القدس مدينة من أشهر مدن العالم ومدن التاريخ، من حيث ارتباطها بالديانات السماوية الثلاث. كان يفترض بهذه المدينة أن تكون إسماً على مسمى، من حيث أن تسميتها مشتقة من لفظة السلام، فتكون المدينة الأكثر أماناً في العالم، مدينة مفتوحة على المحبة والرحمة والعدالة، مدينة تجسّد اخلاقية سماوية من حيث إلتصاقها بديانات التوحيد، ولكن للأسف الشديد، هي اليوم مدينة الحقد والمجازر التي ترتكب باسم الله. استحوزت القدس على اهتمام الكتّاب والرّحالة. وحظيت بوصف مستمر في كتب الجغرافيين المسلمين والعرب، كما في كتب الرحّالة الغربيين. ومنذ حروب الفرنج التي تحمل أيضاً تسمية الحروب الصليبية تزخر المصادر الغربية بعشرات الصفحات التي تصف المدينة بدقة متناهية، ناهيك عن الدراسات الغربية المعاصرة التي تناولت هذه الحروب فأفردت عشرات الصفحات لدراسة التطور المدني في المدينة منذ بداياتها. ومع مطلع التاريخ الحديث، وحتى منذ القرن الخامس عشر الميلادي كثر الرحّالة الأوروبيون باتجاه الشرق وتركوا مدوّنات كثيرة تصف واقع المدينة الحياتي والعمراني، ومن النماذج على ذلك كتاب كان لي نصيب في نشر نصوصه بالفرنسية من القرن السابع عشر الميلادي للراهب الفرنسيسكاني"أوجين روجيه"الذين عاش في المنطقة زمن الأمير فخرالدين المعني الثاني اللبناني ورافق الأمير في السنوات الاربع الأخيرة من حكمه بصفته طبيباً له، نجد فيه وصفاً مستفيضاً، لا للقدس فقط، بل لباقي مدن فلسطين وللجماعات المكوّنة للبنان وفلسطين، في حياتها الاجتماعية وديموغرافيتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها. وبينما كانت القدس موضوعاً لوصف قديم ولدراسات حديثة في الغرب لم تحظ بالاهتمام الكافي عند الباحثين العرب إلا من الناحية السياسية، من حيث القضية الفلسطينية والصراع العربي - الاسرائيلي والفلسطيني - الاسرائيلي. وقيّض لفلسطين وللقدس بعض الابحاث الصادرة عن مؤسسات الدراسات الفلسطينية، وبعض الاطروحات ورسائل الدبلوم في بعض الجامعات العربية، ونجد اليوم بين أيدينا دراسة مهمة وعلمية الى حد بعيد لنخبة من المختصين بعنوان:"تاريخ القدس وحاضرها، منهج للتعليم العام والعالي". حرّر هذا الكتاب د. عزت جرادات وشارك في التحرير الباحثون: عزت جرادات، رائف نجم، غازي ربابعة، موسى الكيلاني، محمود الهزايمة، وليد العطاري، محمود المساد، زياد المدني، نعيم عليوه وأسعد السحمراني. طبعاً للكتاب منطلقات قومية واضحة المعالم، لأن القدس تأخذ حيزاً كبيراً في مناهج التعليم لدى المشروع الصهيوني وفي الدعاية الاسرائيلية، لذلك يسعى المؤلفون لأن تجد قضية القدس مكانة لها كمبحث في التعليم العام والجامعي في العالم العربي. يدرس الكتاب تاريخ القدس من العصور القديمة حتى الاحتلال الاسرائيلي، مروراً باليبوسين - الكنعانيين والفراعنة والعبرانيين وسيطرة بلاد ما بين النهرين واليونان والرومان والعرب والفرنج والأيوبين والانتداب البريطاني والعهد الهاشمي وصولاً الى الاحتلال الاسرائيلي. ويلاحظ من الناحية المنهجية عدم إسناد المعلومات الى مصادر ومراجع فيما يخصّ الفترة السابقة للانتداب. وثمّة ملاحظة تنسحب على كامل الكتاب، وتختصّ بإطلاق صفة العرب على الشعوب القديمة في فلسطين وسائر دول الشرق العربي، وهذه التسمية منتشرة، عند المؤرخين اللبنانيين، وعند المؤرخين العرب من منطلقات قومية لا من منطلق علمي، ولها مفاعيل خطيرة، فيما لو نظرنا الى الوجه الآخر لهذه المسألة. فبنفس المنطق يمكن تسمية العبرانيين اليهود عرباً، وهم جاؤوا من العراق الى بلاد كنعان ومصر ثم فلسطين، وهم من نفس فصيلة وأرومة الكلدانيين والأشوريين والبابليين والكنعانيين والآراميين واليبوسيين والعرب وغيرهم. إذا، في الحقيقة علينا أن نختار: بين أن نقلع عن هذه التسمية أو ندخل العبرانيين فيها، ولذلك نتائجه التي لا مكان هنا للنقاش فيها. يسلّط الكتاب الضوء أيضاً على أهمية القدس الدينية في العهود الوثنية وفي التوراة وفي العهد الجديد وفي القرآن والسنّة وصولاً الى الحفريات الأثرية منذ العام 1863. وأعتقد بأن البحث في القدس في التوراة يقتضي على الاقل قراءة التوراة لا الاتكال على مراجع من الدرجة الثالثة. أما بما يخص القدس في العهد الجديد فاعتقد بأن الكاتب لا يعرف الدين المسيحي بالعمق. وبكل الاحوال فالديانة المسيحية، باستثناء بعض الشيع لا تولي أهمية للحجر في عقيدتها. أما ما جاء في القرآن الكريم وفي الاحاديث النبوية الشريفة وفي نتائج الحفريات، وأخطرها ما جرى ويجري تحت الاقصى المبارك، فهو أفضل بكثير مما سبق. الوحدة المتعلقة بالعمران منذ القدس اليبوسية مروراً بالأمكنة الدينية الاسلامية المسجد الأقصى وقبة الصخرة وغيرها... ودراسة السور والأبواب والقلعة والزوايا وغيرها أضف اليها كنيسة القيامة والكنائس الأخرى والاعمار الذي شهدته اخيراً على زمن الاردن هي على قدر كبير من الاهمية وإن تكن مراجعه من الدرجة الثانية علمياً. وبعد هذه الدراسة المستفيضة لهذه المعالم التاريخية والعمرانية يعرّج الكتاب بصورة جيدة على الجغرافيا والسكان مع أن هذا البحث يفترض أن يمهد لكافة جوانب الدراسة. ويكرّس حيزاً مهماً للأوقاف والاملاك الاسلامية والمسيحية ولمصادرة اسرائيل لها واساليبها في ذلك. النصف الثاني من الكتاب بحث سياسي في الحركة الصهيونية والحروب العربية والاسرائيلية وللثورات، وللقدس في مشاريع التسوية وفي المنابر الدولية المنظمات الدولية والعربية والاسلامية وعدم الانحياز والاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية. ويركز على القدس في التراث الأدبي. ويضيء الكتاب على القدس في الإعلام وفي الخطابين العربي والاسلامي من جهة والخطاب الصهيوني ومشاريعه من جهة أخرى. مفنّداً مواقف الحركة الصهيونية واسرائيل والاحزاب ومشاريع التسوية الصهيونية. وينتهي الكتاب بالاحتلال الصهيوني للقدس ومحاولة تهويدها تعليمياً وديموغرافياً واجتماعياً واقتصادياً الى ما هنالك من نشاطات أخرى للتهويد. القدس، التي كنّا نتمنى أن تكون مدينة للصلاة، مدينة مفتوحة، من دون عقد وقيود، على كل الاديان والاجناس والألوان، مدينة سامية من دون تعصّب ديني وعرقي، تستأهل أكثر من بحث. فهذه الدراسة عن تاريخ القدس، على حسناتها، ومع الثناء على الجهد العلمي الكبير الذي قام به منفذوها، وعلى المنفعة منها، ينبغي أن تكون مدخلاً لدراسات محكمة اكثر من الناحية المنهجية وأشد صرامة علمية، وأكثر انفتاحاً، بحيث تكون مجابهة الايديولوجيا الصهيونية - الاسرائيلية متماسكة وفعّالة.