مفهومان ثقافيان عنصريان لا يخلوان من نزعة استعلائية عدوانية، ينظر كلاهما إلى البشر، خارج حدودهم الجغرافية، كما ينظر الأعلى إلى الأدنى أو القامع إلى المقموع. أول هذين المفهومين: المركزية الأوروبية - الأميركية التي سادت لفترة طويلة من عمر البشرية، خصوصاً بعد حركة الكشوف الجغرافية، وتأسيس النزعة الاستعمارية التي تبعتها، والتي ظلت محافظة على خصائصها التكوينية على رغم تفكك الاستعمار الاستيطاني القديم والقضاء عليه، في سياق انطلاق الاستعمار الجديد وما ارتبط به من آليات هيمنة أكثر تقدماً وحداثة. ولا تزال المبادئ التكوينية لمفهوم المركزية الأوروبية - الأميركية باقية كما هي من حيث هي أصول ثابتة لا تتعارض ومتغيرات أو تباين تجلياتها. أما الأصل الأول فيرتبط بالثنائية الضدية التي تصل بين المركز والأطراف من منظور القيمة والأهمية. المركز أسبق في الوجود وأعلى في الرتبة وأقوى في الحضور، ويفرض صفاته على كل ما يتبعه، أو يجاوره ، أو يحاكيه، مقابل حجب هذه الصفات عن كل ما يتباعد عن المركز، ويقع في الهوامش النائية للأطراف التي تتضاءل مكانتها بقدر بعدها عن المركز، فتنحدر في القيمة والمكانة والرتبة نتيجة هذا البعد. ويقترن علو مكانة المركز وارتفاع قيمته بما يجعل منه الأعلى في كل الأحوال، بينما ينزل بالأطراف وهوامشها إلى الدرجات الدنيا، وذلك في ثنائية ضدية تكتسب أكثر من بعد، وتؤدي إلى أكثر من نتيجة، فالمركز الأعلى هو الأكثر إنسانية، والأكثر تميزاً بناسه الذين يتميزون بمكانة موقعهم، وذلك بما يجعل منهم الأعلى ذكاء، والأكثر معرفة، والأرقى علماً، والأكثر تقدماً في كل شيء. وعلى النقيض من ذلك سكان الأطراف والهوامش الذين يسقط عليهم مكانهم صفاته الأدنى، فتغدو تجمعاتهم أدنى في الرتبة والقيمة والمعرفة، فلا تغدو العلاقة بين الطرفين علاقة الأعلى الذي هو مصدر كل القيم وأصل كل تقدم بالأدنى الذي هو نقيض القيم وأصل كل تخلف. ويعني ذلك أن لا حياة ولا مستقبل للأدنى إلا باتباعه الأعلى، وإذعانه له، ومحاكاته إياه، ومن ثم انصياعه له واستجابته إليه في كل شيء، وعلى كل المستويات. الأمر الذي يجعل من علاقة الأعلى بالأدنى علاقة التابع بالمتبوع، سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، واجتماعياً، ومعرفياً. فالمتبوع الذي يحتل المركز هو الأصل الذي تحاكيه الهوامش، وتنقل عنه نقل المذعن والمقلد الذي لا يملك أية قدرة مستقلة على الإبداع الذاتي. وكما برّرت هذه الثنائية الضدية قديماً كل أشكال العنف والقمع والاستغلال التي مارسها المتبوع القامع على التابع المقموع، إبقاء على وضع العلاقة التي تحقق مصلحة المركز على حساب الأطراف والهوامش. تأكّدت هذه الثنائية في الوقت نفسه بإيديولوجيا التبعية التي هي نوع من الوعي الزائف الذي يُبقي التابع على تبعيته، مبرراً له إياها، ومحسّناً له أوضاعها، وفي الوقت نفسه، يقوم بتبرير وضع التبعية التي يرسّخها في وعي المتبوع، مخايلاً له بسلامتها وصوابها وعدالتها وإنسانيتها ونبالة أهدافها، خصوصاً من منظور الارتقاء بمن هم أدنى في وضعهم البشري أو حتى الحيواني إلى ما يجعلهم أقرب إلى البشر وإلى الحياة الإنسانية التي يحتكر مفاتيح قيمها وأسرارها الأعلى في العرق والجنس والثقافة واللغة والعلوم وغيرها من أسرار التقدم. وقد تولّد عن هذا المفهوم العنصري القمعي الإيديولوجي للمركزية الأوروبية - الأميركية أكثر من مفهوم، آخرها مفهوم صراع الحضارات. وهو مفهوم ناتج عن أيديولوجيا التبعية التي انغلق فيها المتبوع على نفسه إلى أن صَدَّقها، وفرض التصديق بها على غيره. وعندما رأى أن التابع الخانع، المقموع، بدأ يعود إلى وعيه، ويدرك هوان حاله، فيتمرد عليه مطالباً بحقوق الإخاء والحرية والمساواة وغيرها من قيم الثورة الفرنسية التي حسبها الأعلى حقاً خالصاً له، ووقفاً عليه بوصفه الأرقى عنصراً، والأعلى مقاماً وقيمة، والأكثر إنسانية في الوقت نفسه - أقول عندما رأى المتبوع القامع ثورة التابع المقموع وصحوته، وما صحب هذه الثورة من متغيرات اقتصادية، وثقافية، اخترع القامع أيديولوجية موازية تُبقي على الانقسام وتحافظ عليه. وكانت النتيجة مفهوم صراع الحضارات الذي يحقق أهداف التبعية بوضع التابعين وضع المنقضّين على التابع، المتأهبين للقضاء عليه، وإحلال أديانهم الأدنى مكانة، وثقافاتهم الأقل شأناً، محل ديانة المركز التي اكتسبت تميزها من تميزه، وارتفاع قامتها من ارتفاع قامته. ولم يكن من المصادفة أن يصدر مفهوم صراع الحضارات من أحد الأصوليين الأميركيين، صامويل هنتنغتون، المنتسب إلى طغمة اليمين الحاكم للولايات المتحدة إلى اليوم. وهو اليمين الذي أطلق عليه المفكر البريطاني - الباكستاني الأصل - طارق حسن صفة الأصولية، موازياً بين أصوليته وأصولية بن لادن في الآليات والمحركات والثوابت التي مهما بلغت درجة التضاد بين عناصرها، فإنها تنطوي على مشابهات وتوازيات على مستوى البنية العميقة المتجاوبة للمكونات المحركة للنقيضين، في اتجاهيهما المتعاديين ظاهراً، والمتجاوبين جوهراً. وكان من الطبيعي أن تتواصل مقاومة التبعية، في مدى التمرد على كل أشكال الاستعمار القديم والجديد، وأن تنهض الدول التابعة بتقويض مفهوم التبعية، وتعرية المركزية الأوروبية - الأميركية بما يكشف عن تهافتها وزيفها الأيديولوجي. ولم يكن ذلك منفصلاً عن الدعوة إلى حوار الحضارات، مقابل الدعوى بصراع الحضارات، وأن يقترن ذلك كله بمفهوم التنوع الثقافي الخلاق. وهو مفهوم إنساني جديد لا يخلو من قيم العدل والتكافؤ. تبنت اليونسكو مفهوم التنوع الثقافي الخلاق الذي صاغته دول العالم الثالث، وقبلت به التيارات الإنسانية التي تنطوي عليها دول العالم الأول، وقد تولت مجموعة من كبار المفكرين والمفكرات الذين يمثلون قارات العالم صوغ الأفكار الأساسية للمفهوم في كتاب أصدرته اليونسكو، بعنوان"التنوع الثقافي الخلاق"وتولى المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة ترجمته ونشره سنة 1979 بتقديم من كاتب هذا المقال. والمفهوم هو نقض للمركزية الأوروبية بوجه عام ومواجهة موازية لمفهوم صراع الحضارات، فهو يسعى إلى استبدال الوئام بالنزاع، ومحاولة لتحقيق التكامل الثقافي بين الأمم. وهو تكامل يقوم على المساواة والتكافؤ وتقدير الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية لكل قطر من الأقطار، وذلك من منطلق الإيمان بأن كل ثقافة تمتلك من عناصر الغنى ما يضيف إلى غيرها من أنواع الغنى اللانهائي في ثقافة البشر جميعاً، ويؤدي إلى قوة حضورها الإنساني بوصفها تنوعا خلاّقاً، يقوم على الحوار والتفاعل والتجاوب. وعندما تتجاور وتتحاور الثقافات المتباينة التي ينطوي كل منها على ثرائها الخاص، واصلة بين ثوابتها ومتغيراتها، في حال من الجدال الفعال، والتعاون المستمر، والتفاعل القائم على الاعتماد المتبادل، يكون الناتج الإجمالي هو وحدة الثقافة الإنسانية القائمة على التنوع الخلاّق الذي يصل بين أقطار الكوكب الأرضي، محترماً التعددية العرقية والحضارية، وذلك من دون أن يغمط أي قطر حقه وقدره، ويؤسس لعلاقات واعدة: قوامها الاحترام المتبادل، والتعاون الفعال، والتفاعل الذي لا يتوقف عن صنع خرائط عقلية جديدة، تفضي إلى ما لا نهاية له من أحلام التقدم والتطور التي سرعان ما تتحول إلى حقائق قريبة المنال من طريق المساعدة غير المغرضة من دول الشمال لدول الجنوب، وذلك بما يسهم في تصغير الفجوة بين التقدم والتخلف، والعمل المشترك على استبدال التقدم بالتخلف في كل مكان، سعياً وراء عالم جديد وأحلام واعدة، يمكن تجسيدها على أرض الكوكب الأرضي الذي تحوّل إلى قرية كونية، متجاوبة الأطراف، بفضل الثورة الهائلة في تكنولوجيا الاتصال التي قلبت المفاهيم القديمة للزمان والمكان، وأسهمت جذرياً في تقويض حواجز اللغة والأجناس والأعراق والمعتقدات، خصوصاً في سعيها نحو إنسانية جديدة، تحمل من الأحلام والوعود ما لا حَدَّ لثرائه وإمكاناته الخلاقة. لا ينفصل مفهوم التنوع الثقافي الخلاق الذي أصبح علامة على انطلاق المسيرة المتضافرة المتآزرة للتقدم الإنساني عن مفهوم حوار الحضارات الذي هو لازمة من لوازم التنوع الثقافي ووسيلة لتحقيقه في الوقت نفسه. وبقدر ما أصبح مفهوم حوار الحضارات بديلاً ونقيضاً لمفهوم صراع الحضارات، في سياقات صراع الأيديولوجيات والمصالح، فإن حوار الحضارات لا ينفصل عن مبادئ دالة، أصبحت علامة عليه وخصائص تكوينية له. ولذلك لم يعد معنى حوار الحضارات منفصلاً عن قيم ومبادئ التسامح وعدم التمييز بين أنواع العقول التي جعلها الله أعدل المواهب توزعاً على خلقه، خصوصاً في الدوائر التي تختفي فيها الثنائيات الضدية المتعادية ما بين الأعلى والأدنى، الأصيل والمهجّن، الحضارة الراقية بعقلها المتعالي والحضارة البدائية بعقلها الذي لا يفترق، جذرياً، في ما قيل وشاع أيديولوجياً، عن عقل الحيوانات، وتحل محل الثنائية المتضادة القمعية السابقة ثنائية سمحة في تقبلها الآخر واحترامه، ومتآزرة في قيامها على الشراكة والتعاون، واحترام حق الاختلاف بوصفه حقاً مقدساً لا يكتمل معنى الحرية والإخاء والمساواة، من دون إدماجه فيه، وذلك كي يصبح الحوار الوجه الآخر للتنوع والتعدد في العملية التي تضيف إلى البشرية كلها ما يؤكد زمنها الواعد الآتي بوعود المستقبل.