أدى فشل بناء الدولة الوطنية، جراء غياب المشروع الديموقراطي"وغياب مشروع للحداثة والنهوض التنويري والتنمية العلمية"وفقدان مجتمعاتنا لقابلية استعذاب الكفاح وتحمل عذابات وآلام التحولات الديموقراطية، إلى إتاحة المجال لمزيد من استعمالات العنف الأهلي والسلطوي، إلى حد يمكن القول معه: إن بوادر ظهور النزوع الفاشي كان يترافق دائما مع تجسيم هذا الفشل، وبلوغه ذرى قصية من التصادم بين السلطة والقوى السياسية الأهلية والدينية، بعد أن بلغ"الثبات المخيف"في أروقة السلطة حدوداً قصوى من تمظهرات النزوع التسلطي الاستبدادي، إلى حد استدعاء الأسلاف، وأنماط من تدين شعبوي"للدفاع عن سلطة فاشلة استولت على الشرعية عبر الانقلاب عليها، وبلوغ السلطات القائمة ذروة فقدانها كل حافز إلى التغيير، وتكلسها بكل قواها وفاعليها العاطلين عن السياسة. وهي في رفضها التعاطي بالسياسة كانت ترفض التعاطي في مسألة تداول السلطة، بل العض عليها بالنواجذ والأسنان، واتباع كل ما من شأنه أن يديم الإقامة عند حدود حراسة ذاك"الثبات المخيف". وهذا ما يدفع بها إلى"تشريع"بل ممارسة فكرة إلغاء الآخر، كل آخر خارج أقفاصها المدجنة، وبالتالي العمل على رفع نفسها إلى مستوى القداسة، انطلاقا من ذلك"الثبات"الذي رفعها الى مصاف ومراق ما كانت لتبلغهما، لولا إيغالها في مراقي الفشل في بناء الدولة أولا، ومن ثم في بناء الوطنية الجامعة ثانيا، وبالتالي فشلها في الإقدام على أي من موضوعات ومسائل قيام الوحدة القومية، كتحصيل حاصل أو ناتج سلوك سلطة ترى في ذاتها سلطة نهائية،"تستحق"العمل على توريثها بعد تقديسها، وكأنها موضوع لامتناه، فيما هي المتناهي ذاته كنزوع تسلطي استبدادي لا راد لنا أو عاصم لنا منه سوى العمل على استبداله بنزوع تربوي يعمق من ثقافة الديموقراطية، ويجذر مسألة تداول السلطة في تربة خصبة، بحيث نصبح أمام موظفين عامين، لا"أولياء مقدسين"، أو"آلهة"أو"أنصاف آلهة" في أروقة الدولة المنشودة. وهكذا وجدنا أن العديد ممن انشغلوا بالوحدة العربية القومية انزلقوا بوعي أو بدونه انزلاقا استراتيجيا مميتا وقاتلا، نحى نحو المساهمة بانهيار الوحدة الوطنية، بل انهيار الدولة الوطنية المركزية ? العراق نموذجا ? بل إن الإحتلال لم يكن ليغطي على فشل بناء الدولة في بلدان أخرى كنماذج مشابهة، أو متقاربة في الانحدار أو الانزلاق نحو الفشل إياه الذي شهدته ديكتاتورية النموذج العراقي. الاحتلال كان عامل تسريع في انهيار الدولة، ولكنه لم يكن العامل الرئيس والوحيد الذي آلت إليه الدولة العراقية التي كانت تحمل في أحشائها بذور فشلها وانهيارها، ففي جيناتها وجنباتها الواقعية تكمن علة العلل التي ترفع الزعيم أو"القائد المفدى"الى مصاف القداسة. ولهذا ومع انهيار الدولة وتكلس"وطنيتها"وانتكاس مشروعها أو مشاريعها الوطنية، بدأت تبرز إلى الوجود تلك التمظهرات المختلفة والمتباينة لهويات ضيقة حتى داخل القرية الواحدة والمدينة الواحدة وداخل الطائفة والمذهب الواحد، هويات تذرر ريفية وصلت الى ذاك العائلي والاتقسامات والتفككات اللانهائية، التي لم تزل تعمل في ظل التفسير أو التفسيرات التآمرية لمآلات السلطة وممارستها أو حرمان الآخرين منها، بل وحيازتها والقبض عليها تحقيقا لمصالح نرجسية وأنانية توغل في ضيقها عبر أشكال من التسييس الديني والتدين السياسوي، حيث تكمن عقدة الانقسامات والتذررات والتشظيات التي نعيشها في راهن أيامنا وتعيشها معنا كل تمظهرات النزعات السلطوية"بكل تلوناتها ومستوياتها من سلطة الأب والعائلة الى الفقيه وسلطته الدينوية الى سلطة النظام والدولة الفاشلة. وفي حين أريد ل"الاسلام"السياسي أن يلعب دورا سلبيا هادما للدولة الوطنية -قديما وحديثا- منذ أن تشكلت تلك الدولة وحتى اللحظة، فإن"الهوية الدينية"كما يفهمها الفقهاء ومن يسمون"العلماء"هي في جوهرها هوية انقسامية، تفكيكية، لا تساهم أبدا في إنماء هوية وطنية جامعة. وكلاهما:"الإسلام"السياسي ومآلات الهوية التي يسعى إلى إقامتها، إنما هما يسعيان إلى ترسيخ قيام"سلطة دينية"، وبالتالي تهيئة مسرح المجتمع لإقامة"دولة دينية"فيما بعد، قابلة للتفريق لا للجمع بين قوى المجتمع الوطني، على أن غياب الفضاء القضائي واستقلاليته في إطار مدني حديث، جسد ويجسد اليوم خواء"الاسلام"السياسي في بلادنا. وهو على عكس"إسلام"سياسي"مماثل"في تركيا، لم يستطع إنتاج دولة، فيما هو يسعى عمليا إلى إنتاج بنية"دولة دينية"تعادي فكرة الوحدة أساسا والوطنية ذاتها، وتاليا فإن معاداته لفكرة الدولة المدنية الحديثة هو تحصيل حاصل تاريخ" إسلام"سياسي غير قابل للتغيير والإصلاح والتعديل، طالما هو يسعى الى بناء سلطة الغلبة، وغلبة الهيمنة وهيمنة أدلوجاته الخاصة الضيقة على فضاء واسع وفسيح من المجتمع إلى الدولة إلى الأمة إلى العالم، وهذا بحد ذاته العامل الرئيس الذي قد يدفع نحو خروج "الاسلام"السياسي من التاريخ"عبر تأكيده على الجغرافيا الضيقة، وخروجه من السياسة إلى ما لا يشبه أي سياسة في ظل إطلاق ديناميكيات متخلفة رجعية ارتدادية وطنيا ومدنيا. كما شكلت فوقية الانتقال من"الشمولية المستبدة"الى"الديموقراطية"المحكومة لسقف"محكم"من سقوف النظام الاستبدادي، عملية معزولة عن إرث الديموقراطية الحقة"ديموقراطية التعدد والتنوع الطبيعي، لا ذلك التعدد الزائف، المرضي الذي آلت إليه تجربة بلدان عدة سعت شكليا للخروج من أزمة حكم ومأزق سياسة ووضع سياسي واقتصادي واجتماعي، عبر تسمية أحزاب أو الدعوة ألى تشكيل أحزاب وزجها في معمعان ديموقراطية شكلية"ديموقراطية تعدد زائف، في ظل حكم استبدادي واصل التماهي وحكم القياصرة والزعامات"الفذة"ذوي"الضرورات التاريخية".. الخ من مسميات التحكم بمجريات اللعبة السياسية بعيدا من مجريات التطور أو التصور الديموقراطي حتى. المهم توسيع القاعدة السياسية والاقتصادية والإجتماعية لنظام الحكم عبر أشكال بدائية من حكم"الحزب الأوحد""صاحب الأحزاب المتعددة الخاضعة والخانعة لحكم حزب كهذا وجبهته الشكلانية . تلك هي الصورة"الديموقراطية"لنظام"التعدد الحزبي"في شكلانيته الواعدة بمنح"الحزب الأوحد"كل مبررات البقاء على رأس النظام الواعد بالديموقراطية"ولو بعد حين من التاريخ" الغودوي"الذي لا يأتي بتاتا، الحين الذي لا يعود متوافرا فيه، أي إمكانية لقيام نطاق اشتغال تداولي للسلطة، التي تتحول الى بونابرتية"الزعيم الأوحد"أو"الحزب الأوحد"حتى ولو بالتوريث أو الوراثة المعدلة دستوريا بالتصويت المسلوق، على ما أضحت عليه حال جمهوريات ملكية"أنجزت"عملية توريثها"سلميا"وبشكل"سلس"، وجمهوريات ملكية أخرى تسعى لاستنساخ جمهوريات وراثية واعدة، على ما هو حال اليمن وليبيا ومصر... وحتى روسيا مع الفارق في التحولات السلطوية القيصرية هناك، والتحولات العائلية أو العشائرية كما في بلادنا. الطابع التعددي لأنظمة الاستبداد التسلطي الطبقي أو الفئوي العائلي والعشائري والطائفي والقيصري...الخ لا يمنح التجارب السلطوية تلك أي صبغة ديموقراطية، طالما هي تسعى الى سلب التعددية كمفهوم قيمتها في الممارسة العملية، كما وسلب الديموقراطية ذاتها كل قيمة أصيلة أو مكتسبة نظريا وعمليا، بل تحويلها إلى شكلانية لا عقلانية حين تنحط إلى مستوى الاستبداد الآسيوي الشائع كما في بلادنا منذ قرون، إن لم نقل منذ سنوات ما بعد التدوين على الأقل، حين بدأنا منذ فجر التاريخ نتعرف على الممالك- المدن وأربابها وآلهتها وأشكال الهيمنة السائدة فيها، بحيث تواصلت عملية الاستبداد الثيوقراطي فيما بعد، وكأنها عملية تطور طبيعي في مجتمعات فقدت قابليتها للتغيير، أو حتى للخروج من جلدها المدموغ بطابع الاستبداد الآسيوي"الآخذ اليوم شكلا أوراسيا، في وقت تنجح تجارب مواجهة الاستبداد الديكتاتوري اللاتيني في الكاريبي وأميركا الوسطى في الخروج الى فضاء تغيير- وإن أخذ شكلا شعبويا- ما يني يواصل ترك بصماته في أنظمة الحكم وفي مجتمعات ذاك القسم من العالم الذي عانت فيه شعوب بأكملها"من استبداد طغم مالية وأوليغارشيات عسكرية وديكتاتوريات سياسية واقتصادية وكيلة لمركز إمبريالي، يتحول اليوم إلى مركز إمبراطوري"يجاهد"مستميتا للاحتفاظ بهيبته الهيمنية وقدرته الإخضاعية. * كاتب فلسطيني.