والاقتصادي فحسب، بل أيضاً، وخصوصاً، على مستوى فلسفة السلطة في العالم العربي. * خبير مالي، نائب سابق لحاكم مصرف لبنان.