الشيب حاصل لا محالة، فهذا الزائر على حين غرة، قد يتقبله بعضهم برحابة صدر، معتبرين إياه علامة وقار وهيبة كقول الشاعر: عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيَّرت بما هو عار ان تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار وشاعر آخر يقول فيه مرحباً: يا من يعلل نفسه بالباطل نزل المشيب فمرحبا بالنازل غير أن آخرين ينزعجون من رؤية الشيب أشد الانزعاج، بل يعتبرونه فاضحاً للأسرار، وعلامة من علامات الشيخوخة، لا بل ان المرأة تدير ظهرها لمن علاه الشيب، وفي هذا يقول أحد الشعراء: إذا شاب رأس المرء أو قلّ مال فليس له في ودّهِن نصيب في شكل عام، يمكن القول إن المفهوم السائد اليوم عن الشيب هو ان ظهوره ينذر بدخول مرحلة عمرية جديدة هي الشيخوخة، لذا نرى الكثيرين يلجأون إلى إخفائه بوسائل شتى للبقاء في عالم الشباب، أو لإعطاء"نظرية شبابية"عن أنفسهم. لكن السؤال الذي يطرح هو: لماذا يشيب الشعر؟ الشعر المنتصب أو المسترسل فوق رؤوسنا ليس بالبساطة التي يتصورها البعض. صحيح أنه ينتمي إلى الجلد، ويتعايش معه في تناغم وانسجام لكنه عضو يتمتع بنوع من الاستقلالية، فهناك أوعية دموية وأعصاب تغذية، وله أجهزة للإطراح والامتصاص. والشعرة تتألف من أجزاء عدة هي: - البصلة، وهي الجزء الاسفل من الشعرة المطمورة تحت الجلد. وهي المسؤولة عن تكوين أجزاء الشعرة المختلفة. وتحتوي فروة الرأس على 100 ألف بصلة. إن أي تأثير على هذه البصلة يخلف نتائج غير سارة للشعر مثل التساقط والتقصف والخشونة وغيرها. - جراب الشعرة، وهو عبارة عن كيس يمثل امتداداً طبيعياً للبصلة، وفيه تتصل الغدد العرقية. - الغمد، وهو القسم من الشعرة الموجودة داخل الجراب. - الساق، وهو الجزء الظاهر الذي نراه من الشعرة، ويتكون من مواد كيراتينية ميتة. ان مصنع تلوين الشعر يوجد في البصلات، ويتألف من خلايا صباغية تعرف بالميلانوسايت هي التي تعطي الألوان المختلفة للشعر. وعندما يبدأ مصنع التلوين بالإقلال من إنتاجه، يخسر الشعر لونه، وشيئاً فشيئاً يتوقف المصنع عن العمل فيبيّض الشعر، أي يحصل الشيب، الذي تتباين فترة وقوعه، من شخص إلى آخر وفقاً لعوامل وراثية. ان ظهور الشعر الأبيض نتيجة التقدم في السن هو شيء طبيعي، فمتى عبر الشخص عتبة الأربعين من العمر، يشح إنتاج الصباغ الملون بسبب عجز الخلايا المختصة عن تركيب هذا الصباغ. وتبدأ طلائع الشعر الأبيض بالظهور تدرجياً في رؤوسنا، ففي البداية نرى جحافله في المناطق الجانبية والسوالف، ثم يمتد إلى مقدمة الرأس، وبعدها يغزو مؤخرته قبل ان يعود إلى اللحية والشارب. وطبعاً ليست هذه هي القاعدة دوماً، فمن الممكن ان يغزو الشيب، أول ما يغزو، اللحية والشاربين ليزحف ذلك إلى مواقع أخرى. نصل الآن إلى بيت القصيد وهو الشيب المبكر، فهو يشكل كابوساً شديداً لشريحة واسعة من الناس، وهذا النوع من الشيب يحدث قبل الثلاثين من العمر. إذا كانت الغالبية العظمى ممن تجاوزوا العقد الرابع تتقبل زحف البياض إلى الشعر باعتباره عملية فيزيولوجية طبيعية لا مناص منها نتيجة التقدم في السن، فإن هذا الأمر هو غير ذلك عند من يحل الشيب على رؤوسهم قبل الأوان، خصوصاً عندما يأتي هذا الضيف الغليظ على حين غرة. تروي الوقائع التاريخية حدوث حوالى 30 حالة من الشيب المبكر الصاعق، لعل أشهرها ما قيل عن الملكة الفرنسية ماري انطوانيت التي شاب رأسها بين ليلة وضحاها، أي في الليلة التي سبقت موعد إعدامها، إبان الثورة الفرنسية في العام 1793، إذ ان شعرها تحول خلال ساعات إلى اللون الأبيض بسبب الفزع الشديد. غير ان البعض شكك في الأمر، لأن أحداً لم يرَ شعر الملكة الحقيقي من قبل، فهي كانت تضع دوماً شعراً مستعاراً. ما هي الأسباب الفعلية للشيب المبكر؟ لا أحد حتى الآن يعرف لماذا يحصل الشيب المبكر. بالطبع هناك افتراضات، والعلماء لم يستطيعوا بعد إعطاء أدلة دامغة حول الشيب، أما العوامل المتهمة بتورطها فهي: الوراثة. على ما يبدو، يلعب هذا العامل الدور الأكبر في حدوث الشيب المبكر، إذ ان هناك طفرة أو بضع طفرات جينية تتهم بشكل أو بآخر، في إيقاف عملية تلوين الشعر، وهناك من العلماء من يأمل بعزل الجينيات المسؤولة، من أجل إصلاحها، وبالتالي قطع الطريق على حدوث الشعر الأبيض. الضغوط النفسية. ان التعرض للخوف الشديد، والصدمات العصبية الحادة، والانفعالات الجياشة القوية، متورطة في إطلاق شرارة الشعر الأبيض، وكثيراً ما وقع على أسماعنا أن فلاناً شاب شعره من هول ما تعرض له، أما تفسير ذلك فمن الأرجح أنه يعود إلى الظروف الضاغطة التي تشل الخلايا الصباغية الملونة، فتعجز هذه عن تلوين الشعر. سوء التغذية. هناك أصابع اتهام تشير إلى دور بعض العناصر الغذائية في حدوث الشيب المبكر، من بينهما نقص الحديد، ونقص النحاس، ونقص الفيتامينات ب. وأشار علماء إلى ان زيادة الحموضة في الجسم ضالعة في قضية الشعر الأبيض، والعالم البريطاني ستيفن لانغلي هو من بين هؤلاء. غير أن زميله الدكتور فيليب كينغرلي الاختصاصي في أمراض الشعر يشكك في هذه النظرية، ويقول بأنه لا دليل علمياً عليها. بعض الأمراض العضوية. إن إصابة الشخص بعدد من الأمراض يمكن أن تخلف ظروفاً مؤهبة تساعد على حدوث الشيب المبكر، مثل بعض أمراض الغدة الدرقية، وأمراض الجهاز الهضمي، والأمراض المترافقة مع الحمى، والالتهابات المتكررة والمستمرة. عوامل هرمونية يمكن أن تسرع من آلية حدوث الشيب المبكر، كما الحال في نقص إفرازات الغدة النخامية القابعة في قاعدة الدماغ. هل من الممكن علاج الشيب؟ يعتمد علاج الشيب المبكر، بدرجة كبيرة، على إزالة الأسباب التي ساهمت في حدوثه، إضافة إلى الاهتمام جيداً بالصحة العامة، وتناول جرعات داعمة من الفيتامين ه، والفيتامين ب. والامتناع عن التدخين، والتغذية المناسبة بالإقلال من اللحم والشحم، والإكثار من الأطعمة القلوية مثل اللوز والتين والجزر والكرفس والخضار الورقية الخضراء. وطبعاً يجب عدم إهمال الراحة والاستقرار النفسي. أمّا عن الشيب الناتج عن التقدم في خريف العمر فإن كان يشكل مشكلة لبعضهم فلا حل له سوى الصبغة، وصدق قول الشاعر: لكل داء دواء يستطب به/ إلا الشيب فقد أعيا الأطباء