اذا كان هنالك من تساوره الشكوك في أهمية التوصل الى اتفاق عالمي لحماية البيئة وضرورته، فإن المؤتمر البيئي الدولي الذي عقد أخيراً في مدينة"فالنسيا"شرق اسبانيا يبدد هذه الشكوك كلياً. وحضر المؤتمر الإسباني 130 دولة تمثلت بنحو 350 خبيراً، واختتمه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. وخلص المؤتمر الى اعتماد تقرير علمي موثق سيعرض على مؤتمر دولي لوزراء البيئة من المقرر عقده في مدينة"بالي"في اندونيسيا بين الثالث والسابع عشر من كانون الأول ديسمبر المقبل، حيث من المتوقع ان تقر استراتيجية مدتها سنتان للبحث في معاهدة تحل مكان بروتوكول"كيوتو"الذي تنتهي خطته الأولى سنة 2012. في حمى المناخ المضطرب ردّد المؤتمر الإسباني أصداء المخاطر التي نبّه إليها التقرير العلمي الشهير لخبراء في"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ"، الذي صدر في وقت مبكر من هذا العام. وتحدث ذلك التقرير عن الكوارث العالمية التي قد ترافق ارتفاع حرارة الارض ما بين درجتين و2.4 درجة، خلال السنوات القليلة المقبلة. وأكدوا انه لم يعد هناك وقت كاف لمعالجة هذه المشكلة وما يترتب عليها من عواقب سلبية لا بل كارثية على الانسان والحيوان والنباتات الطبيعة. كما شدّدوا على أهمية البدء في خفض نسب انبعاث الغازات الناجمة من إحتراق الوقود الاحفوري النفط والفحم الحجري والمُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري. كما اعتبروا العام 2015 حداً أقصى للبدء في تطبيق الخطوات التي تؤدي إلى ذلك الخفض فعلياً، وذلك من أجل تجنب مزيد من موجات الحرارة وذوبان الأنهار الجليدية وارتفاع مستويات البحر. وأورد التقرير عينه بوضوح أنه"اذا لم نفعل ذلك سنعرض الثروات الاثمن لكوكبنا الى خطر الانقراض". وفي مدينة"فالنسيا"المتوسطية، توصلت"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ"، التي فازت بجائزة نوبل للسلام هذه السنة بالمشاركة مع النائب السابق للرئيس الاميركي آل غور، الى اتفاق على تقرير من 22 صفحة. وجرى صوغ ذلك التقرير بعد خمسة أيام من المفاوضات، تخللتها مناقشات حادة في بعض الأحيان. فقد أوجز أعضاء أربع لجان آلاف الصفحات من التحليلات العلميَّة، وأضافوا إليها العناصر التي وردت في 3 تقارير علمية مماثلة صدرت هذه السنة، قبل اجتماعات"فالنسيا"، حول تغيُّر المناخ وعواقبه والخطوات المطلوبة للتكيّف معه والخيارات المتاحة للتخفيف من حدّته. وتناول التقرير الأول"القاعدة الفيزيائية العلمية"عن اضطراب المناخ، وصدر في باريس في شباط فبراير 2007. وتحدّث التقرير الثاني عن"التأثيرات والتكيّف والعطب"، وصدر في بروكسيل في نيسان أبريل من العام الحالي. اما عنوان التقرير الثالث فكان"تخفيف وتلطيف التغير المناخي"، وصدر في بانكوك في أيار مايو المنصرم. وتحدث الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في المؤتمر عقب عودته من جولة تقصي حقائق عن المناخ ومتغيّراته في القطب الجنوبي. وعلّق على تقرير"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ"بالقول محذّراً:"أتيت إليكم بعد ان رأيت بعضاً من اثمن كنوز كوكبنا مهدداً بأيدي البشر أنفسهم...على البشرية كلها ان تتحمل مسؤولية تلك الكنوز، لا يمكننا السماح لأنفسنا بترك"مؤتمر الأممالمتحدة حول التغيّر المناخي"المقرر عقده في"بالي"من دون تحقيق اختراق فعلي نحو اتفاق شامل بين جميع الدول". وأضاف:"ان التقرير يفرض الشروط الكفيلة بإحراز هذا الاختراق"، التي لخصها باتفاق شامل في شأن التغير المناخي يمكن للدول كلها ان تتبناه. وذكّر الأمين العام للأمم المتحدة بعض الدول، خصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية والصين باعتبارهما أكبر بلدين يبثان انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، بخطورة مواقفها في شأن التغير المناخي ومستويات الغازات المسببة لارتفاع في حرارة الأرض. وقال"أتطلع الى أن أرى الولاياتالمتحدةوالصين تضطلعان بدور بناء اعتباراً من مؤتمر"بالي"... يمكن البلدين أن يتوليا إدارة الأمر بطريقتهما". هواجس مُبرّرة وأشار الخبراء في التقرير المشار إليه الى"ضرورة تحرك السياسيين والحكومات لوقف ارتفاع حرارة الأرض لأن التغير المناخي اصبح اليوم واقعاً وطرق مكافحته سهلة المنال.... ومن المرجح بنسبة تزيد على 90 في المئة ان النشاط الإنساني هو السبب الرئيسي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري ما يتسبب بارتفاع درجات حرارة الأرض والتغيّر المناخي، وأن تداعيات ذلك يمكن تقليصها بكلفة معقولة". وحدّد التقرير أسباب التغير المناخي وآثاره، وعرض برنامج عمل"لتجنب الكوارث الأكثر سوءاً". وأشار الى ان الاحتباس الحراري"اصبح واضحاً وجليّاً في شكل لا لبس فيه... إن الحرارة ارتفعت 0،74 درجة مئوية في السنوات المئة الأخيرة، وإحدى عشرة سنة من السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة هي بين السنين الأكثر دفئاً منذ 1850، ومستويات البحر ارتفعت بمعدل 1.8 ملليمتر سنوياً منذ 1961". وأضاف أن الأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة زادت المخاوف من أن الفقراء والمسنين سيعانون اكثر من غيرهم من التغيرات المناخية، وأن المجاعة والأمراض ستنتشر بسهولة أكبر، وأن الجفاف والفيضانات وموجات الحر ستلحق أضراراً بالمناطق الأكثر فقراً، وأن مزيداً من أصناف الحيوانات والنبات سينقرض. وخلص التقرير الى القول انه"يحتمل ان تكون نسبة من 20 الى 30 في المئة من الكائنات التي شملتها الدراسة حتى الآن اكثر عرضة للفناء إذا تجاوز متوسط زيادة درجة حرارة الأرض 1.5 الى 2.5 درجة مئوية مقارنة بمتوسط الفترة الممتدة بين عامي 1980و1999". ووصف عالم المناخ الأسترالي بيل هاري ذلك التقرير، وهو شارك في إعداده، بأنه الأقوى علمياً بين التقارير التي أصدرتها"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ". وأكد تفاؤله بالمستقبل لأنه"لا يزال هناك وقت لتدارك الوضع". وأشار الى أن الولاياتالمتحدةوالصين والهند والمملكة العربية السعودية وغيرها، دعمت النتائج التي قدّمها ذلك التقرير، خصوصاً في ما يتعلق بوضوح عملية ارتفاع حرارة الأرض ومسسباتها الكامنة في انبعاث غازات الاحتباس الحراري المتأتية من احتراق الفحم والنفط. وأظهر العلاقة بين استمرار ارتفاع هذه الحرارة وذوبان جليد القطب الشمالي ودورات الجفاف في افريقيا ودول البحر المتوسط، والتي باتت تتكرر في شكل تصاعدي. كما ربط بين ارتفاع حرارة الأرض وظواهر متنوّعة في اضطراب البيئة مثل هطول الأمطار في شكل واسع في الأماكن المرتفعة وانخفاضها بنسب تتراوح بين 20 و 40 في المئة في الأماكن الجافة مثل اسبانيا وحوض المتوسط، ما يهدّد بالقضاء على نحو 20 في المئة من الأجناس البشرية والحيوانية والنباتية. وأعطى هذا الدعم للتقرير ونتائجه أهمية فائقة، الى جانب كونها تلخص اعمال نحو 2500 خبير علمي أعدّوا التقارير الأولية الأربعة التي نوقشت عالمياً منذ أوائل العام الحالي. وفي هذا السياق، أكّد رئيس"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ"، الهندي راجندرا باتشاوري، أن مستوى البحر سيستمر في الارتفاع خلال القرون المقبلة. ولاحظ أنه"بسبب الاحتباس الحراري، لم يعد بإمكاننا وقف ارتفاع مستويات البحار الدولية على المدى الطويل، والذي سيتراوح بين 40 سنتيمتراً و 1.4 متر". وفي حين لم يتجرأ الخبراء على تقديم احتمال لأقصى نسبة في ارتفاع مستوى البحر، عزّز تقريرهم النبرة التي استخدمت في التقارير السابقة لجهة التحذير من أن تغير المناخ قد يجلب"تداعيات مفاجئة لا يمكن منعها". وفي سياق متصل، لاحظ هانز فيرولمي، مدير"برنامج التغيّر المناخي"في منظمة"دبليو دبليو إف"البيئية،"إن تغير المناخ حقيقة واقعة...إنه يؤثر في حياتنا واقتصاداتنا، ونحن في حاجة الى فعل اي شيء تجاهه... بعد هذا التقرير، ليس باستطاعة أي سياسي أن يقول إنه لا يعرف ما هو تغير المناخ أو ما يجب القيام به بصدد ذلك". وخلال المؤتمر الإسباني، أدلى احد الشهود من الشعوب الناطقة بلغة"سامي"التي يبلغ عمرها نحو 2500 سنة وتتحدثها مجموعات تعيش بين السويد وروسيا بشهادة قال فيها أنه"تأخر الشتاء شهراً ونصف الشهر عن المعتاد، وقد شاهدنا طيوراً وحشرات ليس لها أسماء في لغتنا". وجاء ذلك الشاهد من رعاة القطعان في النروج. ومن ناحية أخرى، تشير الأرقام الى ان اسبانيا هي البلد الأوروبي الأول لجهة عدم إيفائه بشروط بروتوكول"كيوتو". وتتصدر السويد قائمة الدول التي تكافح جيداً لدرء مخاطر التغير المناخي. فمن المعلوم أن السويد تستطيع أن ترفع نسبة انبعاث غازات ثاني اوكسيد الكربون بنحو 4 في المئة، لكنها استطاعت خفضها أكثر من 7 في المئة. وفي شكل عام، تمكّن الاتحاد الأوروبي من خفض هذا الانبعاث بنحو 1.5 في المئة بدل النسبة المطلوبة منه وهي 8 في المئة. وتميّزت فرنسا وفنلندا والمملكة المتحدة بأنها بذلت جهداً كافياً للبقاء فوق المستوى الذي سمح به ميثاق"كيوتو". وفي سياق المؤتمر الإسباني، برز إجماع في الرأي حول استحالة تنفيذ توصيات"اللجنة الحكومية الدولية لدراسة التغيّر في المناخ"في غياب موافقة الصينوالولاياتالمتحدة الأميركية. وكذلك ساد إجماع مماثل حول عدم جدوى خفض دول الاتحاد الأوروبي نسبة انبعاث غازاتها بنحو 30 في المئة كما طرحت. وأكّد المدير التنفيذي للبيئة في الأممالمتحدة ان"خفض نسبة انبعاث الغازات اعتباراً من عام 2015 هو أمر ممكن اذا ما حصل ضغط اجتماعي، على نحو ما حدث هذه السنة فأوصلنا الى نتائج مؤتمر"فالنسيا".