بدءاً انني لا أريد ان اقلل من قيمة الديموقراطية كأسلوب للوصول الى الحكم وتداول السلطة، فهي رغم هناتها الكثيرة - وأولى هذه الهنات انه لا يصل من خلالها الى الحكم الا الأثرياء وأصحاب الملايين غالبا - الا انها تجد القبول والرضا من شعوب الدول الغربية فصناديق الاقتراع وسيلة شفافة وعادلة لحد ما لاختيار المواطنين حكامهم وممثليهم بحرية. لكن ديموقراطية"ماما اميركا"لا يختلف اثنان انها شاخت وضعفت اوصالها، وملأت وجهها التجاعيد، وأصابها الخرف، ولكن السيد بوش واتباعه مازالوا يصرون على انها في عز شبابها، يلطخون وجهها بالالوان والمساحيق، ثم يتغنون بفتنتها وجمالها. ولأنهم يتدفقون رقة وانسانية ورأفة فقد عملوا بكل جد على تصدير ديموقراطيتهم هذه الجميلة الى العراق بأسلوب غير ديموقراطي وعلى أفواه البنادق فأشعلت ديموقراطيتهم حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر، ومزقت العراق ودمرت بناه التحتية، وحولت أراضيه الى نيران وسماءه الى دخان وأنهاره الى دماء ونهاراته الى خوف ولياليه الى أحزان، ولكنهم لغباء او تغاب، او من هذيان هول الصدمة لا يزالون مصرين إصراراً عجيباً على ان الديموقراطية لا تزال تترعرع على أراضي الرافدين وانها عندما يشتد عودها ستنسي أهل العراق الأحزان وتخرجهم من حالة المسكنة والاكتئاب التي يعيشونها. ولكن لا أحد مهما بلغ به البله وتمكنت منه البلادة وقلة العقل يمكن ان يُخدع بديموقراطية اميركا وحلفائها، فقد بانت سوءتها وانكشفت عورتها وسقطت عنها حتى ورقة التوت، ولكن ماذا نقول عن فرعون وقلة عقله؟ قبل عقود قليلة كان كثير من الشباب العربي بل والاسلامي يهيمون حبا في ديموقراطية الغرب، ويرون فيها المنقذ مما تعانيه امة العرب، ولكن حكام اميركا والغرب وعلى رأسهم الرئيس بوش ومن خلفه بلير - مشكورين - كشفوا القناع بأعمالهم المجنونة عن قبح ديموقراطيتهم وبشاعتها، فزالت غشاوات كانت على العيون، وأمحت أوهام عاشها الحالمون، وانقلب الحب الى كراهية او على اقل تقدير الى توجس وخوف، سيجعل لقاء الأحبة بعيدا جدا على الأقل في التاريخ القريب. ان ما أنزلته اميركا من بطش بكثير من دول العالم الثالث التي تريدها ان تتبع نهج الديموقراطية التي تبشر بها ومنها بالطبع العراق، باعد بين تلك الدول وتطبيق الديموقراطية أشواطا بعيدة. لقد ارتكبت اميركا ابشع الجرائم التي عرفها تاريخ البشرية في العراقوافغانستان فاغتصبت النساء وهُتكت الاعراض وأُذل الناس وأُهينت كرامتهم ومُسحت بآدميتهم الأرض وزُج بهم في السجون وعُذبوا عذابا تنوء به الجبال وجُندت الكلاب للاعتداء على أناس أبرياء تمزق لحومهم وتوقف أنفاسهم خوفا ورعبا، كل ذلك وما زال الرئيس بوش يخطط للفتك بدول أخرى وما زال يبشر بديموقراطيته الشوهاء السيئة السمعة، ولن يثنيه عن هدفه سوى انتهاء ولايته بعد اقل من عامين! الا يسأل بوش نفسه لماذا كل ذلك؟ أليس له ضمير يؤنبه على قتل الأبرياء وسفك الدماء وتعذيب الناس؟ الم يتحرك وجدانه لهلاك أكثر من 700 الف عراقي وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمصابين والمعاقين على يد القوات الاميركية والبريطانية الغازية تحت مظلة الديموقراطية الأكذوبة واذا لم تثره مأساة الشعب العراقي الا يثيره ويحركه ما يلحق بأبناء شعبه فقد استقبل الشعب الاميركي توابيت أكثر من ثلاثة الاف قتيل وتجاوز عدد الجرحى والمعاقين عشرين الفاً في ورطة اميركا الفيتنامية الثانية! كيف ينام ملء جفونه والناس المظلومون يقبعون في سجونه السرية والعلنية يعذبون فيها ويضطهدون؟ ثم كيف لا تهتز له شعرة وهو يرى استمرار المذابح في افغانستانوالعراقوفلسطين والآلة الاميركية المدمرة تطحن الناس طحنا؟ هل سيصحو ضمير بوش، ليرى انه كان دائما مع الباطل ضد الحق ومع الظلم ضد العدل ام ان ضميره قد مات ولا أمل في يقظته؟ ثم كيف يغمض لسيد البيت الأبيض طرف وهو يرى العراق مثلا بعد أربع سنوات من الاحتلال وقد عاد بصنائعه الى عصور الظلام وتمزق الى دويلات بعد ان كان دولة موحدة والتهبت نيران الحرب الأهلية بعد ان رفعت الفتن الطائفية رأسها في بلد لم يعرفها من قبل، وهجر أكثر من مليوني عراقي وطنهم ليعيشوا في مخيمات في دول أخرى وهجر أكثر من مليون ونصف مليون منازلهم ليعيشوا في مخيمات كئيبة داخل العراق كل ذلك تحت وطأة الآلة العسكرية الاميركية. هذا نذر قليل من كثير مما فعلته ديموقراطية القوة التي طال شرها البشر والشجر والحجر، ولم تفرق نيرانها بين بيوت الشعر وبيوت المدر، وبيد الديموقراطية نفسها الملطخة بالدماء قُتل الرئيس العراقي الراحل وبعض رفاقه في محاكمة سخرية قل مثيلها حتى في العصور المظلمة، وأوصلت الادارة الاميركية بمحافظيها الجدد، او قل شياطينها الجدد، بسياساتها الخرقاء ذلك البلد الى هذا المستنقع فقادت البلاد والعباد الى حاضر من نيران ومستقبل - ان لم يتداركه الله بلطفه - من رماد وسخام وهل تلد النيران الا الرماد والسخام؟! والسؤال ماذا حقق جورج دبليو بوش من انجازات؟ والاجابة انه لم يحقق غير خيبة الأمل ولم ينل غير الصفعات، وما قام به في العراق وصمة عار ليس في تاريخ الرجل وحده بل في جبين التاريخ الاميركي والشعب الاميركي الذي كافح في حرب طويلة ضد احتلال بلاده من المستعمرين حتى حرر كل شبر من أراضيه! ونقول كان بإمكان المحافظين المتشددين تحقيق مآربهم الخبيثة المتمثلة في ضمان تدفق النفط العراقي، وهو هدف الغزو ولا هدف غيره، حتى نفاذه باحتياطيه المؤكد 115 مليار برميل من دون اطلاق رصاصة واحدة، ومن دون دخول هذا النفق المظلم الذي دخلته ادارة بوش وجيشها الجرار الذي تأكدت هزيمته رغم رفض بوش الاعتراف بتلك الهزيمة واصراره ان النصر قادم، ورغم اعلان وزير دفاعه روبرت غيتس بأن جيشه بامكانه خوض حرب ثالثة! واميركا ان لم تقتل بيديها أوكلت من السفاحين من يقوم بذلك عنها، وتقف هي تتفرج وبراءة الاطفال في عينيها كأنها بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب فما تفعله اسرائيل على ارض فلسطين وما فعلته بأرض لبنان كله بطائرات ودبابات وقنابل وصواريخ اميركية، وبمباركة لا حدود لها من البيت الأبيض واليمين المتطرف، والسيد بوش الذي ينادي بالديموقراطية والحرية يؤكد ان ما يقوم به جنرالات الدولة العبرية في اسرائيل انما هو دفاع مشروع عن النفس، وان الغزو والاحتلال الاميركي لافغانستانوالعراق هو قمع للارهاب له مبرراته وشرعيته، بينما يعتبر المدافعين عن أوطانهم المناضلين من اجل حقوقهم المسلوبة ارهابيين وقتلة واذا كان السيد بوش قد ثقل عليه قول الحق فلا اقل من ان يسكت عن قول الباطل فلا يجمع على شعب فلسطين الجريح ظلمين ظلماً بالسنان وظلماً باللسان! ان الادارة الاميركية وعلى رأسها بوش شنت حروبا بتحد صارخ للامم المتحدة وميثاقها الذي يحرم بل يجرم مجرد التهديد باستخدام القوة ضد أي دولة، وبهذا التعدي الاجرامي نسفت اميركا نص القانون الدولي وروحه والعرف والشرعية الدوليين ومبادىء الاممالمتحدة وكل القوانين والمعاهدات الدولية، وداست معاهدة جنيف لعام 1949م بالحذاء القديم، وهي المعاهدة التي قصد منها حفظ حقوق الانسان التي ينادي بها بوش وبلير بلا حياء وهما أول من كبل نصوصها الواضحة وقطع أوصالها وداس عليها بالأعمال البشعة اللاانسانية في ابو غريب وغوانتانامو وغيرهما من السجون وبوقوفها بقوة مع اسرائيل في عدوانها الغاشم وجبروتها المستقبح. كل هذه الأعمال والمواقف المشينة، من اكبر دولتين تدعيان الديموقراطية، أقامت جداراً من الحقد والكراهية ضد الادارات الاميركية والبريطانية والاسرائيلية وجعلت الديموقراطية عند أهل الشرق الأوسط بعد هذه السنوات الأربع على احتلال العراق كما وصفها ادموند بيرك: أكثر شيء في العالم وقاحة. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية