عام من اليوم، رئيس الوزراء المصري الجديد يصل دمشق لحضور جلسة تاريخية يقر فيها المجلس التأسيسي السوري دستور البلاد الجديد، استجابة لدعوة من رئيس المجلس الانتقالي الموقت الذي يستقبله في المطار، ومعه رئيس الجمهورية الليبية الذي كسر البروتوكول واختار البقاء في صالة كبار الزوار ريثما يصل الضيف المصري بعدما سبقه بالوصول إلى العاصمة السورية. أجواء احتفالية في دمشق، مع لمسة من الحزن، آثار المعارك لا تزال ظاهرة على بعض المباني، أخبار اليوم السارة لم تغيّب الموضوع الأساس الذي بات يشغل السوريين، المفقودين. أرقام مخيفة. التلفزيون السوري بات نقطة جمع المعلومات والصور والشهادات التي يقلبها أهاليهم بحثاً عن مصير أحبائهم. مرت تسعة أشهر على سقوط النظام بعد مجازر واقتتال عنيف في بعض المدن بعدما كادت سورية أن تدخل في حرب أهلية حقيقية إثر تمرد وحدات من الجيش. حالة العنف التي انتشرت دفعت قوى إقليمية بدعم دولي إلى التدخل، ما سرّع وتيرة التمرد في صفوف الجيش والأمن، فعجل بسقوط النظام الذي لم يبقَ حوله سوى أبناء «الطائفة»، والذين قاتلوا بشراسة في العاصمة وبعض المدن الساحلية. في الوقت الذي انهار النظام بسرعة في المدن الأخرى، بخاصة الحدودية والتي دخلتها قوات «حماية المدنيين» من دول مجاورة وسط ترحيب شعبي. حرص الأتراك الذين قادوا التحالف على الخروج بسرعة، بل إنهم غابوا عن اجتماع اليوم واقتصر تمثيلهم على وزير الخارجية حتى لا يثيروا أي قلق إقليمي إذ زاد الحديث طوال العام عن الأطماع التركية في المنطقة بعدما أدى «الربيع العربي» إلى حالة فراغ كبير. هدف اجتماع اليوم والذي تحضره مصر وتونس وليبيا وسورية واليمن هو الاتفاق على تحالف اقتصادي، ربما مشروع لسوق عربية مشتركة بين اقتصادات هذه الدول المتقاربة والتي تشترك في مسمى دول «الربيع العربي». الأردن حائر، يرى نفسه ضمن نسيجه الطبيعي مع هذه الدول، بخاصة سورية ولبنان، لكنه اطمأن أكثر بعد أن شجعته الرياض على المضي قدماً في المشروع الجديد، مؤكداً لها أن ذلك لن يؤثر على موقعه ضمن مجلس التعاون لدول الخليج العربي. ... حسناً، يجب أن أتوقف هنا، فليس هذا هو السيناريو الوحيد الممكن في عالم عربي متغير، هناك احتمالات عدة لحال العالم العربي بعد عام، ليس كلها جيداً نسبياً، فهل نحن مستعدون لها؟ قد يبقى النظام السوري عاماً آخر، ولكن سيكون منهكاً كالقط الجريح. العقوبات الاقتصادية زادت من معاناة الشعب الذي لا يزال غاضباً يتحرك في تظاهرات يعقبها مزيد من القمع، الأمن والجيش متوتران، مشدودان إلى أقصى حد فوق كل الأراضي السورية، بعض أجهزته توحّشت وباتت تغير على الأهالي كأنها قوة احتلال... بل هي قوة احتلال. علاقات دمشق متوترة إلى أقصى حد مع أنقرة وعمّان والرياض، والجميع قلق من احتمال حرب إقليمية، إيران و «حزب الله» غير بعيدين عنها. في مصر تجددت التظاهرات، وتوترت العلاقة بين الجيش والشارع والأحزاب السياسية بعدما أجل المجلس العسكري موعد الانتخابات إلى أجل غير مسمى بسبب الوضع الأمني... احتمالات سيئة لا يتمناها أحد، ولكن ربما هناك من يتمناها! زاد الطين بلة توتر الوضع داخل الأراضي المحتلة، الضفة وغزة، إذ اندلعت انتفاضة جديدة، اهتدت إلى سلمية النضال متأثرة بحركات النضال التي سادت وانتصرت في دول «الربيع العربي». خرج الفلسطينيون يصرخون سلمية... سلمية، في وجه جنود الاحتلال. لا رصاص ولا حجارة، وإنما مجرد صدور شجاعة، غير أن الإسرائيليين واجهوهم بالعنف، عدد القتلى الفلسطينيين يزداد كل يوم والتظاهرات مستمرة، بل امتدت إلى فلسطينيي 1948 ما أجج الغضب في الشارع العربي من الخليج إلى المحيط. هل يمكن لأي قوة إقليمية في المنطقة أن تضبط إيقاع الأحداث وتوجهها للأفضل أو للأقل خسارة وتكلفة؟ من يستطيع القيام بهذا الدور؟ لا بد أن تكون قوة مستقرة وقادرة. نظرة سريعة على خريطة المنطقة ستكشف لنا أن الدول المرشحة لذلك هي المملكة العربية السعودية ودول الخليج وتركيا فهي قادرة ومستقرة. إيران انحازت تماماً إلى النظام السوري وباتت تهدد وتتوعد، ولا فائدة من التواصل معها. الولاياتالمتحدة فقدت صدقيتها في الشارع العربي بسبب موقفها من الاستقلال الفلسطيني. نرجع سريعاً إلى اليوم، الدول المرشحة لضبط إيقاع الربيع العربي لا تزال مترددة. دول الخليج صاحبة المبادرة الوحيدة لحل الأزمة اليمنية لم تُلزم الرئيس علي عبدالله صالح ببنودها، يقدم ما يشاء منها ويؤخر ما يشاء، فأربك الجميع. وتركيا لا تزال تهدد وتتوعد النظام السوري، ولكن، متوقفة أمام الخطوة الحاسمة الصعبة. صورة غير مشجعة للقوة الوحيدة المستقرة في المنطقة. فإذا ما عجزت عن ضبط اليمن وسورية في ساحتهم الخلفية، فكيف للسعودية والخليج وتركيا أن تضبط إيقاع عالم عربي متغير ممتد من الخليج حتى المغرب؟ هناك قاعدة مزعجة «إذا كان من المحتمل لأمر أن ينتهي إلى النتيجة السيئة غير المرغوبة، فإنه في الغالب سينتهي إليها». هذا بالطبع إذا ما جلس المعنيون يراقبون «الربيع العربي» من غير تدخل منهم وهو يتحول إلى خريف عاصف بارد. بالتالي، لا بد من أن تتحول هذه «المجموعة المستقرة القادرة» إلى الفعل الإيجابي، والتحرك والتفكر ووضع خطط استباقية تشمل المنطقة كافة. تنفيذ المبادرة الخليجية في اليمن لا بد من أن يتم، وضمان تحول مصر وليبيا وتونس نحو الديموقراطية ضروري، والتوصل إلى مصالحة في البحرين بين مكوني المجتمع هناك ونزع الفتيل الإيراني منها أساسي لاستقرار الخليج، ودعم الثورة السورية والتخلص من النظام الطائفي الأحادي هناك سيريح المنطقة وجيران سورية المباشرين، وإسرائيل ليست منهم. كل هذا مهم لظهور شرق أوسط سعيد ومفيد للسعودية وتركيا صاحبتي أكبر اقتصاد في المنطقة، وظهورهما كقوة إسلامية مع مصر يستطيع أن يكسر الاستعلاء الإسرائيلي - الأميركي في عالمنا، ويحجم إيران ويعيدها إلى مكانها الطبيعي، ما يمكن أن يمهد لحصول تحول داخلها يلغي طموحاتها العقيمة التي تتنافى مع التاريخ والجغرافيا السياسية ويحولها إلى جار طيب. أحلام كبيرة... لا، إنه مشروع يمكن للقادرين تحقيقه فيستفيدون وشعوبهم من فرصة تاريخية لن يجود الزمن بمثلها مرة أخرى. * كاتب سعودي