وسط الأجواء الرمضانية الهادئة في عالمنا العربي والإسلامي، بدا المشهد صاخباً وثائراً في بورما، ذلك البلد الآسيوي الذي تفوق مساحته 261 ألف ميل مربع، وعدد سكانه ال55 مليون نسمة، ويتألف شعبه من أكثر من 140 عرقاً. غادر آلاف الرهبان البوذيين معابدهم ليقودوا احتجاجات سلمية تهدف الى إنهاء الحكم العسكري للبلاد، وبدأت الاحتجاجات بعدما ضاعفت الحكومة أسعار الوقود، ولكنها اكتسبت ثقلاً جديداً إثر إعلان اتحاد الرهبان البوذيين أن الحكام العسكريين"أعداء للشعب". وانضمت الراهبات الى حوالى 5 آلاف راهب في بورما ميانمار... هذا المشهد المثير للرهبان بملابسهم الحمر وللراهبات بملابسهن البيض محاطين بجماهير غفيرة، متحدين الحكام العسكريين الذين يقودون البلاد منذ 20 عاماً بالحديد والنار، طرح عليّ أسئلة كثيرة! إن قرار الحكومة العسكرية رفع أسعار الوقود في بورما لن يضر الرهبان والراهبات من قريب أو بعيد، فهم أناس عاكفون في معابدهم يعيشون وفق التقاليد البوذية على صدقات المواطنين البوذيين ولا علاقة لهم بدنيا الناس من حيث كثرة الحركة والتنقل، وعلاقاتهم متواضعة بعالم السيارات التي تستهلك الوقود مقارنة بجموع الشعب البورمي! فما الدافع لتحركهم وتجشمهم الأذى والتعب في شوارع ميانمار ودخولهم في صدام مع العسكر؟ فهل هبط على الرهبان والراهبات وحي جديد من بوذا يقول لهم كفى الجلوس في المعابد بدعوى التأمل في أمراض النفس، ومرحباً بتأمل في أوجاع الناس الفقيرة التي تكابد وتصل الليل بالنهار من أجل لقمة العيش؟ لن أقف كثيراً على الدوافع التي حرّكت الرهبان والراهبات للتظاهر والنزول الى الشارع. فالمراقب للأحداث غالباً لا يعنيه كثيراً فحص الدوافع والنيات وما في داخل النفوس والقلوب، ولكن يهمه الحراك الحاصل على الأرض. فالمشهد الرئيس هو أن هناك فئة من المجتمع البورمي رجال الدين قررت مقاومة الاستبداد ليس من خلال عظات المعابد والأناشيد الكهنوتية، وإنما من خلال النزول الى الشارع وتحريض الجماهير على مقاومة المستبد. واستجابت الجماهير دعواتهم سريعاً، ما ترتب عليه إحراج الحكومة العسكرية في بورما على المستوى العالمي، وجعل أنظار المراقبين السياسيين والإعلاميين تسلط أضواءها على ذلك البلد الفقير الذي ربما لا يعرفه كثر منا في العالم العربي. وهذه التجربة بغض النظر عن نتائجها وما ستسفر عنه من وقائع، تتضمن عدداً من الدروس المستفادة لقادة الحركات التغييرية الذين يهدفون الى مقاومة الاستبداد من خلال حشد الجماهير وتفعيل منظمات المجتمع المدني لانتزاع حقوقهم المغتصبة، فالقواسم المشتركة بين الشعب البورمي والشعوب التي تعاني الاستبداد تكاد تكون متقاربة من حيث معدلات الفقر والأمية وانتشار الفساد وتسلّط العسكر على مقاليد الأمور. الدرس الأول: يجب على الحركات أن تهتم بقضايا الجماهير الأساسية وأن يرتفع مستوى إحساسها بأوجاع الجماهير وآلامها، وألا تغرق في القضايا الأيديولوجية المعقدة التي لا تلامس اهتمامات رجل الشارع العادي. هذا ما تجسد في نجاح تجربة الحركة الهندية بقيادة غاندي عام 1931، إذ حشد الجماهير في وجه المحتل الإنكليزي من خلال تحدي قانون الملح، الذي كان يرهق عاتق المواطنين الهنود. وخرجت معه الجماهير على اختلاف لغاتها وأديانها في مسيرات ضخمة مسيرة الملح. فغاندي حفّز الجماهير على المقاومة من خلال قضية يومية، وأرسل رسالة تحريضية تلامس أوجاعهم ومتاعبهم. والدرس الثاني: ينبغي لحركات التغيير أن تتسم أهدافها واستراتيجيتها بالوطنية والشفافية، بمعنى أن تكون كتاباً مفتوحاً للجماهير. فالوطنية والشفافية ترفعان من شعبية الحركات وسط الجماهير الكادحة التي تعلّق آمالها وأحلامها على الحركات الوطنية الصاعدة. والحركات التغييرية عندما تتصف بالوطنية وبحمل آمال الجماهير الكادحة وأحلامها ومتاعبها تكون فرص حصولها على الدعم والتأييد الجماهيري مرتفعة، وتستطيع من خلال الوطنية والشفافية أن تقطع الطريق على خصومها المعاندين في وصفها بالانتهازية والارتباط بأجندة خارجية. ياسر الغرباوي - بريد الكتروني