هل الرأسمالية هي نتاج التطور الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي وتشترط حتماً مناخاً خاصاً بها لم تحققه وربما لن تحققه كثير من الفضاءات الأخرى لأنها لم تمر في السيرورة الأوروبية نفسها؟ وأين وصلت أطروحة ماكس فيبر حول ضرورة وأسبقية، وربما حصرية، وجود مجتمع بروتستانتي لقيام رأسمالية فاعلة؟ ولماذا انحطت أوروبا في القرون الوسطى وهل كان قيام الامبرطورية الإسلامية على حدودها الجنوبية هو السبب الأهم في ذلك؟ وما هو التاريخ الاقتصادي للمجتمعات الإسلامية في العصور المتقدمة والوسيطة، وما علاقة ذلك التاريخ بما حدث في أوروبا خلال عصور انحطاطها ثم نهضتها؟ تكفي هذه الأسئلة الكبيرة لأن تشغل وقتاً ومساحات كتب عدة. لكن بين أيدينا كتاب حديث الصدور وشيق الأطروحة لباحث أميركي لا يكتفي بمواجهة تلك الأسئلة فحسب، بل يجادل أن الرأسمالية الأوروبية كما نراها الآن وكما تطورت في جغرافيتها الأم إنما تعود في جذورها الى فكر وممارسة العرب والمسلمين في التجارة وتنظيراتهم المعمقة وانشغالهم بها على طول قرون. جين هيك في كتابه"الجذور العربية للرأسمالية الأوروبية"، والذي ترجمه باقتدار محمود حداد ونشرته مؤسسة"كلمة"و"الدار العربية للعلوم"، يتحدى كثيراً من الطروحات السائدة في الأدبيات الغربية لجهة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أوروبا والعرب في العصور الوسيطة وأثرها. أهم تحد أكاديمي يؤسس هيك كتابه عليه هو نقض أطروحة عالم تاريخ الاقتصاد البلجيكي هنري بيرين التي انتشرت منذ أوائل القرن العشرين وتقول"إن قيام الدولة الإسلامية على الشواطئ الشرقية للمتوسط أدى إلى قطع الطرق القديمة للتبادل التجاري التقليدي بين الدول الأوروبية وآسيا، مما ترك أوروبا الغربية دون أسواق لتصريف البضائع، الأمر الذي انتهى إلى تراجع اقتصادها ليصبح نظاما اقطاعيا يتميز بمقايضة السلع، وهو نظام كان سائدا في العصور المظلمة". ينقض هيك هذه الأطروحة ويشرح في المقابل توسع وتعمق التجارة العربية الإسلامية ليس فقط مع جنوب أوروبا حتى في أوج لحظات العداء بين الطرفين، بل مع بقية أصقاع العالم في آسيا وأفريقيا. ويرى أن المنطقة الأوروبية التي لم تكن موحدة أو متجانسة كانت جزءاً بسيطاً من جغرافيا العولمة التجارية التي انساح إليها وفيها التجار العرب بحثاً عن الربح واستيراد وتصدير البضائع. لكن الأهم هنا هو أن الأساليب التجارية والانفتاح المالي ودور اليهود التسويقي مما اتصفت به التجارة الإسلامية انتقل إلى جنوب القارة الأوروبية عبر موانئ إيطاليا وصقلية، ومنها إلى بقية القارة في القرون اللاحقة. كما أن"السوق الإسلامية"وفرت مكان جذب كبير للتجار الأوروبيين لتصدير بضائعهم ومواءمتها مع ذائقة المستهلك المسلم الغني تماماً كما هي تأثيرات السوق الغربي وذائقة المستهلكين فيه الآن هي أحد مفاعيل الصادرات الآسيوية. وبالنسبة إلى هيك فإن"أحد الأسباب الأساسية في عملية الانتقال التكنولوجي التجاري كان سهولة تطبيق الشريعة الإسلامية الاقتصادية على عمليات التبادل التجاري، وفقا للشرائع التي وضعها الفقهاء المسلمون الذين كان الكثيرون منهم يعملون في التجارة، فقد قدم هؤلاء مجموعة قوية من التسهيلات المتعلقة بالشراكة والتسليف والتوكيل التي مدت تجار القرون الوسطى بكل ما يلزمهم لتفعيل التبادل التجاري". يستعرض هيك في المقابل العوامل التي أدت برأيه إلى ضعف وانحطاط الامبرطورية الرومانية والبيزنطية، وهي في مجملها عوامل داخلية. فقد كان هناك في المقام الأول التردي العام التدرجي في البنية الاقتصادية والاجتماعية في حقبة ما بعد القرن الثالث الميلادي. فنتيجة للحروب الأهلية المتصاعدة داخل الأمبرطورية، وانتشار الطاعون والأمراض، والتعديات البربرية انعدم الأمن في معظم المقاطعات ضاربا التجارة والاقتصاد في أهم ما تتطلع إليه وهو الاستقرار والأمن. توازى ذلك مع التوسعات الكبيرة في النفقات العسكرية وبناء الجيوش والأساطيل التي استنزفت بدورها خزائن الدولة. وأضيف إليه نزق بعض الأباطرة وقراراتهم الهوجاء مثل قرار قسطنطين الأول في أواسط القرن الرابع الميلادي بإنشاء عاصمة جديدة في القسطنطينية، مما أدى إلى شطر الأمبرطورية الرومانية إلى قسمين، وإلى تمهيد الطريق لسقوط روما المحتم. ومع التراجع الحثيث للسياسة والاقتصاد الناجحين تقدمت الكنيسة لتملأ الفراغ تلبية لنفاق عدد من الأباطرة الذين استنجدوا بها للمساعدة. وكان لصعود الاسقف بونفييس القادم من شمال وغرب أوروبا دور مركزي في إقحام الدين في أعلى تراتبيات الدولة، بل السيطرة عليها مع منتصف القرن السادس الميلادي. وصارت تلعب دورا أكبر فأكبر في الإدارة والتوجيه العام للدولة، لتسرع في الانحطاط الأمبرطوري وتغلق آفاق تجاوز الأزمات التي أطبقت على الفضاء العام. وكان التتويج الحقيقي للاكليروس الديني قد تم في عهد شارلمان الذي نظر إلى مهمته كملك كونها تنفيذا للرغبة الدينية للكنيسة، وكافأته البابوية بمنحه لقب أول امبرطور روماني مقدس، حيث تساوى بذلك مع رتبة البابا من حيث السلطة والقيمة الدينية. أدى هذا الخلط المكثف بين الدين والسياسة الى لجم ما تبقى من حريات محدودة ليس فقط في المجال الاجتماعي والثقافي، بل التجاري والاقتصادي كما يرصد الكتاب. فقد صارت مراسيم شارلمان تتلاحق في تحديد آليات التجارة وتحريم الأنشطة التي لا تروق له كاستخدام الفائدة والتطلع نحو الربح، وعوض ذلك تشجيع قيم الزهد وازدراء الغنى والمال واعتبارها نقيض الرهبنة والتقوى والطهر. وبسبب تشجيع جو كاره وناقم على الإقراض والفائدة، اللذين كانا إلى حد قريب أحد أهم مفاعيل تشجيع التجارة والاقتصاد، لم يتوقف الأمر عند تحريم استخدامهما عند المسيحيين بل لوحق المرابون من اليهود ومنعوا أيضاً من استخدام الفائدة. وانتشرت في مجتمعات الامبرطورية قيم النسك والرغبة في التخلص من متع الحياة، وباع كثير من الناس ممتلكاتهم وتبرعوا بها للكنيسة رغبة في الجنة الموعودة. وصارت الكنيسة فاحشة الثراء وتطور الإقطاع على جنباتها حيث حافظ الأثرياء والنبلاء على ممتلكاتهم لكنهم حصلوا على مباركة الكنيسة وقاموا بأدوار وظيفية لخدمتها. أدى ذلك كله إلى تكلس شرايين المجتمع الواسع اجتماعيا واقتصاديا، وخضع بالكلية لسلطات الكنيسة والملك والإقطاعيين. ولمواجهة هذه الحالة الموحلة في الجمود، التي امتدت قروناً طويلة، قامت جهود الإصلاحيين المسيحيين بريادة لوثر وكالفن في القرن السادس عشر الميلادي، وبروز حركة الإصلاح البروتستانتي. وهي جهود أسست لما هو أهم من الإصلاح الديني نفسه وكسر احتكار البابوية في السيطرة على الناس، فقد تلت ذلك إعادة الاعتبار للحياة الدنيوية وعدم استرذالها والتأكيد على أن الانخراط في جوانبها التجارية والربحية لا يعني مروقاً عن الدين أو ارتكاباً لآثام. لقد فكك لوثر وكالفن عقيدة الإثم والتأثيم لكل ما هو دنيوي وأعادا وصل الحياة بالآخرة ونفي فكرة أن الاهتمام بأحدهما سيكون حتماً على حساب الثانية. وفي مرحلة لاحقة، على خلفية الانتصارات المتلاحقة للفكر البروتستانتي، دينياً وعسكرياً وحياتياً، أصدر ماكس فيبر الألماني في بدايات القرن العشرين كتابه الشهير"الاخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية". وفي هذا الكتاب جادل فيبر بأن قيام رأسمالية فعالة وناجحة يشترط وجود قيم بروتستانتية سابقة تشجع على العمل وتقدسه وتعتبر الركض وراء الربح عملاً دينياً يرضي الرب. لكن فيبر كان يجادل تاريخ اوروبا الوسطى اكثر من أي شيء آخر, وكان يرد على الكثلكة المعمقة التي شلت المجتمعات الأوروبية وجعلتها تسترذل كل جوانب الحياة بما في ذلك التجارة والربح. وهنا فإن جين هيك في كتابه الذي بين أيدينا يلتقط الفكرة التي كُتب عنها كثيراً لكنه يوسعها ويوثقها عبر درس التاريخ الاقتصادي وهي أن درس فيبر هو في الواقع الدرس التاريخي للمجتمعات الإسلامية التي ظلت تقدس قيمة العمل وتعتبر جني الربح وسيلة لإرضاء الرب، وأن التجارة عمل نبيل يتيح لأصحابه فرصاً أكبر للتقوى والبر والعطاء. وينطلق المؤلف في رحلة مطولة وشيقة عبر الأدبيات الاقتصادية التي انتجها علماء مسلمون كثر وتدور كلها حول تشجيع التجارة والتبادل مع الآخرين، ومنها كتب"التبصر في التجارة"للجاحظ، و"الخراج"لأبي يوسف، والفصول المالية في"صبح الأعشى في صناعة الأعشى"للقلقشندي، و"كتاب المنهاج في علم خراج مصر"للمخزومي، وكتاب"المبسوط"لشمس الدين السرخسي، وكتاب"المخارج في الحيل"للشيباني، و"الصنائع في ترتيب الشرائع"للكاساني، و"كتاب الحيل والمخارج"للخصاف. لكن من أهم الكتب التي يعتمد عليها ويشير إليها بتوسع هي"الإشارة إلى محاسن التجارة"لأبي فضل الدمشقي. ففي هذا الكتاب أفكار ونقاشات مثيرة يرى المؤلف أنها تعكس عددا من المفاهيم المعاصرة مثل"الأسس المنطقية لتقسيمات العمل"،"التمييز بين السعر والقيمة، والقيمة وسعر السوق"،"الشروط المسبقة الأساسية لتشكيل الحد الأقصى من رأس المال"،"الوظائف المتنوعة للعملة وتقلباتها"،"أسباب هروب رؤوس الأموال والحلول المقترحة له"،"قانون العرض والطلب"،"تأثير الاحتكار على الأسعار". أما إبن خلدون فينقل عنه المؤلف تحليلاته للمال والتجارة والمسائل التي شغلته في هذا السياق وأهمها:"كيف يحقق التاجر ربحاً". ومن المسائل المهمة التي يلتفت إليها هيك مسألة"الحيل الشرعية"التي أوجدها الكتاب والعلماء الاقتصاديون العرب والمسلمون للتعامل مع قضايا شائكة مثل الربا والفائدة، والتوسع في أفكار المضاربة والإقراض بأشكال مختلفة. وكذلك الاعتماد على اليهود كعنصر وسيط في التجارة التي تستلزم استخدام الفائدة وخاصة مع الجنوب الأوروبي. يقدم كتاب هيك فكرة في غاية الأهمية ولها قراءات معاصرة عديدة تدور حول دور المال والتجارة العربية والإسلامية وقيادتها لعولمة اقتصادية في مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الإسلامي. ويقدم قراءة في آليات الانحطاط الداخلي للامبرطوريات وأولوية ذلك, ثم يعزو ذلك الانحطاط إلى عوامل خارجية كما هو مشتهر الآن. * اكاديمي أردني فلسطيني - جامعة كامبردج