في كتابه "قادة الفكر" يلحّ طه حسين كثيراً على ضرورة الأخذ بالمماثلة التامة بين الشرق القريب الأوسط وأوروبا، منطلقاً من قراءة امتثالية لكل ما شاع في المناهج القائلة بأنّ تاريخ الغرب نسيج متماسك ومطرد من الأحداث، وأنه - ومعه التاريخ الإنساني - محكوم بغائية تقوده إلى نهاية محددة. والمطابقة بين الشرطين التاريخيّين للغرب وللشرق القريب مهمة بالنسبة الى طه حسين الذي يقول:"إنّ الأوروبيين اتخذوا القاعدة الآتية في حياتهم، وهي أن ليس إلى فهم الحياة الحديثة على اختلاف وجوهها من سبيل إلاَّ إذا فهمت مصادرها الأولى. ومصادرها الأولى، هي الحياة اليونانية من جهة والرومانية من جهة أخرى، أو قُلْ هي الحياة اليونانية، لأن حياة الرومان كانت في أكثر وجوهها متأثرة بالحياة اليونانية". وتقوده هذه المقدمة إلى ما يأتي:"إذا كنا أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك سبيل الأوروبيين، لا في حياتنا العقلية وحدها، بل في حياتنا العملية على اختلاف فروعها أيضاً، فليس لنا بدٌّ من أن نسلك سبيل الأوروبيين في هذه الحياة التي استعرناها. أقول:"إننا أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك السبل الأوروبية في كل فروع الحياة، ونعدل عن حياتنا القديمة عدولاً يوشك أن يكون تاماً... ما أحسب أننا نكتفي من هذه الحياة بتقليد القردة، وإنما أعلم أننا نريد أن نتخذها حياة لنا عن فهم وبصيرة، وإذن فلنفهمها قبل كل شيء، ولنتبين - إذا كان الأمر كذلك - كيف كانت حال الفكر في تلك العصور اليونانية الخصبة". واضح أنه يريد تقرير الأمر الآتي: بما أنّ مصادرنا الثقافية نحن والغرب واحدة، وهي"الحياة اليونانية"، وبما أنّ الغرب ربط بين حاضره وماضيه، ذلك الماضي الذي تمثله حياة اليونان، فليس أمامنا نحن إلاَّ تمثُل تلك الحياة أيضاً. وهذا الفهم الذي يختزل"الحياة اليونانية"إلى فاعلية عقلية خالدة مجردة عن التاريخ، يجعله لا يرى في تلك الحياة إلاَّ ما يرغب فيه هو، إلى درجة يصبح فيه أحد أكثر الأحداث خلافية، وهو فتح الإسكندر للشرق، ممارسة عقلية شفافة لا نظير لها. فالإسكندر، بطل الفتح اليوناني، يظهر في خطاب طه حسين"قائد فكر، قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء". وإليك تفصيل هذا الحكم:"عد إلى الفلسفة اليونانية التي ازدهرت في القرنين الخامس والرابع قبل المسيح، والتي انتهت بإفساد النظم السياسية اليونانية، ولم توفّق في إيجاد نظم جديدة تخلفها، عُدّ إلى هذه الفلسفة تجدها كانت تطمح، قبل كل شيء ومن دون أن تشعر، إلى توحيد العقل الإنساني والأخذ بنظام واحد في التصوّر والتفكير والحكم. ولم يكن بدٌّ إذا انتصرت هذه الفلسفة من أن تتقارب الشعوب وتتعاون على توحيد الحضارة ورقيّها، وعلى إيجاد نوع إنساني متحد الغاية متشابه الوسائل في مساعيه، ولكن ما السبيل إلى انتصار هذه الفلسفة؟ ما الوسيلة إلى تحقيق غايتها هذه؟ أما الدعوة والنشر، فما كان من شأنهما أن يضمنا هذا النصر، ولا أن يحققا هذه الغاية، فكيف تتصوّر انتشار فلاسفة اليونان في البلاد الشرقية، وإذاعة فلسفتهم في هذه البلاد، إذ لم يُمهد لذلك بإزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين اليونان وغيرهم من الشعوب! فهم الإسكندر هذا وجدّ فيه، فوفق له: أخضع العالم القديم المتحضّر كله لسلطان واحد، وأزال بين شعوبه الفروق... وأتاح للآداب اليونانية والفلسفة اليونانية أن تتغلغلا في أعماق الشرق، وتؤثرا في نفوس الشرقيين، وتصبغاها بالصبغة اليونانية التي كانت أُعدّت من قبل لتكون صبغة عامة خالدة للعقل الإنساني كله. بل لم يكتف الإسكندر بإزالة هذه الفروق السياسية وإخضاع العالم القديم كله لسلطان واحد، وإنما طمع في شيء آخر أبعد مدى وأعسر تناولاً، طمع في إزالة الفروق الجنسيّة بين الناس، ولم يكتف بخلط الشعوب بعضها ببعض، بل أراد أن يمزجها ويستخلص منها شعباً واحداً. انظر إليه حين استقر في بابل، وقد أخذ في هذا المزج بالفعل، فبدأ يزاوج بين اليونانيين والمقدونيّين من جهة والفرس من جهة أخرى، حتى لقد أحدث في يوم واحد عشرة آلاف من هذه المزاوجة، وأنفق في تشجيع هذه الحركة أموالاً ضخمة، وجعل نفسه وزعماء جيشه قدوة لعامة الجيش، ولم يكتف بهذا، بل أزمع إحداث حركة عامة، وأراد أن ينقل طبقات ضخمة من الفرس إلى البلقان، وطبقات ضخمة من البلقان إلى الفرس، ولا يريد بذلك كله إلاَّ مزج الشعوب، وإزالة ما بينها من الفروق الجنسيّة. ولكن الموت عاجله قبل أن يبدأ في هذه التجربة التي لو تمت لغيّرت وجه الأرض، ولحولت سير التاريخ". ويضيف طه حسين:"إن الإسكندر لم يكن يريد أن يفتح الأرض وحدها، إنما كان يريد أن يفتح معها العقل، بل قل إنه إنما كان يفتح الأرض تمهيداً لهذا الفتح العقلي، بل لا تستعمل كلمة الفتح، فلم يكن الإسكندر فاتحاً بالمعنى الذي فهمته الأجيال المختلفة، لم يكن صاحب حرب وقهر وغلب، وإنما كان صاحب مودة ومحبة وإخاء وتسوية بين الناس". حرصنا على تثبيت هذا النص بكامله، لأنه يكشف عن طبيعة قراءة طه حسين للماضي الذي اعتبره الغرب أصلاً من أصوله. فهو يقصي أحداثاً جوهرية، ويستبعد نتائج محققة، ويستبدلها باصطناع تاريخ شفاف، كأنّ وقائعه تمّتْ في الأثير. وهو في الوقت ذاته يسكت عمّا هو أساس، ويتحدث عمّا هو هامشي، ويخلع على مسار التاريخ بُعداً لا يأخذ في الاعتبار محركاته ومحدداته وموجهاته، وكل ذلك ليصوغ رسالة أخلاقية خالدة كان الغرب وما زال ينهض بها، بحسب تصور طه حسين، وهي وحدة العالم في فضاء عقلاني يقود إلى تقدّم وتطور دائمين. الغرب ذو طابع كوني برسالته الأخلاقية منذ الإسكندر، فلمَ لا يكون الآن كذلك؟ إنه بحسب هذا التصوّر يمضي بمشروع الإسكندر، ليس هذه المرة في الشرق، إنما في العالم كله، يحطم الكيانات السياسية، ويهدّم التشكيلات الاجتماعية، ويقوّض الأنساق الثقافية، لأن وجود تلك الكيانات والتشكيلات والأنساق يحول دون حضور الفكر الغربي الخالد الذي يستمد شرعيته من اليونان. فالغرب ذو مشروع إنساني شامل منذ البداية. هذه هي باختصار شديد رسالة"الرجل الأبيض"الذي برفعه شعار الكونية، يستأثر بكل شيء. طه حسين، لم يقل أبداً إن تلك الفلسفة اليونانية الساعية إلى"توحيد العقل الإنساني"إنما استقرت على هيئة مفاهيم مجردة يتداولها صفوة من اليونانيين أنفسهم، بمعزل عن الحركة الشاملة للحياة، وهي في نهاية المطاف لم تعالج إلاَّ هموماً ذهنيّة غاية في التجريد، ولم يقل إنّ عملية المزج بين الشعوب التي أشار إليها، إنما هي، اغتصاب شامل لعشرة آلاف سبيّة مشرقية من جانب عشرة آلاف جندي روماني، وإذا كان الإسكندر - بحسب طه حسين - جعل"نفسه وزعماء جيشه قدوة"، فلأنه استأثر لنفسه ولقادة جيشه بالأميرات، ولم يكن يريد"نقل طبقة ضخمة من الفرس إلى البلقان"، إلاَّ لقمع بؤر التمركز القوية في المشرق وإعادة توطينها في أماكن نائية للسيطرة عليها، وهي ممارسة شاعت بعد الإسكندر، فاقتلعت مجموعات عرقية كثيرة من أوطانها، واستبعدت إلى مناطق بعيدة، أما ما عبّر عنه بأنه نقل"طبقات ضخمة من البلقان إلى الفرس"فهو لا يعدو أحد احتمالين: نفي من يعارضه، أو منح الرومانيين امتياز السيطرة على المشرق واستيطانه. وما حصل بعد ذلك يبرهن على خطأ تفسير طه حسين، إذ تقاسم قادة الإسكندر تلك البلاد المفتوحة، وعدّت إلى قرون طويلة ممتلكات رومانية. إلى ذلك، فإنّ قراءة طه حسين المشبّعة بالموجّه الغربي المتمركز حول ذاته، تسوّغ نشر الفكر بقوة السلاح، وتجعل منه"أيديولوجيا"مرتبطة بغايات وأهداف معينة. فبحسب هذا المنظور، لا يمكن فلسفة هادفة إلى"توحيد العقل الإنساني"وساعية إلى إيجاد"نوع إنساني متحد الغاية، متشابه الوسائل"أن تنتشر بپ"الدعوة"في ذلك المشرق الغارق في خموله وسكونه، فلا بد والحال هذه من"إزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية"، أي القضاء على الكيانات والتشكيلات القائمة. هنا يظهر الإسكندر، بصفته بطلاً أدرك معنى الرسالة التي ينبغي عليه القيام بها. إذ"أخضع العالم القديم المتحضّر كله لسلطان واحد"، متيحاً بذلك للثقافة اليونانية أن تتغلغل في المشرق، وتوقظ المشرقيين من سباتهم، ليصطبغوا بالصبغة اليونانية. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يعود فاتحاً، بل ينبغي استبعاد هذه الكلمة، إذ كان قائداً فكرياً غايته دمج الأجناس في ظل ثقافة خالدة. وبهذه الكيفية تعمم العولمة نموذج الثقافة الغربية. انتزع طه حسين وقائع هامشية جداً، واصطنع سياقاً ثقافياً أدرج فيه الإسكندر، فظهر حاملاً رسالة أخلاقية فريدة لا مثيل لها، إلاَّ رسالة الرجل الأبيض في العصر الحديث. فأقصى تماماً الحروب الدموية القاسية بين اليونان وفارس وبين الرومان وفارس، وتناسى الآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتلك الحروب، واختزل الصراع كله برغبة الإسكندر في فتح جسر يدشن من خلاله ممراً للثقافة الإغريقية إلى الشرق. ومن الواضح أنّ هذه القراءة تنهض على مسلّمات نُقضت في الغرب نفسه في كثير من الأوساط الفكرية والتاريخية، لأن آلياتها تفتقر الى قوة التبصّر في أسباب الوقائع ودوافع الأحداث، وهي آليات مرتبطة بنوع من التفكير الرغبوي الاختزالي الذي يندفع في إضفاء مسوّغات بسبب من قصور واضح في الحفر النقدي الدائم المسكون بالسؤال، وجمع الأسباب وعرضها، من دون التورط في أحكام ذاتية تجزيئية لأن هذه الأحكام سرعان ما تنقض ذاتها بذاتها. طه حسين نفسه، في ما يخص هذا الموضوع، كان ركّب للإسكندر صورة مناقضة في مقدمته لكتاب أرسطو"نظام الاثنيّين"الذي أصدره مترجماً عام 1921. وذلك قبل سنوات قليلة من الصورة الأخّاذة التي رسمها له في كتاب"قادة الفكر"الصادر عام 1925، قال إنه"لم يكد يقهر الفرس، ويملك"بابل"وغيرها من المدن الشرقية المقدسة حتى طغى وتجبّر"، وراودته أحلام لأن"يكون ملكاً شرقياً، وسلك في ذلك سبل ملوك الشرق من المصريّين والفرس، فأراد أن يُعبَد وأن يُتخَذ إلهاً". ومع أنّ طه حسين يمر على موضوع"الدمج العرقي"، إلاَّ أنه يتجاوزه بسرعة إلى قضية الغرور والطغيان عند الإسكندر، وينبغي علينا أن ننزّل دلالة"يقهر الفرس"وپ"يملك بابل"وپ"طغى"وپ"تجبّر"، ورغبته في أن يؤلّه ويُعبَد في سياق الحكم الذي يصدره طه حسين، لتتكشف لنا صورة الإسكندر المناقضة لما ظهرت عليه في"قادة الفكر".