يشعر متابع الفضائيات الاخبارية، في الأيام القليلة الأخيرة، وكأن حرباً ضروساً تدور رحاها في المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا. مبعث هذا الشعور هو أن هذه الفضائيات بالغت في التركيز على التوتر القائم بين أنقرة وحكومة اقليم كردستان حول وجود مسلحي عناصر حزب العمال الكردستاني التركي في جبال قنديل المتاخمة للحدود التركية، الواقعة تحت سيطرة حكومة الاقليم الكردي. وتفاقم الأمر"فضائياً"بعد مصادقة البرلمان التركي على مذكرة رفعتها اليه الحكومة التركية للحصول على موافقة البرلمان على اجتياح الجيش شمال العراق لتدمير مواقع الحزب الكردي المذكور. بعيداً من الخوض في الجانب السياسي لهذه القضية الشائكة، الملاحظ ان الفضائيات تعاطت مع المسألة وكأن الحرب حتمية، وصورت هذا التدخل التركي المنتظر على انه سابقة لم تشهدها المنطقة قبلاً، علماً ان الجيش التركي دخل كردستان العراق 24 مرة سابقاً بالحجة نفسها، ولم يفلح في القضاء على"الحزب الكردستاني"، ولم يكن التعاطي الاعلامي مع الحدث في المرات السابقة على مثل هذا النحو من التركيز، والتهويل، إذ انه يتصدر حالياً نشرات الأخبار المشفوعة بتقارير وتحليلات وتوقعات لمحليين سياسيين استراتيجيين عبر اتصالات هاتفية حثيثة تبدأ من واشنطن وتمر بلندن وباريس وروما حتى تصل الى أنقرة وأربيل. فضلاً عن تقارير مصورة لمراسلي الفضائيات في تلك المنطقة التي ستشهد الحدث: صور لآليات عسكرية تركية تتأهب للخطوة القادمة، صور لجنود بألبسة عسكرية مموهة، صور لمظاهرات صاخبة في المدن الكردية، وأخرى مضادة في المدن التركية، صور لقرويين مذعورين... تصريحات واتهامات متبادلة بين المسؤولين الأتراك والزعماء الاكراد العراقيين، وغير ذلك من المواد الاعلامية التي تهوّل من حجم حدث كان عادياً في السنوات الماضية. لسنا، هنا، في صدد التقليل من خطورة التدخل التركي في كردستان العراق، لو حصل فعلاً، لكن هذا التركيز الاعلامي المكثف يبرز خطورة التلفزيون في صناعة الحدث، وفي قدرة هذا الجهاز على التعبئة النفسية، وتهيئة المشاهد لحدث قادم"مفترض وبعيد"، وخلق نوع من الترقب والحذر ما كان لهما ليظهرا لولا هذه المتابعة الفضائية الحثيثة. أكثر من ذلك، فإن غالبية البرامج الحوارية الفضائية ذهبت الى أبعد من التغطية الاعلامية المتوازنة، إذ افترضت أن التدخل التركي قد حصل فعلاً، فراحت تستفيض في قراءة التداعيات، وما الذي يمكن أن تتركه هذه الخطوة من آثار، واقترحت سيناريوات لردود فعل متوقعة من جانب القيادات الكردية العراقية، وأخرى مماثلة عن مصير ومستقبل حزب العمال الكردستاني، على رغم أن"الكل لا يزال في مكانه، و"كل شيء على ما يرام سيدي الضابط"وفق تعبير المخرج السينمائي السوري محمد ملص. وإذا كان لكل فضائية دوافع معينة لملاحقة تطورات المشكلة القائمة، فإن عليها التريث في التعامل مع الأمر وكأنه"حاصل فعلاً"، ومثل هذا الهدف لا يكلف كثيراً، فقط يستدعي التخفيف قليلاً، من التركيز على الخبر، والابتعاد من حبك سيناريوات خيالية محتملة، فالانسياق الفضائي وراء أخبار"حرب متوقعة"، نأمل بألا تقع، يضع هذه الفضائيات في خانة الاتهام، ويظهرها وكأنها تعمل على التحريض والتصعيد في وقت يحتاج فيه الجميع الى التهدئة والمرونة والحوار...