نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا المعروف باسم نجيب محفوظ 1911 - 2006 كان والده موظفاً بسيطاً في إحدى الجهات الحكومية، ثم استقال واشتغل بالتجارة وهو الأمر الذي ظهر - في ما بعد - في الثلاثية من خلال شخصية السيد أحمد عبدالجواد التاجر بالحمزاوي، ورواية"حضرة المحترم"التي تصور حياة الموظفين التي عاشها نجيب محفوظ بالانضباط الذي ورثه عن والده الموظف البسيط. وكبر نجيب محفوظ وسط أربعة أخوة وأخوات، وذهب في الرابعة إلى كُتّاب الشيخ بحيري في حارة الكبابجي القريبة من درب قرمز، ثم التحق بمدرسة بين القصرين الابتدائية وذلك في الدائرة الجغرافية التي أخذ منها أسماء روايات:"بين القصرين"،"قصر الشوق"،"السكرية"،"خان الخليلي"،"زقاق المدق"،... إلخ. وانتقلت الأسرة إلى العباسية عام 1924، وفيها حصل نجيب على شهادة البكالوريا من مدرسة فؤاد الأول الثانوية فأضيفت دائرة جغرافية أخرى إلى الدوائر المكانية التي ظلت تتحرك فيها روايات نجيب محفوظ اللاحقة. وبدأت الميول الثقافية لابن العباسية في الظهور، فحاول الكتابة التي أخذت طريقها إلى النشر، ولكن البداية الحاسمة جاءت مع تعرفه على سلامة موسى 1887--1958 الذي كان قد أنشأ"المجلة الجديدة"سنة 1929 حين كان نجيب محفوظ في الثامنة عشرة من عمره، يدخل عالم الفكر والكتابة للمرة الأولى، ويزور سلامة موسى في بيته الذي كان يضم مقر المجلة التي قابله صاحبها بالتشجيع والرعاية المتواصلة، فنشر فيها مقالاته الفكرية أولاً ثم قصصه ثانياً. وكان ذلك قبل أن يدخل الجامعة، وبعد أن دخلها، واختار قسم الفلسفة الذي دفعه سلامة موسى إلى اختياره على نحو غير مباشر، بعد أن جذبه إلى عوالم الفكر العقلاني والاشتراكي والعلم الحديث. فمال الشاب إلى هذا الفكر حتى من قبل أن يترك المدرسة الثانوية، وينشر مقاله"احتضار معتقدات وتولّد معتقدات"في تشرين الأول أكتوبر سنة 1930، مواصلاً طريقه الفكري والأدبي الذي بدأ بالقصة الأولى"ثمن الضعف"التي نشرتها"المجلة الجديدة"في آب أغسطس من سنة 1934، لكن بعد أن جذبه سلامة موسى إلى التاريخ الفرعوني الذي كان يراه أصل الهوية المصرية. وكانت النتيجة أن دفع سلامة موسى الذي تحول اسمه الروائي إلى عدلي كريم تلميذه الفتى إلى قراءة هذا التاريخ في مصادره المتاحة. وأغراه بترجمة كتاب جيمس بيكي"مصر القديمة"الذي أكمل محفوظ ترجمته التي نشرها له سلامة موسى ضمن منشورات"المجلة الجديدة"سنة 1932، حين كان نجيب محفوظ لا يزال طالباً في سنته الجامعية الثانية من قسم الفلسفة - كلية الآداب، جامعة القاهرة. وليس من المستبعد أن يكون سلامة موسى هو الذي أعطى تلميذه الشاب نسخة الكتاب من مكتبته الخاصة، ودفعه دفعاً إلى ترجمته، فاستجاب الشاب الذي كان يحترم أستاذه إلى أبعد حد. ويبدو أن الأستاذ لم يقنع بذلك فأغرى تلميذه الذي أخذت ميوله الروائية في الظهور بتأليف روايات عن التاريخ الفرعوني. ونشر له روايته الأولى في هذا الاتجاه"عبث الأقدار"سنة 1939. وكان سلامة موسى في ذلك الوقت - بحسب ما كتبه ابنه رؤوف عن علاقة أبيه بنجيب محفوظ - يعمل في كتابه"مصر أصل الحضارة". وقد أنجبت له زوجته ابناً ذكراً سماه"خوفو"، فاقترح نجيب محفوظ عليه أن يكون اسم روايته"خوفو"، لأنها تدور حول هذا الفرعون العظيم. ولكن سلامة موسى رفض، ورأى أن الاسم لا يصلح عنواناً للرواية، واختار لها عنوان"عبث الأقدار"لجاذبيته، ووافق نجيب محفوظ على التسمية التي اختارها أستاذه للرواية التي نشرها في منشورات"المجلة الجديدة". فكانت أولى رواياته الفرعونية التي ظهرت بعد سبع سنوات من ترجمته الكتاب الذي ظل وحيداً دالاً على المجال الذي انجذب إليه محفوظ الروائي الشاب، المفعم بالحس الوطني الصاعد في مناخ مؤاتٍ صنعته ثورة 1919. هكذا اتجه نجيب محفوظ إلى كتابة روايات التاريخ الفرعوني الذي تحمس له في أفق ثقافي لم يخلُ من التأثّر بالرواية التاريخية التي أسس ملامحها الكاتب البريطاني الشهير سير والتر سكوت 1771--1832 الذي عرفه قراء العربية بفضل ترجماته الباكرة، وبخاصة فضل الذين قرأوا بلغته الإنكليزية روايات من طراز"روب روي"1817 و"إيفانهو"1819 و"الطلسم"1825، وهي روايات أثارت الإعجاب باهتمامها بالتاريخ، وأصابت بالعدوى كثيرين من الروائيين في مصر، على رأسهم جرجي زيدان 1861 - 1914 اللبناني الأصل الذي أنشأ في القاهرة"مجلة الهلال"1892 وپ"دار الهلال"للنشر، واهتم بكتابة التاريخ الإسلامي في قالب قصصي، يمزج بين الحقيقة والخيال، ويغري القارئ بقراءة رواياته التي جمعت ما بين"المملوك الشارد"1891 وپ"أسير المتمهدي"1892 وپ"استبداد المماليك"1893 مروراً برواية"فتاة القيروان"1912 وانتهاء برواية"شجرة الدر"1914 التي صدرت سنة وفاته. وكان نجاح الرواية التاريخية التي تستوعب التاريخ الإسلامي حافزاً لانتشارها بين عدد لا بأس به من الكُتَّاب الشوام، ولكن في اتجاه"التمدن الإسلامي"الذي ألحّ عليه جرجي زيدان والمتأثرون به، وتباعد عنه أمثال نجيب محفوظ من تلامذة سلامة موسى الذي انحاز إلى الوطنية المصرية التي فجّرتها ثورة 1919، وتعصَّب للتاريخ الفرعوني الذي كشف عن عظمته التي لا مثيل لها اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سنة 1924، وما تركته من آثار جذرية في التيار الثقافي الوطني المعتز بمصريته، تمييزاً لنفسه عن تيارات الرابطة الإسلامية أو الدعوة إلى إحياء الخلافة الإسلامية، وذلك بعد انقلاب أتاتورك وإنهاء الخلافة العثمانية التي ظلت منطوية على مبدأ الدولة الدينية الذي رفضه بشدة أمثال سلامة موسى الذي انتقل رفضه إلى تلميذه النابه، فظهر في كتاباته التي ظلت مناقضة لمبدأ الدولة الدينية، منحازة إلى الدولة المدنية التي تجمع كل عناصر الأمة، وتحقق شعارات:"الدين لله والوطن للجميع"، وپ"وحدة الهلال مع الصليب". وهو الانحياز الذي كان على نجيب محفوظ أن يدفع ثمنه غالياً بعد أكثر من نصف قرن. لكن لماذا اختار نجيب محفوظ الطالب ترجمة كتاب جيمس بيكي؟ ومن هو جيمس بيكي هذا؟ وماذا أغرى في كتابه نجيب محفوظ كي يترجمه من دون أي مقدمة أو حتى تعريف؟ هل هي سهولة الأسلوب أو الموضوع أو إلحاح أستاذه؟ الطريف أن لا أحد توقف عند هذا الكتاب من كل الذين درسوا نجيب محفوظ، في ما أعلم، حتى أولئك المهتمين بالأدب المقارن. ولذلك تعودنا أن نقرأ عن أن نجيب محفوظ الطالب النجيب والقصاص الواعد ترجم هذا الكتاب الذي كان أول ما نشر له، وغالب الظن أن ما من أحد تصفح الكتاب أو قرأه، على الأقل، ليقارن بين مواضيعه والمواضيع التي اختارها نجيب محفوظ لرواياته التاريخية الثلاث. وتدافعت كل هذه الأسئلة إلى ذهني عندما توقفت عيناي، مصادفة، على الكتاب الذي يقع في أول الصف الطويل الذي تحتله كتب نجيب محفوظ في مكتبتي الخاصة، كأني أراه للمرة الأولى، وتذكرت أنني لم أحاول أن أقرأ الكتاب قط، وأنني شُغلت عنه بما رأيته أكثر أهمية، أعني روايات نجيب محفوظ التي بدأت بالثلاثية التاريخية، ولم تعد إلى التاريخ الفرعوني إلا بعد أكثر من أربعين عاماً في رواية"العائش في الحقيقة"1985. وأخذت أفتش عن معلومات عن المؤلف جيمس بيكي، وأستعين بأصدقائي وصديقاتي الذين يتقنون البحث في الإنترنت أكثر مني، وعلى رأسهم شهرت العالم وعماد أبو غازي. وكانت المفاجأة الأولى أن جيمس بيكي 1866 - 1931 الذي مات قبل صدور ترجمة كتابه بعام واحد رجل دين مسيحي وليس عالم آثار. وكانت المفاجأة الثانية أنه لم يزر مصر قط، ولم يفارق موطنه في إسكوتلندا، أو إنكلترا بوجه عام، الأمر الذي يقارب بينه في مشابهة عدم السفر ونجيب محفوظ الذي لم يغادر مصر إلا مرة واحدة إلى اليمن بتعليمات صارمة من عبدالناصر. وكانت المرة الأولى والأخيرة. حتى جائزة نوبل، لم يسافر ليتسلمها على رغم قيمة الحدث ودلالته الاستثنائية، بل أرسل ابنتيه فاطمة وأم كلثوم لاستلام الجائزة من ملك السويد بصحبة محمد سلماوي الذي ظل من أقرب الناس إليه، واكتفى هو بالبقاء في القاهرة وإعداد خطاب ألقاه سلماوي بالنيابة عنه، سعيداً بالبقاء في منزله وسط كتبه التي كانت تنقل العالم إليه، وذلك قبل ظهور الإنترنت الذي جاء بعد أن ضعفت عيناه، ولولا ذلك - فيما قال لنا ذات مرة - لتخندق حوله ولم يفارقه. وظل نجيب في القاهرة لا يتحرك إلا من بيته إلى مقر عمله إلى أن أحيل إلى المعاش، فاستبدل بالذهاب إلى الوظيفة الذهاب إلى أصدقائه المثقفين الحرافيش والكُتَّاب الشبّان، متحركاً في دائرة جغرافية محدودة، وصلت ما بين"كازينو الأوبرا"في العتبة وپ"ريش"في شارع طلعت حرب، قرب ميدانه، ثم"إيزافتش"في ميدان التحرير، وأخيراً"كازينو قصر النيل"الذي حدثت محاولة اغتياله أثناء توجهه إليه مع صديق طبيب في سيارته. وكان ذلك في مساء الجمعة الموافق الرابع عشر من تشرين الأول سنة 1994 بعد حصوله على جائزة نوبل بست سنوات. ويبدو أن رجل الدين جيمس بيكي كان يعيش حياة مشابهة، فظل يقرأ عن الحضارة الفرعونية التي سحرته هي وحضارات الشرق، وتراوحت كتبه ما بين دراسات دينية في تخصصه اللاهوتي ودراسات أثرية ناتجة عن قراءاته المذهلة التي لم تترك شيئاًَ عن مواطن اهتمامه إلا واستوعبته كي تعيد إنتاجه. هكذا أصدر القس جيمس بيكي كتاباً عن"البردى"، وآخر عن"عصر العمارنة"سنة 1926، وثالثاً عن"الآثار الفرعونية في وادي النيل"، ورابعاً عن"حياة الشرق القديم"، وخامساً عن قرن بأكمله من"الحفريات الأثرية في أرض الفراعنة"، وسادساً عن"تاريخ مصر منذ أقدم العصور"، وسابعاً عن"أرض الفراعنة"، وثامناً عن"روعة حفريات الشرق الأدنى"سنة 1927، وتاسعاً عن"قصة الفراعنة"، وعاشراً عن"القصص المصرية القديمة عن العالم القديم"سنة 1925. وأخيراً كتاب"مصر القديمة"الذي نشره في مطلع كانون الثاني يناير سنة 1916، وترجمه نجيب محفوظ ونشره سلامة موسى سنة 1932. وللرجل غير ذلك كتب كثيرة في مجاله الديني: منها"حكاية الإنجيل"سنة 1930، وپ"قصة الكتاب المقدس"سنة 1923، وپ"الكتاب المقدس الإنكليزي وقصته: نموه ومترجموه ومغامراتهم"سنة 1928، وپ"أرض الكتاب المقدس وأهلها"سنة 1914، وپ"القدس القديمة"سنة 1930. وليست هذه هي كل كتب الرجل، فغيرها كثير يؤكد أن هذا القس قضى معظم أعوامه الخامسة والستين في القراءة والكتابة عن"الكتاب المقدس"وپ"أرض الفراعنة وحفرياتها"التي لم يقم بها، أو زارها، بل نقل أخبارها من كتب ودراسات الذين قاموا بها. وكنت أتوقع أن أجد كتاباً له عن اكتشافات توت عنخ آمون وحفرياته، ولكن يبدو أنه خاف من لعنة الفراعنة التي اقترنت بهذا الاكتشاف الذي نال من معظم الذين قاموا به أو اهتموا بأمره. أما لماذا اهتم الشاب نجيب محفوظ بترجمة هذا الكتاب فالاحتمالات متعددة: أهمها - في تقديري - تأثير سلامة موسى أولاً، وثانياً احتمال أن يكون هو الذي أعطاه الكتاب وطلب منه ترجمته، وثالثاً أن الكتاب يحكي التاريخ الفرعوني في قصّ جذاب مشوق، يثير المخيلة البصرية، ويدفع القارئ إلى أن يرتحل مع صفحات الكتاب كأنه يشاهد فيلماً تسجيلياً ذا طابع روائي، فيقضي يوماً في طيبة، ويرى فرعون في قصره، ومنه إلى حياة الجند، راوياً بعض الأساطير التي تبدأ حكاياتها بقصة الملك خوفو الذي أصبح وأولاده موضوع رواية"عبث الأقدار"1938، الرواية الأولى في روايات نجيب التاريخية، ومن قصة خوفو إلى بعض الأساطير، وهكذا نصل إلى الفصل التاسع عن استكشاف السودان الذي يبدأ على النحو التالي:"لا توجد رواية أمتع من رواية اكتشاف القارة المظلمة أفريقيا، فقد استكشفت جزءاً جزءاً حتى انتهى الأمر بمعرفة الأسرار العظيمة التي ظلت مدفونة في جوفها أعواماً لا عدد لها. ولكن هل يمكن تصور طول هذه القصة التي بدأ الفصل الأول منها في حقب لا تعد؟"ويترك الكتاب السودان ليتوقف على الرحلة الاستكشافية التي أمرت بها الملكة حتشبسوت في فترة حكمها، منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف ونصف ألف من الأعوام. وينتقل الكتاب إلى المعابد والقبور وإلى معتقدات الفراعنة وعلاقتهم بالسماء، خاتماً بأسطورة إيزيس وأوزيريس التي يرويها على نحو شائق، لا بد من أنه ترك أثراً طيباً في خيال نجيب محفوظ الشاب اليافع، فتزايد حماسه للدخول إلى هذا العالم، والكتابة عنه. وقد فعل ونجح، لكن للأسف لم يلتفت أحد إلى كتابات جيمس بيكي في التاريخ الفرعوني ودروبه وتوابعه، إلا عالما الآثار المصرية لبيب حبشي وشفيق متري فترجما وعلَّقا على كتابه عن"الآثار المصرية في وادي النيل"الذي أصدرا ترجمته في أربعة أجزاء، وكانا من العلماء المرموقين في مصلحة الآثار المصرية. وصدر الجزء الأول من الترجمة سنة 1963 ضمن سلسلة"الألف كتاب"، ويضم آثار الدلتا والقاهرة والجيزة حتى سقارة، ويشمل الجزء الثاني مصر الوسطى وجانباً من آثار الصعيد الأعلى. أما الجزء الثالث فخاص بآثار الأقصر شرقاً وغرباً، وانفرد الجزء الرابع بآثار ما بعد الأقصر حتى الخرطوم. ولا أعرف هل كان لبيب حبشي وشفيق متري - رحمهما الله - يعرفان بترجمة نجيب محفوظ لكتاب جيمس بيكي الذي عرّف به قراء العربية قبلهما بما يزيد على ثلاثين عاماً؟ لا أعرف الإجابة عن السؤال، فلم أستطع العثور على ترجمتهما التي أرجو أن يكون مترجماها كتبا مقدمة تتحدث عن مؤلف الكتاب الذي عشق تاريخ بلد لم يره، ولم يكن أمامه سوى تخيّله والكتابة عن حفرياته وآثاره وتاريخه من مئات الدراسات التي أثق أنه لم يترك منها شيئاً إلا والتهمه بشغف عاشق المعرفة وحماسة رجل الدين العالم الذي يُحيل تعلقه بمجاله العلمي إلى نوع من التصوف.