شهدت بريطانيا في اعقاب الحرب العالمية الاولى حضوراً واسعاً للكتابة النسائية كان من اسبابه اتساع فرص التعليم للنساء وتقبل فكرة عمل المرأة بصورة اوسع. هذا ما تقوله النشرة المصاحبة لمعرض خاص بالكاتبات البريطانيات في المرحلة الممتدة بين 1920 و1960، يحضن صورهن الفوتوغرافية في صالة"ناشيونال بورتريت غاليري"في لندن. لكن الكاتبة الراحلة آيفي كومبتون بيرنت ترى ان الحضور النسائي الواضح في تلك الفترة سببه توافر شروط شخصية لدى المرأة الكاتبة:"لديها مصدر دخل مستقل، لديها الوقت، وحدها ومن غير رجل يكبلها بمسؤولياته"! وبالطبع لا يمكن الاتفاق كليا مع شروط بيرنت، فالكاتبات المشمولات في المعرض عموماً وان توافرت لهن الاستقلالية المادية، كن متزوجات ايضاً. الا ان تصريح الكاتبة بيرنت يعكس طبيعة شخصية النساء الجديدات في الفترة اللاحقة على الحربين العالميتين والتي شهد فيها المجتمع البريطاني المحافظ تغيرات دراماتيكية واضحة على اكثر من مستوى. المعرض يطل على حياة 24 كاتبة، بالصورة والكلمة، اديبات كتبن في الادب البوليسي وقصص الاطفال والرواية الكلاسيكية والرومانسية. بعضهن اديبات مرموقات وبعضهن متوسطات الموهبة، واخريات كن متقدمات على عصرهن وقاربن موضوعات حساسة، كالجنس. لقد تملكني شعور بالدهشة والذنب أمام مفاجأة انني اعرف ثلاث كاتبات فقط من كاتبات الادب البريطاني في تلك الفترة: فرجينيا وولف، دوريس ليسنغ، وباربرا كارتلاند. وربما كان السبب وراء ذلك انهن في الاساس أكثر حظاً في التغطية الاعلامية من زميلاتهن اللواتي عاصرنهن. واذا كانت وولف وليسنغ معروفتين في عالم الكتابة السردية والدراسات النسوية وهما الاكثر حضوراً في مشهد الادب حالياً من حيث النتاج الادبي او ما يصدر من دراسات، فان الاخيرة اي كارتلاند، معروفة بالنسبة اليّ لا بسبب كتابتها، بل بسبب انها كانت ضيفة شبه دائمة في البرامج التلفزيونية وبعض الصحف قبل ان ترحل اواخر تسعينات القرن الماضي، فهي حماة والد الاميرة ديانا، أي والدة زوجته الثانية بعد انفصاله عن زوجته الاولى. كانت غريبة الاطوار، لم ترتد في آخر حياتها الا اللون الزهري أو الوردي وتضع الماكياج الفاقع على وجهها، لتبدو اقرب الى بطلات رواياتها"الخياليات"الشبيهات ببطلات روايات عبير الرومانسية المترجمة الى العربية، والسلسلة مترجمة في جزء منها عن رواياتها الرومانسية التي يجب ان تنتهي ببقاء الحبيبين، وكانت تنتج روايتين سنوياً. هذا عن الروائيات الثلاث اللواتي اعرف، فماذا عن ال 21 كاتبة ممن فوجئت بصورهن والمعلومات المقدمة عنهن؟ يساعد استعراض تلك الاسماء وانجازاتها على رسم صورة افضل للمشهد الادبي في بريطانيا من حيث الحضور النسائي فيه في النصف الاول من القرن العشرين. بريطانيا، مثل غيرها من الدول الاوروبية خرجت من الحربين العالميتين أكثر تمرداً وانقلاباً على المفاهيم التي رافقت انطلاق تلك الحروب. ومن المفاهيم التي تعرضت للاهتزاز دور المرأة في المجتمع بعد ان حلت محل الرجل كقوى عاملة اثناء فترة غيابه في الاعمال العسكرية، وما كان يمكن اعادتها الى البيت مرة اخرى في زمن السلم، اضافة الى ان المجتمع كان في حاجة الى البناء بعد الخراب الكبير الذي تعرض له. لم يكن المشهد الادبي مستثنى من الحالة العامة في تلك المجتمعات، فقد فرض الانتاج النسوي وجوده على ارفف محلات بيع الكتب للمرة الاولى مع سوق نشر قوي للاقلام النسائية، وكان لبعض الاسماء صيت في حياتهن خفت بغيابهن، فلم تلتفت لهن حتى اقسام تدريس الادب الانكليزي في الجامعات البريطانية، على رغم ان الانتاج الادبي للكاتبات في عشرينات القرن الماضي، وبحسب شهادة كاتبة مثل فرجينيا وولف، لفت الانتباه وفاق في نوعيته كل ما كتب من انتاج نسوي قبل قرن مضى. عطفاً على ما سبق يكون المعرض التفاتة مهمة تعيد الاعتبار الى اقلام ظلمت بسبب التجاهل الاعلامي او الاكاديمي، او لاي سبب آخر، كما يعيد تذكير الزائرين بهذا الحضور النسوي خلال فترة زمنية تلت الحرب الاولى لتشمل الحرب الثانية حتى فترة الثورات الشبابية في الستينات. واستكمل ناشيونال بورتريت غاليري مهمته باقامة ورش عمل ومحاضرات في شهر كانون الثاني يناير تحت عنوان"سيدات الادب: كاتبات من القرن التاسع عشر والقرن العشرين". لسبر مسار الكاتبات الروائيات في العصر الفيكتوري والعصر الحديث، بدءاً من جين اوستن مروراً بالشقيقات برونتي الى فرجينيا وولف الى الكاتبات المعاصرات، امثال الروائية الراحلة ايريس ميردوخ والروائية إي. أس. بيات. شيلا كاي سميث اشهر الكاتبات في المعرض هي فرجينيا وولف المثقفة ثقافة رفيعة وقد ساهمت كتابتها التجريبية، رواية وتنظيراً، في تحريك النقاشات الادبية في عشرينات القرن الماضي، وكانت عضواً مهماً في مجموعة بلومزبيري الفنية الادبية التي جمعت عدداً من الاسماء البارزة خارج السرب التقليدي للثقافة البريطانية. كما يلفت الانتباه في حضور المرأة الكاتبة في المشهد الادبي البريطاني ان كثيرات منهن كن شجاعات كفاية في المبادرة لكسر محرمات والحديث عن موضوعات فائقة الحساسية في المجتمع، وواجهن ما يمكن ان يسمى"العقوبة الفضائحية"قياساً بقيم تلك الفترة. أيضاً قدمن مقاربات جديدة لقضايا مطروحة في مجتمعهن. الكاتبة شيلا كاي سميث 1887- 1956، كتبت 31 رواية تدور غالبيتها في مقاطعتها الاصلية ساسيكس جنوببريطانيا حول عالم الريف وعلاقاته والطبيعة المختلفة عن عالم المدينة، في الوقت الذي كانت تعمل فيه معلمة وتساعد زوجها في ادارة المزرعة التي يملكانها. وفي صورتها في المعرض نرى كاتبة تبدو تجلس الى طاولة الكتابة وكأنها انهت للتو مهماتها العملية الاخرى! انجيلا برازيل انجيلا برازيل 1868-1947، كانت رائدة في مجال الكتابة للفتيات بصورة غير مسبوقة، فهي لا تعظ ولا تتحدث كراوية بعيدة عن بطلاتها بل تترك لشخصياتها فرصة التعبير عن انفسهم وبأصواتهم. وتدور احداث رواياتها في مدارس البنات للطبقة المتوسطة، حول الصداقة والتعامل مع السلطة بأشكالها. تستخدم التعابير واللكنة المحلية. لم تتزوج وكرست نفسها لرفقة والدتها التي ترملت مبكرا وارتحلت معها الى اوروبا، وعاشت في السنوات الاخيرة من حياتها مع شقيقها وشقيقتها في مقاطعة ويلز. نويل ستريتفيلد كذلك نرى في اعمال الكاتبة نويل ستريتفيلد 1895-1986 جرأة شديدة في متابعة قضايا حساسة، مثل الاطفال غير الشرعيين وحمل الفتيات الصغيرات. وهذه الجرأة تثير الانتباه لفتاة نشأت وسط عائلة متدينة اذ كان ابوها راعي كنيسة. عملت كممثلة ايضاً، واولى رواياتها حذاء الباليه لفتت اليها الانظار واعتمدت على تجربتها في التمثيل. اضافة الى ذلك كتبت ستريتفيلد قصصاً للاطفال. نانسي ميتفورد ومن الكاتبات اللواتي يلفتن الانتباه بمواقفهن الجريئة المغايرة لما هو متوقع منهن في الحياة، الكاتبة نانسي فريمان ميتفورد 1904-1973 المولودة لاب اقطاعي هو البارون ريدزديل. تزوجت رجلاً يسارياً وذهبت معه الى اسبانيا حيث شارك في الحرب الاهلية الدائرة هناك ضد نظام فرانكو، وكان لمشاهدتها تدفق اللاجئين الاسبان الى الحدود الفرنسية واندماجها في معاناتهم ما جعلها تصبح اشتراكية هي نفسها. تضمنت كتابتها سخرية من الطبقة الارستقراطية الانكليزية فوصفت الرجال بالاميين والنساء ب"غير المسؤولات". التقطت الصور في استوديو متخصص بالتصوير او في اماكن خاصة مثل الصالة او المكتب. وبعيداً من المعلومات المرفقة بكل كاتبة، فان تأمل الصورة يعرفنا بصاحبتها بشكل او بآخر، ما يشبع قليلاً فضول الزائر الذي تريحه فكرة رؤية صورة الكاتب وليس قراءة انتاجه فقط. والكاتبات في هذا المعرض يقدمن صورة المرأة العاملة الجديدة في مجتمع ما بعد الحرب، لكن تبقى لكل منهن خصوصيتها مثل الطبقة التي تنتمي لها. كاتبات خرجن من نطاق المجهول بالاختباء خلف الكتاب الى بريق الشهرة في المجتمع الذي لم يكن قد تعود بعد على هذا الحضور القوي للمرأة الكاتبة. في الصور نرى كاتبة تتزيّن بالبروش والعقد اللذين يرمزان الى انتمائها الطبقي الارستقراطي او الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، مثل باربرا كارتلاند ونانسي فريمان ميتفورد. وما جذبني اكثر في الصور الكاتبات امام طاولات الكتابة، فمن صاحبة نظرة ساهمة الى البعيد تمسك بالقلم وكأنها تكتب شيئاً فوق دفتر صغير انجيلا برازيل الى الفتاة البسيطة بثوبها وتسريحة شعرها امام اوراق كثيرة يزدحم بها مكتبها نويل ستريتفيلد. اما روبي ميلدرد آيرز 1883- 1955 فتبدو غير مهندمة تميل الى السمنة ومكتبها مزدحم بأغراض وبالأوراق والآلة الكاتبة وهي تقرأ ورقة في يدها، ربما كانت تتابع المعاملات المالية لرواياتها الكثيرة. فهي تعترف في حوار مع صحيفة ديلي ميل عام 1955 انها تكتب لاجل المال، وكانت تستطيع كتابة عشرين الف كلمة في اليوم! وعن الاجراءات التي تمر بها في الكتابة تقول:"اولاً اتفق مع الناشر على المبلغ، ثم احدد العنوان، بعد ذلك، اشرع في كتابة الرواية"! ولا تدلل الصورة المعروضة لها والتصريح المرفق على اي رومانسية لكاتبة اشتهرت في مجال الروايات الرومانسية. وفي مكان آخر نرى صورة الكاتبة انيد باغنولد التي اشتهرت بروايتها"مخمل قومي"، كأم هذه المرة، مع طفليها داخل استوديو بكامل زينتها لتدلل على الخلفية الارستقراطية التي تنتمي لها من طرف والدها وزوجها معاً. اما الكاتبة ايثل مانينغ فتبدو في هيئتها من المنتمين الى مرحلة تيار فن السينما الجديدة إفانت غارد بصورتها الغامضة التي لعب المصور في اضاءتها. كانت ايثل مانينغ يسارية وهي من النساء القلائل اللواتي كتبن بتعاطف مع النظام السوفياتي في روايتها"النساء والثورة". لكن من بين الصور التي جذبتني أكثر من غيرها في المعرض صورة الكاتبة دوريس ليسنغ التي ولدت عام 1919 ولفتت الانظار اليها منذ روايتها الاولى"العشب يغني". ولا تزال ليسنغ على قيد الحياة تفاجئنا من وقت لاخر بكتاب جديد، وهي نشأت في جنوب روديسيا المعروفة الآن بزيمبابوي، وكتبت عن التفرقة العنصرية التي مارسها البيض ضد الافارقة سكان البلاد الاصليين. هذه الكاتبة ذات الشخصية الجذابة التي التقيتها قبل سنوات في احد المهرجانات الادبية وكانت توقع كتابها الجديد، وجدت صورتها وهي شابة متطابقة مع تلك التي في ذهني، صورة التقطت عام 1956 امام طاولة الكتابة حيث الالة الكاتبة وقطة تلاعبها الكاتبة، ووجه صبوح وطفولي مريح في تعابيره مع الغريب. مجموعات الصور اهديت الى ناشيونال بورتريت غاليري من اصدقاء او اقارب للكاتبات، او من المصورين انفسهم، وبينهم ثلاثة اشتهروا في مجال التصوير الفوتوغرافي في تلك الفترة، بول تانكري وسيسيل بيتون ومان راي.