كتب الروائي التشيخي الكبير ميلان كونديرا مقالة نقدية في صحيفة"لوموند"الفرنسية 26 كانون الثاني/ يناير 2006 عن روائية"غرفة داموقليس السوداء"La Chambre Noire de Damocles في ترجمتها الفرنسية دار غالميار كان وضعها الكاتب الهولندي ويليم فريديريك هرمانز. انها رواية تشويق يشوبها الغموض في مجريات الاحداث والواقعية القاسية في وصفها. ولم تلق هذه الرواية الصدى المفترض لدى القراء في كل أنحاء اوروبا، الا انها استرعت اهتمام الروائي كونديرا حتى انه لم ينثنِ عن كتابة مقالة عنها هو الذي لا يكتب عن الروايات إلا نادراً. وشرع يصف تفاعله مع الرواية وطريقة قراءته لها. وظهر المقال وكأنه بحد ذاته رواية كتبها روائي عن روائي آخر. وفقاً لكونديرا، بدأ مشوار قراءته للرواية حين أحس بأنه غرق في سطورها ووجد نفسه امام رهبة عدد صفحاتها الكبير، وتملكته الدهشة حين أنهى قراءتها خلال جلسة واحدة. وهذا الكتاب هو عبارة عن رواية تشويق تصف سلسلة أحداث لا يغيب عنها الترقب للحظة واحدة. الأحداث تقع خلال السنة الأولى للحرب العالمية الثانية والسنة التي تلتها. وجد كونديرا ان من يقرأ وصف المؤلف يخال الرواية منقولة عن حقيقة واقعة لا مواربة فيها تتخللها تفاصيل غير مملة فتغدو واقعيتها مخيفة. وقد استهوت كونديرا هذه التوليفة الكتابية التي جمعت بين الجانب الواقعي للرواية قلباً وقالباً والجانب الآخر الذي يجد نافذة أخرى الى المجهول البعيد كلياً عن الواقع. وفي نظر كونديرا، قد تكون هذه التوليفة الكتابية من مخلفات الحرب التي تزخر بالمجهول والمبالغات، او ربما هي ثمرة الإصرار أو التصميم الروائي الذي يسعى بشغف الى الخروج عن المألوف وملامسة الخيال المفضل لدى اتباع المذهب السريالي. ويرى كونديرا ان الواقع والخيال حيث يغدو الغريب واقعاً والواقع غريباً يمتزجان في شخصية"اوزيوود"، وهو بحسب الرواية"ولد قبل أوانه بشهرين"وپ"وضعته والدته اثناء قضاء حاجتها"وغدا رجلاً لا لحية له وقصير القامة، وقد حالت قامته دون التحاقه بالخدمة العسكرية. وبات يتردد على أندية الجودو رافضاً الاستغناء عن الرجولية التي لم تكتب لمظهره. وخلال الايام الاولى من الاحتلال الألماني لهولندا، يلتقي"أوزيوود""دوربيك"وهو شاب بدا شبيهه الى حد التنافر، إلا ان مظهر"دوربيك"كان كاملاً بلا أي شائبة فما كان من زوجة"اوزيوود"البشعة إلا أن قالت له"انت تشبه"كوربيك"بقدر ما قطعة البودنغ السيئة تشبه قطعة البودنغ الجيدة". وافتتن"اوزيوود"بپ"دوربيك"حتى أن الاخير اقنعه بأن يلتحق بحركة المقاومة. فشرع ينفذ بكل امانة الاوامر التي كانت تأتيه من خلال الهاتف او البريد او مبعوثين مجهولين او من خلال"دوربيك"شخصياً لدى مقابلته التي كانت نادراً ما تتم. ويعد كونديرا هذا المشهد مشهداً عاماً تتوالى احداثه من خلال نظرة رجل لم ينجح في إدراك منطق واجباته وأسبابها وهو يتواصل مع اشخاص موصى بهم إلا انه يجهلهم. ويسعى خلال تأملاته الصامتة الكثيرة الى ادراك مجريات حياته وتهدئة خوفه من الوقوع في شرك المجهول. فكيف له ان يميز بين المقاوم والجاسوس؟ وكيف له ان يفرق بين المهمة الحقيقية والمهمة المزيفة؟ أرض المعركة التي يخوضها سوداء حالكة تغيب وجهتها بحضور الضباب. انها طريقه يشوبها الإبهام: فعمليات الاغتيال التي يؤمر بها وحشية، يرتكبها بلا أي ندم إنما بيدين ترتعشان وأسنان تصطك، فهو على قناعة تامة بأنه لا بد من القيام بما أمر به. ضميره الذي يغيب عنه الندم لا يستند في تبرير هذه الجرائم الى الأسباب السياسية او الايديولوجية، وإنما الى اقتناع بسيط ورد في الرواية:"أنا ضد الألمان لأنهم أعداؤنا. لقد احتلوا ارضنا وأنا اقاتل دفاعاً عن نفسي". وفي نظر كونديرا، ان كانت البساطة سيدة هذه القناعة الا انها لن تدوم في وجه الازدواجية الاخلاقية الحالكة التي سيواجهها خلال المواقف او المهمات التي ينفذها. ويرى كونديرا ان الشاعرية السوداء لا تفارق عالم"هرمانز"الروائي: فليتمكن"اوزيوود"من تصفية احد اعضاء فرقة الغستابو السرية النازية في فيلا مهجورة، كان لا بد له من قتل امرأتين بريئتين هذا اذا افترضنا، وفقاً لكونديرا، ان لكلمة براءة وجوداً في قاموس هرمانز الروائي. احدى المرأتين زوجة رجل الغستابو والأخرى أتت الى الفيلا لتصطحب صبياً صغيراً الى آمستردام هو ابن رجل الغستابو. ونجح"اوزيوود"من استثناء الصبي الصغير من القتل، إلا انه ولحماية نفسه عمد بعدئذٍ الى إيجاد مخرج له. فما كان منه إلا ان اصطحبه الى محطة حيث بقي معه في القطار ثم رافقه في شوارع آمستردام. وها هو الصبي المدلل يخوض احاديث تافهة لا نهاية لها وهي احاديث لم يستطع"اوزيوود"سوى المشاركة فيها. هذا خير مثال على الشاعرية السوداء: الجمع بين الجريمة الثلاثية وحديث طفل مدلل. ومع اقتراب دخول الجيش الاميركي، يحضر"دوربيك"زي ممرضة لپ"أوزيوود"وكان هذا لقاءهما الأخير لتأمين تنكر يحميه خلال ايام الحرب الاخيرة. وحين كان يتخفى بهذا الزي، استرعى انتباه ضابط ألماني حاول استمالته بعد أن ظنه المرأة الاولى التي تلفت انتباهه وهو مثلي الميل... حاول كونديرا الاكتفاء بهذا القدر من الرواية، فهو لم يكن يريد ان يقصها على القارئ بغناها الذي فاق توقعه. إلا أنه عاد واكتفى بالمختصر المفيد: ما إن قدمت الحرية التي طال انتظارها الى هولندا مع قدوم الآليات الاميركية حتى اشتد جو الرواية القاتم. فقد أوقف المحررون القادمون الى هولندا"أوزيوود"بعد ان اعتبرته مخابراتهم جاسوساً. حاول الدفاع عن نفسه. ويسأل كونديرا: أما للأسابيع الطويلة التي أمضاها في أحد السجون الألمانية ان تشفع له؟ كلا، على العكس، فبنظر المحررين أراد الألمان بسجنه حمايته. فما كان منه إلا ان استعاد الاغتيالات الوحشية التي ارتكبها. أليست بشاهدة على براءته؟ كلا، لا أحد يصدق انه ارتكبها. وبات خلال أشهر استجوابه يبحث عن شاهد يشهد لمصلحته، ولكن من دون فائدة فجميع الشهود توفوا. وپ"دوربيك"؟ هو الوحيد القادر على إنقاذه. ودأب"اوزيوود"يطالب به، الا ان المحققين لم يسمعوا حتى بهذا الاسم من قبل وبات دفاعه عن نفسه بلا أي دليل على البراءة. ويعلق كونديرا على مجريات الرواية هذه معتبراً ان اذا كان صحيحاً ان موجهي التهمة لا دليل اتهام لديهم، فإن الشبهات تتحول في نظر المنتصر حقائق. غرق"اوزيوود"في غموض أخلاقي مميت. واعتبر كونديرا ان تلك هي الحال، فباستمرار مدافع الحرب يبقى الغموض غير مرئي لمن تكون بصيرته معمية بالشغف. ولكن ما إن يتوقف صوت هذه المدافع وتحين ساعة المساءلة والأحكام حتى يتحول هذا الغموض آفة تعاني منها الأمم على امتداد سنوات طوال شأنه شأن دخان يتصاعد بعد الحريق فتصعب إزالته. وپ"أوزيوود"؟ كيف كان مصيره؟ سيئاً، لقد رمي بالرصاص. وأخيراً حين أغلق كونديرا صفحة الكتاب الاخيرة، أحب أن يتعرف أكثر الى كاتبه، فسأل: كيف كانت مسيرته الروائية؟ هل كانت شاعريته السوداء تخبئ في طياتها ميلاً الى السريالية؟ هل كانت مناهضته للمألوف لأسباب سياسية؟ ما هي علاقته بوطنه؟ وثمة اسئلة اخرى لا حصر لها. ثم عمد كونديرا الى ذكر بعض التواريخ: ولد"فريديريك هرمانز"سنة 1921، وسنة 1958 قام بنشر رواية"غرفة داموقليس السوداء"ثم غادر هولندا سنة 1973، ومكث عشرين سنة في باريس التي غادرها متوجهاً الى بلجيكا. ومنذ وفاته سنة 1995، يعتبره الهولنديون أكبر روائي حديث، وها هي اوروبا الآن تتعرف اليه تدريجاً.