يتميز النظام الاستهلاكي العالمي الذي لا يتوقف عن التبسط والاتساع باعتماده الإعلام وسيلة فعالة وناجعة في اجتذاب المزيد من المستهلكين. ويستغرق المستهلكون في اهتمامهم المتواصل بوسائل الإعلام أوقاتاً أطول من ذي قبل بمتابعة الاحداث السياسية. ويتخلل نشرات أخبار الفضائيات والإذاعات بشتى اللغات المزيد من الدعايات والإعلانات. وأهم ما تحتاجه هذه الوسائل الإعلامية هو موضوع جديد ومشكلة مبتكرة، ومن طريق الإثارة والملاحقة والمتابعة والتكرار بل الإخراج المتقن والمدروس، في الإمكان"تثقيف"بل غسل أدمغة المشاهدين وقيادتهم باتجاه معين. وليس المهم الوصول الى إقرار حقيقة ما قائمة بحد ذاتها بل إبقاء المشاهدين مشدودين الى فضائية أو محطة دون أخرى. ويجرى استغلال المشاعر الدينية والقومية بل المذهبية بطرق ذكية لاجتذاب الجمهور. وليس المهم احداث نقلة نوعية في قناعات المشاهدين بل الأهم ان يبقوا تحت سيطرة الوسيلة الإعلامية. وما دامت كل المواد الإعلامية مسيّسة في نهاية الأمر، ففي الإمكان المضي بالجمهور بالاتجاه السياسي الذي جرى إعداده بالكثير من الحنكة والذكاء. ومن طريق تقنيات حديثة متطورة كالانترنت اصبح ممكناً ربط عدد هائل من المهتمين والمعنيين بل المدمنين في شبكة علاقات يجرى من طريقها التأثير في عقولهم، خصوصاً ان الحوار بينهم ما زال يفتقر الى دور الطليعة التي تدير النقاش وتشجعه. هكذا مثلاً يجرى التسويق لوجهات نظر وسياسات مخادعة كالحرب الاستباقية ونشر الديموقراطية ومقاومة الإرهاب وجدولة التصدي للدول المارقة التي تؤويه. والرأي العام بعد التحفظ والممانعة ونتيجة التركيز المتواصل والمتلاحق لضخ هذه الآراء، ينتهي به الأمر الى الاستسلام والرضوخ. وكما كان تشرشل يقول إن الإحصاء هو علم الكذب بالأرقام، فإن الإعلام بالإمكان استخدامه بذكاء ليصبح علم الكذب بالمعلومات. لقد كانت لحادث 11 أيلول سبتمبر نتائج عميقة على السياسة الأميركية لأنه بات من الصعب جداً بعد الترويج الإعلامي المتلاحق وخلق جو عام من الخوف والتوتر في أميركا وخارجها إقناع الناس ان صدام حسين لم يكن يعد العدة لتطوير أسلحة الدمار الشامل ليهدد أمن الولاياتالمتحدة والعالم. وتبين بعدها بثلاث سنوات ان هذه الاتهامات كانت كاذبة ومحض افتراء. كما ان صدام حسين الذي اتهم بالتعاون مع الارهاب الدولي لم يكن متورطاً في مأزق من هذا القبيل، وأصبح السؤال بعد احتلال العراق 2003 والقبض عليه: ماذا نفعل بديكتاتور دموي مثل صدام؟ ما ان صدرت الأحكام حول حادث الدجيل ودين صدام وأعوانه، حتى توقف التحقيق في الاتهامات الأخرى وجرى بعد رفض المحكمة التمييز في الحكم، إعدامه وأعقب ذلك بفترة وجيزة إعدام بزران التكريتي وعواد البندر، وثبت بالأدلة والشواهد ان الحد الأدنى من احترام القانون والأصول كان غائباً عن تنفيذ الإعدام، وشكل مادة إعلامية دسمة بل مكتنزة بالإثارة سيطرت بقوة على جميع وسائل الإعلام الدولي والعربي ابتداء بالفضائيات وانتهاء بالصحف. وتبين بسبب الحرب الاهلية غير المعلنة والتذابح المذهبي ان الحكومة العراقية كانت اقرب الى ان تمثل طرفاً ميليشيوياً من كونها جهة رسمية تمثل هيبة القانون والقضاء. إن الحد الأدنى من الانضباط والاحترام لمهابة الموت كان مفقوداً في قاعة الإعدام. هكذا، عوضاً أن يؤدي إعدام صدام حسين ومعاونيه الى تعميم مقولة ان لا أحد في العراق فوق القانون، إذا بطريقة الإعدام وظروفها وملابساتها تثير المزيد من الأحقاد والضغائن وتذكي الحرب الدموية. وكان لافتاً حقاً كيف شكل إعدام صدام حسين مناسبة للعديد من الأطراف الدوليين والإقليميين لتسجيل مواقف محددة، كل من منظوره الفكري والحضاري وموقعه السياسي. وشكل الإعدام دعماً موضوعياً لسياسة جورج بوش واستراتيجيته الجديدة القاضية بإرسال المزيد من الجنود الأميركيين الى العراق. وانقسم الرأي العام العربي حيال الحدث الطاغي فاعتبر المسلم العادي توقيت إعدام صدام مؤذياً لمشاعر المسلمين صبيحة عيد الأضحى، بينما اعتبره البعض الآخر إذكاء لنار الحرب المذهبية في العراق. أما المثقفون العرب وبالأخص جانب كبير منهم الأكثر تأثراً بالحضارة الأوروبية وأدبياتها ووجهات نظرها فوجدوا في الإعدام فرصة سانحة للإدلاء بآرائهم لاجتذاب اهتمام الجمهور لذا عمد العديد منهم الى اتهام العرب بالبربرية والهمجية والاستخفاف بحقوق الإنسان. ولما كان هؤلاء يعولون على غياب أي معرفة أو اطلاع عربييّن لتاريخ الإعدامات الكبرى في التاريخ فقد مارسوا جدياً نوعاً من الجلد الطوعي والرجم الذاتي ومحاكمة قاسية مازوشيه للنفس بحثاً عن موقف حضاري اكثر تقدماً ونضجاً من الاتجاه العام السائد. والحق ان هذا الموقف لا يمثل غربة حقيقية ليس عن الواقع المادي المعاش فحسب بل عن واقع أوروبا نفسها عشية إلغائها لقانون إعدام المدان. ويجدر بنا اجراء تقويم موضوعي متوازن لتجارب الغرب مع الاعدامات الكبرى وعدم الغرق في أي عملية تقديس عمياء لكل ما هو غربي او في قراءة خاطئة لتاريخ العالم. بعد طي التاريخ الاسود لأوروبا القرون الوسطى ومحاكم للتفتيش، من خلال عصر النهضة الاوروبية بالذات التي ارتكزت على الافكار الانسانوية humanistes تم اعدام الملك البريطاني شارل الاول ستيوارت في 27 كانون الثاني يناير 1649 بعدما أدانه البرلمان باشعال الحرب الاهلية. وما ان أعدم الملك بالفأس في ساحة"وايتهول"في لندن حتى اندفعت الجماهير تبلل مناديلها بدماء الملك المقطوع الرأس. أما في فرنسا أم القوانين فبعد محاكمة طويلة للملك لويس السادس عشر الذي اتهمه البرلمان بالخيانة العظمى والرشوة والفساد 1793 جرى اعدامه في ساحة الثورة الكونكورد وسط حفلات الرقص والاهازيج واطلاق الهتافات. اما نابليون الاول الذي توفي مسموماً في منفاه في جزيرة"سانتا هيلانة"عام 1821 فقد تأخر نقل رفاته الى"البانتيون"في باريس حتى العام 1840 بسبب ممانعة اعدائه الانكليز"الحضاريين"تسليمها الى فرنسا. وتشير اعدامات عام 1871 بعد انهيار كومونة باريس اثر هزيمة نابليون الثالث الى إعدام المئات من قادة الكومونة بين 22 و28 ايار مايو من دون محاكمة. عام 1918 في روسيا بعد مضي 9 أشهر على تسلم البلاشفة الحكم نفذ الاعدام بالقيصر نقولا الثاني المخلوع وأفراد عائلته في سفرولوفسك الاورال ولم يبق منهم سوى الأميرة انستازيا التي ضاع اثرها في اوروبا الغربية بين جنيفوباريسولندن. وفي العام 1919 شهدت المانيا تصفية جسدية لقادة حزب السبارتاكيين روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنيخت وكلارا زيتكين من دون محاكمة. ولم يكن مصير ادولف هتلر عام 1945 حضارياً على الاطلاق عندما لجأ في 30 نيسان ابريل الى الانتحار مع عشيقته ايفا براون عندما شعر باطباق الجيش الاحمر عليه في"البونكر"ملجأه الحصين قرب برلين، لأنه لم يكن يحلم بمحاكمة عادلة لرئيس دولة مهزومة. اما حليفه بنيتو موسوليني فحاول قبل ذلك بأربعة ايام الهرب مع عشيقته كلارا بتاتشي متنكراً في زي جندي ألماني قرب بحيرة كومو شمالي ايطاليا فألقى الشيوعيون القبض عليه وأعدم من دون محاكمة وعلق على احدى بوابات ميلانو، رجلاه الى أعلى، حيث تعرضت جثته للاهانة والتمثيل البشع. عام 1989 في رومانيا بعد توقيف رئيسها نيقولاي تشاوشيسكو وزوجته في بوخارست وإخضاعهما لمحاكمة مرتجلة، جرى اطلاق نيران الرشاشات عليهما قرب جدار قريب فمزقت جثتاهما إرباً ارباً. ومن المفيد في هذا المجال ان نتذكر المحاكمة الملتبسة التي اخضع لها ذو الفقار علي بوتو بتهمة مختلقة دبرها الجنرال ضياء الحق الذي استولى عام 1977 على حكم باكستان بالقوة فأعدم بوتو عام 1979 وسط ذهول العالم بأسره. هذه النماذج التاريخية لا تخدم على الاطلاق وجهات نظر جانب من المثقفين العرب الذين اثاروا قضية حضارية عبر ما جرى من ملابسات رافقت اعدام صدام حسين ومساعديه. فإن كانت الحكومة العراقية قصرت في الكثير من واجباتها الرسمية واحترام القوانين والأعراف عند التنفيذ وسمحت لكثير من الخروقات القانونية والتجاوزات، فإن ذلك لم يكن حدثاً فريداً من نوعه في التاريخ الحديث. ولم يكن العراقيون المتورطون في انتهاكات من هذا القبيل اكثر همجية وبربرية من العديد من الشعوب الاوروبية سابقاً، لأن اعتبار الاعدام قتلاً قانونياً لانسان ما ارتكب قتلاً غير قانوني يجب ان يحاسب عليه، له علاقة موضوعية بالمستوى الحضاري الذي بلغته اوروبا في نهاية الألف الثاني أي منذ فترة زمنية لم يمض عليها سوى بضع سنوات. ونتساءل هنا ان لم يكن سياسياً بامتياز حقيقة الموقف عن الحكم على عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني بالاعدام واستبداله بالسجن المؤبد كمحاولة ذكية من النظام التركي للانضمام الى اوروبا المتحدة الرافضة لعقوبة الاعدام؟ جوهر المشكلة التي يتناساها بعض دعاة اتخاذ موقف حضاري طوباوي من قضية الاعدام المطروحة للنقاش يكمن في قدرة اوروبا على بناء قواعد نظام علماني قادر فعلاً وممارسة الفصل بين النصوص الدينية والدولة. تطلب ذلك التطور مئات السنين من الكفاح المتواصل وإراقة الكثير من الدماء تحقيقاً للثورة الديموقراطية، ثم بعد ذلك انجاز نظام علماني قادر على التطور في معزل عن جبروت النصوص الدينية القاضية باعدام القاتل. وفي هذا المجال ألم يكن لافتاً حقاً ان الفاتيكان نفسه وهو الامين على النصوص الدينية لم يبق في معزل عن هذا التطور، فاضطر تاريخياً لمواكبة التطور والتماهي معه. هذا ما جرى هناك والذي بالضبط ما لم يحدث عندنا حتى اللحظة، لأن الأساس المادي لقوى التغيير والتطور في بلادنا لم يختمر وينضج بعد، وما زال كما نعتقد بعيد المنال. تلك هي الفزاعة التي يتجنب الخوض فيها الاعلاميون وغالبية المثقفين. * كاتب لبناني.