الحوار الذي أجراه محمد صلاح في "الحياة" مع الدكتور سيد إمام عبد العزيز المعروف باسم "الدكتور فضل" يوصف بفقيه الجهاديين ومنظرهم المعاصر كان أكثر وضوحاً من الوثيقة التي نشرتها صحيفتا"المصري اليوم"في مصر و"الجريدة"في الكويت. والفارق بين الوثيقة والحوار هو نفسه الفارق بين التنظير العلمي الأكاديمي والواقع المعاش، فالوثيقة على ما أراد صاحبها هي جزء يضاف إلى كتابه"العمدة في إعداد العدة"وربما أيضاً إلى كتابه"الجامع في طلب العلم الشريف"، والكتابان اعتبرا مرجعية حركية وفقهية لكل فصائل العمل الجهادي في العقود الثلاثة الأخيرة واستند إليهما كل الذين قاموا بعمليات"قتالية"في أماكن مختلفة من المعمورة ومن ثمّ رأى الكاتب أخيراً أن يتبرأ من استدلال المستدلين وأن يصحح أخطاء شرعية وقعت في الجهاد حسبما يرى ويريد. أهم المحطات الصادمة في حوار"الحياة"ذلك العنف الذي اتسمت به كلمات الدكتور فضل إزاء صديقه القديم الدكتور أيمن الظواهري. وصدمتني شخصياً عبارات الدكتور فضل التي ذكر فيها أن الظواهري كان عالة عليه"تعليمياً ومهنياً ودينياً وشخصياً"، صحيح أنه لم يكن لنا أن نحيط بكل ما أثار صاحبنا، فلم نكن معهما في غربتهما التي طالت، لكننا عايشنا الظواهري سنوات قليلة في السجون في صدر شبابنا، والحق أنه كان كريماً ودوداً يستوعب كثيراً من إخوانه في ظروف السجن القاسية. نختلف مع الظواهري فكرياً وحول الانقلابية في منهجه وفي تحالفاته الأخيرة التي خرج بها من قتال العدو القريب إلى قتال الدنيا كلها من حوله، لكننا نشهد له إنسانياً وفي أخلاقه. وأذكر أن أقلاماً كثيرة نهشت في لحمي حينما أصدرت كتاب"أيمن الظواهري كما عرفته"، على رغم أني أثبتُ في ذلك الكتاب خلافي الفكري مع الرجل، وأنصفته إنسانياً، غير أني لاحظت صمتاً لم أرتضه إزاء الاتهامات التي كالها صاحب الوثيقة ضد الظواهري الإنسان. قدر كبير من الصمت راجع، ربما، إلى حال الذهول التي أصابت كثيرين من هول ما قال الدكتور فضل وكاله للظواهري ولحليفه أسامة بن لادن وللقاعدة وفكرها وبرنامجها. ويبدو ما قال الدكتور فضل مألوفاً لكثيرين، على اعتبار أنه ردده قبل سجنه، فمنذ عام 1993 تحديداً وكل المتابعين لملف جماعة الجهاد يحيطون بحقيقة الخلاف بين الرجلين والحرب الكلامية التي استعرت بينهما بسبب التعديلات التي أدخلها الظواهري على كتاب"الجامع في طلب العلم الشريف"، والجديد أنه ذكر الآن علنا وعلى صفحات الصحف ما كان يتردد بصوت مكتوم. وتبدو الإشكالية الحقيقية في أوساط"الإسلاميين"في رغبتهم التكتم دائما على النقد الذاتي الذي يصدر عادة من بينهم، تأسيساً على عدم الرغبة في نشر الغسيل المتسخ!! ادعاءً للعصمة واستكمالا للمنظر البهي في ثياب التقى على رغم أن سنة الحياة تنطلق من كون ابن آدم خطاء لا يتستر على خطئه وخير الخطائين التوابون. أشرنا إلى سابقة ذيوع مثل هذه الآراء عن الدكتور سيد إمام الشريف منذ عام 1993 وهذه أكدها غير واحد من الشخصيات التي ساقت اعتراضاتها في وجه"وثيقته"وحواره مع"الحياة"كما أنها تدحض ما تردد عن أنه كتب وثيقته تحت ضغط أو إكراه. واستفاض الرجل في تفنيد هذا الاتهام سواء في متن وثيقته أو ثنايا الحوار الذي أداره بكفاءة معتادة الصديق محمد صلاح بما لا يبقى لنا مجالاً للخوض فيها وإلا عد ذلك تزيداً لا معنى له. على أي حال أثار الرجل في حوار"الحياة"مثلما ردد في وثيقته أنه لم يوافق على أي أعمال عنف في مصر ولا على توسيع الأهداف الأميركية، وترجح المعلومات المدققة صدق روايته. فالدكتور هاني السباعي"مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية في لندن"أكد لي هذه الطبيعة لدى الشريف حتى ضجر بعض الشباب منه واعتبروا مسلكه مسلكاً سلفياً علمياً لا يتناسب مع منهج الجهاد!! ومن ثم يكون الرجل منسجماً مع نفسه في ما يورد من ملاحظات أو مراجعات في هذا الخصوص، لكن روايته عن تملصه من عضوية جماعة الجهاد سواء منذ تأسيس الخلية القديمة في المعادي وأن مساعدته للظواهري لم تكن إلا لكونه زميلاً له في كلية الطب أو زعامته لجماعة بيشاور لم تلق لديّ قبولاً مثل سابقتها، فالمعلومات التي احتوتها أدبيات جماعة الجهاد على مدى الثلاثين عاماً الأخيرة أكدت دور سيد إمام في خلية المعادي أو في جماعة بيشاور. وأرى أن أحد أكثر نقاط الضعف في مراجعات الجماعة الإسلامية الأولى تبرؤ القادة من مسؤوليتهم في الأحداث والعمليات التي ارتكبها الشباب، وها هو فضل يكرر الخطأ ذاته، فكان الأكرم له أن يؤكد تلك المسؤولية المفترضة وهو الأمر الذي سيزيد مراجعاته صدقية واحتراماً. أكد الشريف على سطحية النظرة إلى العمليات التي قامت بها جماعة الجهاد في مصر بين عامي 1993 و 1994، من محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق حسن الالفي ومرورا بمحاولة اغتيال الدكتور عاطف صدقي رئيس وزراء مصر السابق، وانتهاء بفشل مخططات استهداف فوج إسرائيلي في منطقة خان الخليلي في القاهرة وقتل شاهد الإثبات في قضية عاطف صدقي. أحداث أيلول سبتمبر 2001 هي من جهة تنظيم"القاعدة"خيانة للصديق وغدر بالعدو وكارثة على المسلمين. هكذا وردت عبارات الشريف قاطعة في إدانة أحداث 11 أيلول سبتمبر، وهو ما يجب أن يدفع قيادة القاعدة التاريخية ممثلة في قطبيها الكبيرين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري إلى الحوار مجدداً حول هذه النقطة المأزومة، ليس في تاريخ التنظيم فحسب وإنما في تاريخ الحركات الجهادية قاطبة وكل من عانى من أثارها. وأذكر أنني دعوت الدكتور أيمن الظواهري لمناسبة مرور عام على تلك الأحداث إلى حوار مشابه لتقويم أثار تلك التفجيرات في نيويورك وواشنطن، وعلى رغم انه لم يرد صراحة، لكن كلماته وصلت عبر طرق عدة قطعت باستمرار قناعاته التي أودت بحركة"طالبان"وإمارة أفغانستان الإسلامية وزرعت القوات الغازية في قلب تلك الدولة التي بذل الشباب العربي المسلم الغالي والنفيس من أجل انهاء الاحتلال الروسي لها، والذي تبدل باحتلال أميركي أوروبي، وهناك إشارة بالغة الأهمية وردت في حوار"الحياة"تتمثل في أن الناس في حاجة ليسمعوا إجابة شافية من قيادة القاعدة، وأيضاً لو أمكن من قيادة"طالبان"وهي التي تتعلق بارتكاب تلك التفجيرات من خلف ظهر الملا محمد عمر!!. أورد صاحب الوثيقة 15 بنداً و4 تنبهات تحتاج إلى الحوار حول ما احتوته من مواضيع فقهية بالغة الأهمية، وتتعلق بصلب ما يقوم به الشباب من عمليات قتالية، وأبرزها نظرية الخروج على الحاكم الذي لا يحكم شريعة الله. هناك ملاحظة تتعلق بإغفال الوثيقة ثم الحوار مسألتين، على رغم تأكيده عدم جواز الخروج على الحكام للعجز وعدم التكافؤ من الناحية الشرعية ثم الواقعي بحكم العادة حسبما رآه والذي يرتبط بعجز الحركات الشعبية تغيير النظام في مصر، أولاهما بيان دور الدعاة والنخب والأفراد في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في ضوء الحديث سيد الشهداء حمزة ورجل قام على إمام جائر فأمره ونهاه فقتله وهو ما يمكن تصنيفه بحرية الرأي والتعبير ونقد الحكام وبيان العيوب والمظالم في سياساتهم، وأما الثانية، فهي التي بحق حركات المقاومة والتحرير في مقاومة الاحتلال الأجنبي والعمل على دحره من كل أرض مسلمة. وحسن الظن بالرجل يقتضي التأكيد على إغفال تلك الأمور باعتبارها من المسلمات التي ينبغي أن تعنى بها الأمة وهو يعنى أساساً بأخطاء عرضت في مسيرة الجهاد ووقع فيها كثير من الجماعات الجهادية. أزعم أنني من الذين اهتموا على مدى ال 15عاماً الأخيرة على الأقل بضرورة اعتماد استراتيجية جديدة تتواءم مع طبيعة المرحلة، ومن الذين نادوا مبكراً بوقف العنف وكان الغرض من هذا كله صنع مناخ معتدل يسمح بإعادة التقويم في مسيرة رحلة جهاد طالت وإمكانية اعتماد وسائل وآليات تتناغم مع حقيقة الدين في بلاد المسلمين، وأن الدعوة تاهت بين دخان القنابل وأصوات المدافع والرصاص ووسط أشلاء القتلى فإذا كنا وصلنا إلى بر الأمان فعلى الدعاة والعلماء والمفكرين المخلصين أن يعمدوا إلى إفادة المسلمين جميعا من نتيجة المبادرات التي طرحت والمراجعات التي تعرض، وألا تصبح مسخاً لا يستفيد منه سوى الحكومات أو الحكام المستبدين. علينا أن نبحث عن موضع قدم وسط الأمم الجادة في سباق التقدم والتقنية والتكنولوجيا والعولمة، إننا أمة كبيرة ماجدة ومجيدة ومن حق أجيالنا الصاعدة أن نعيدها إلى سابق عهدها بالعلم والإيمان والتمسك بثوابت الإسلام وأخلاقه وآدابه. * محام مصري