بعد فترة من التقاط الأنفاس وترتيب الأولويات في أعقاب الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2005، عادت القوى السياسية في مصر من نخبة حكم وحركات معارضة إلى سابق تجاذباتها على خلفية النقاش الدائر اليوم حول الإصلاح الدستوري. تتباين في هذا الصدد الرؤى المطروحة من الحزب الوطني وأحزاب المعارضة وجماعة الإخوان المسلمين بشأن وجهة التعديلات الدستورية المرجوة، إلا أن اللافت للنظر هو حقيقة تمركزها جميعاً في سياقات تروم بالأساس خدمة المصالح الضيقة للحزب أو الجماعة المعنية حتى وإن تناقضت تلك مع المصلحة العامة الضاغطة باتجاه إصلاح سياسي ذي مضامين ديموقراطية. يبدو الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم مدفوعاً بهواجس ثلاثة"أولها الخروج من مأزق التعديل الذي أدخله العام الماضي على المادة 76 من الدستور المنظمة للترشح لرئاسة الجمهورية، وثانيها منع استفادة جماعة الإخوان المسلمين من أي تعديل قادم بل والتضييق دستورياً على مشاركتها في السلطة التشريعية، وثالثها الحيلولة دون تقويض دعائم الهيمنة السلطوية للنخبة الحاكمة على إدارة الحياة السياسية المصرية والسيطرة على مخرجاتها النهائية. تأسيساً على ذلك يطرح الحزب الوطني تغيير نص المادة 76 المعدلة الذي يشترط حصول الحزب السياسي المسجل على نسبة الخمسة بالمائة من مقاعد البرلمان بمجلسيه الشعب والشورى كحد أدنى لحق الترشح للانتخابات الرئاسية. فانتخابات 2005 التشريعية فرزت توزيعاً لمقاعد مجلس الشعب لم يقترب معه أي من أحزاب المعارضة، وهي في المجمل غير ممثلة في مجلس الشورى، من النسبة المذكورة واقتصر الأمر على الحزب الوطني وجماعة الإخوان المحظورة رسمياً والتي يحشر نوابها في زمرة البرلمانيين المستقلين وأمام أولئك من الشروط التعجيزية ما يحول دون ترشحهم. أضحى إذاً لزاماً على الوطني إن أراد تجنب إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة تحت يافطة تنافسية اسماً وعملاً بمرشحه فقط خفض حد الخمس بالمائة أو إلغائه أو تمديد الاستثناء الذي عمل به في انتخابات 2005 الرئاسية وسمح بمقتضاه لكل الأحزاب المسجلة بترشيح أحد قياداتها بغض النظر عن نسب تمثيلها في البرلمان، بل أيضاً في حال غيابها التام عنه. وعلى رغم أن فرص تغيير التشكيل الحالي للبرلمان قبل الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع إجراؤها في 2011 قائمة نظرياً حيث تنتهي دورة مجلس الشعب الحالية في 2010 في حين يحل موعد انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس الشورى العام القادم وفي 2010، إلا أنه يظل من المستبعد أن تتمكن الأحزاب المسجلة من تخطي حاجز الخمس بالمائة. ثم أن أهمية تعديل المادة 76 للمرة الثانية تتزايد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار احتمالية إجراء الانتخابات الرئاسية قبل 2010 إن بصورة استثنائية غير متوقعة أو وفقاً لخطة منظمة ربما ارتبطت بسيناريو نقل الحكم من الرئيس مبارك إلى وريث محتمل. يمثل تغيير نظام الانتخابات التشريعية من الترشح الفردي المعمول به اليوم إلى التمثيل النسبي المستند إلى القوائم الحزبية العنوان الثاني الأبرز لتعديلات الحزب الوطني المقترحة. ومع أن الحزب الحاكم يدفع هنا وبحق بكون نظام القائمة هو السبيل الوحيد لتقوية أحزاب المعارضة المصرية التي لم تحصل في انتخابات 2005 التشريعية سوى على الفتات تاركة مجلس الشعب لتتقاسمه أغلبية الوطني وأقلية الإخوان، إلا أن الهدف الأهم من وراء التعديل هو تضييق مساحة مشاركة جماعة الإخوان في البرلمان، البوابة الأوسع لدورهم الراهن، والحيلولة دون ترجمة تواجدهم الجماهيري المتميز إلى حضور سياسي بارز. شاركت الجماعة المحظورة رسمياً في 2005 بمرشحين مستقلين وحصلت على ما يقرب من 20 في المئة من مقاعد مجلس الشعب 88 مقعدا، ولولا التدخل السافر للأجهزة الأمنية في العملية الانتخابية لحصدت المزيد. وحيث أنه من غير المتوقع أن تعترف السلطات المصرية بشرعية وجود الإخوان ناهيك عن السماح لهم بتكوين حزب سياسي، فأن العودة إلى نظام القائمة عمل بهذا النظام لفترة في ثمانينات القرن الماضي تعني الزج بالإخوان نحو التحالف مع أي من الأحزاب المسجلة لوضع مرشحيهم على قائمته كمخرج وحيد لضمان الاستمرار في المشاركة ومن ثم الحد من الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها الجماعة في ظل النظام الفردي واضطرارها إلى مساومات مرهقة مع أحزاب معارضة ضعيفة تأن من اختراق السلطة لكوادرها. فضلاً عن ذلك يحقق اعتماد القائمة مكسباً إستراتيجياً إضافياً للوطني بإفساد العلاقة بين الإخوان وأحزاب المعارضة. فعلى نقيض العامين الماضيين اللذين شهدا تنسيقاً جزئياً في الأهداف والمواقف بين الطرفين أملاً في الضغط الفعال على النخبة الحاكمة للقيام بإصلاحات ديموقراطية، سيضع تعديل نظام الانتخابات لا محالة الإخوان والمعارضة الحزبية في قاربين عكسيي الاتجاه ويقارب بين الأخيرة، بكونها مستفيدة من القائمة، والحزب الحاكم. بعبارة أدق سيقوض كل من تغيير نمط الترشح لمقاعد مجلس الشعب وإبعاد الإخوان عن المعارضة من مساحات الفعل السياسي الإخواني ويواجه الجماعة ببيئة سياسية شديدة التنافر والاستقطاب ليس لها بها من حلفاء حقيقيين. أما السياق الثالث لتعديلات الحزب الوطني فيروم، وبجلاء صادم، الالتفاف حول هدف الإصلاح الديموقراطي من خلال التركيز على قضايا شكلية أو ثانوية لا تمس قلب معادلة الحكم السلطوي، بل وتباعد بين المصريين وبين حلم التداول السلمي لمنصب الرئاسة ولمقاعد الحكومة عن طريق صندوق الاقتراع وفي ظل توازن طال انتظاره بين السلطة التنفيذية من جهة وكل من السلطتين التشريعية والقضائية من جهة أخرى. يطرح الوطني على سبيل المثال تغيير المواد الدستورية المنظمة للعلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء على نحو يوسع من صلاحيات الأخير التنفيذية، ويتجاهل حقيقة أنه يعين ويقال من جانب الأول دونما أية محاذير أو قيود. الأخطر من ذلك أن لجنة السياسات في الحزب الوطني وهي المضطلعة بملف التعديلات الدستورية تصر على تجاهل النظر في أمر مواد الدستور، خاصة المادة 77، التي لا تضع سقفاً زمنياً أعلى على مدد الرئاسة وتطلق يد رئيس مدة الحياة في تخطي السلطة التشريعية والقضائية من بوابة القوانين الرئاسية أو ما يسمى في الواقع المصري"قرار بقانون."ينجلي ذات الجوهر المتحايل حين الحديث عن حتمية تمكين السلطة التشريعية وزيادة قدرتها في الرقابة على نظيرتها التنفيذية مع رفض إدراج نصوص دستورية تقر بحق أغلبية أعضاء مجلس الشعب في حجب الثقة عن الحكومة دونما حاجة إلى آلية الاستفتاء الشعبي المعمول بها الآن وتمكنهم من إدخال تعديلات على الموازنة العامة للدولة. وعندما يضاف إلى كل هذا تمسك الحزب الحاكم بالقيود المفروضة على تأسيس وعمل الأحزاب والجمعيات الأهلية ومحاولاته المستمرة تحجيم دور الإشراف القضائي في العملية الانتخابية وقمع القضاة المطالبين باستقلال هيئتهم عن السلطة التنفيذية، تكتمل معالم توجهات الحزب الوطني الهادفة لتثبيت دعائم الهيمنة السلطوية للنخبة الحاكمة على الحياة السياسية في مصر مع تكييف مستمر للإستراتيجيات والأدوات المستخدمة لإبقاء التعددية الحاضرة منذ نهاية السبعينات مقيدة ودون أنياب حقيقية. من جهتها تتسم التوجهات الآنية لأحزاب وحركات المعارضة، وعلى رغم وضعيتها التابعة لفعل الحزب الوطني، بتركيز بادي على المصالح الضيقة. تدعو أحزاب المعارضة الرئيسية كالوفد الليبرالي والتجمع اليساري والعربي الناصري إلى تغيير الدستور بصورة ديموقراطية، بل أن حزب الوفد يذهب في هذا السياق إلى حد المطالبة بوضع دستور جديد للبلاد، إلا أنها في التحليل الأخير تبحث جميعاً عن توافق الحد الأدنى مع الحزب الحاكم أملاً في انتزاع مساحات أوسع لحركتها السياسية. مناط اهتمام أحزاب المعارضة اليوم هو، وكما أيقن إستراتيجيو الوطني بذكاء، اعتماد نظام القائمة الانتخابي لتمكينهم من لعب أدوار أكثر فاعلية في السلطة التشريعية والتضييق على الإخوان كفصيل المعارضة الذي سحب الكثير من رصيد الأحزاب الشعبي في الآونة الأخيرة. أما جماعة الإخوان فتعلن رفضها التهميش والإقصاء وتنادي بالضغط على النخبة الحاكمة لإجراء إصلاح ديموقراطي شامل يضمن توازن السلطات والحريات السياسية والمدنية، ولكنها تدرك في ذات الوقت محدودية قوتها ودورها في مواجهة قدرات الدولة القمعية وهي التي خبرتها عن قرب طوال العقود الماضية. يتجنب الإخوان قبل أي شيء أخر الدخول في مواجهة مفتوحة مع النخبة الحاكمة قد تكلفهم تماسك تنظيمهم وتحد من تواصلهم مع القواعد الشعبية، والأمران هما سر نجاح الجماعة السياسي. يمكن القول إذاً إن التحركات الراهنة للمعارضة تهدف في المقام الأول إلى الدفاع عن مصالح الأحزاب والحركات المعنية في ظل بيئة سلطوية هي بها بمثابة المفعول به الباحث دوماً عن حق البقاء. لن ترتب التعديلات الدستورية القادمة نقلة نوعية في الحياة السياسية المصرية نحو إصلاح ديموقراطي حقيقي. فمازالت كلفة الحكم السلطوي شديدة المحدودية وعبقرية نخبته في إعادة إنتاج ذاتها وتكييف إستراتيجياتها لا حدود لها. وحينما يتواكب ذلك مع تنازل المعارضة الوطنية عن حق المقاومة من أجل الصالح العام وتسليمها بحتمية الاستمرارية السلطوية رافضة المخاطرة وتقديم التضحيات، يصبح باب التغيير الإيجابي موصداً بإحكام. * كبير باحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بواشنطن.