كانت قراءاتي الأولى لپ"ملحمة الحرافيش"أواخر السبعينات، عقب عودتي من رحلة علمية مثيرة وطويلة في المكسيك، سعدت فيها بالالتحام المباشر والمعمق مع ما أطلق عليه حينذاك"الانفجار الروائي في اميركا اللاتينية". حيث لقيت فكرياً وشخصياً كوكبة من كبار المبدعين، منهم أوكتافيو باث الذي كنت أحاضر معه في كلية المكسيك للدراسات العليا، وپغابرييل غارييا ماركيز الذي كان يقيم حينئذ هناك. التزمت في مقاربتي للحرافيش بأهم العناصر المحلية المتجسدة فيها مدركاً أن النص يفرض هذا المدخل لاكتشاف رؤيته، ولاحظت أن مطلعها وبنيتها الكلية تعتبر فتحاً جديداً في الرواية العربية حيث يقول محفوظ:"في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مفاجأة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا". محفوظ يلخص في هذه الافتتاحية الشاعرة ملامح رؤيته الكونية، فهي رؤية تتذرع بالأسطورة من دون أن تقع في قلبها، وتسترق السمع إلى ما وراء الواقع من دون أن تبرح مكانها، وتطرح مناجاة الماضي اسئلة على المستقبل الموعود. وهي فوق ذلك تقيم"حارتنا"نموذجاً للكون، وتجعل منها العالم الأكبر، وترى فيها الماضي السحيق والحاضر القريب، ومن ثم تعتبر"الحرافيش"امتداداً مطوراً لپ"أولاد حارتنا"وپ"حكايات حارتنا". ولكنها طراز فريد في بنائها الفني، يجرب فيه محفوظ إطاراً روائياً ملحمياً من حقه ان يدرس بعناية وتمهل. فإذا كانت الملامح الكبرى تشمل عادة 12 مرحلة فإن الحرافيش تتضمن عشر حكايات، وتستغرق امتداداً زمنياً فهو لا يمتد عبر ما يربو على عشرة أجيال أي قرابة أربعة قرون، وكل حكاية تتوزع بين الطول والقصر، وتبلغ الحكاية في المتوسط خمسين فصلاً، قد يتكون أحدها من جملة واحدة مثل قوله"لو أن شيئاً يمكن ان يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول"أو يستغرق صفحات عدة. وتعتمد في التوزيع على الحدس بالزمن وطيه، وحركة الشخصيات، وتنقلات الأحداث، كما تنبسط أو تتكثف طبقاً لتداخل هذه العناصر، لكنها تخضع في نهاية الأمر لنوع من الإيقاع الشديد الانضباط البالغ الدقة. فإذا كان محفوظ يثير دهشة مؤرخيه بانتظامه والتزامه ودقته فإن توازن الأجزاء في ملحمة الحرافيش لا يقل عن ذلك إثارة للدهشة، إذ قد تطول الفصول أو تقصر لكن مجموعها يصل في كلمات عدة الى ثمان وخمسين صفحة لا يتجاوزها في معظم الأحوال. مما يعطي لها هذا الطابع السيمتري الذي يغري بالتحليل الدلالي لتركيبها الكلي. إذا كانت أهم العناصر الملحمية في الرواية الحديثة تتمثل في الشمول الكلي في الرؤية، والاستبعاد الزمني بالأسطورة، والتكثيف الشعري في الأداء، فقد طرحت هذه الأسئلة في رواية الحرافيش لأجد فيها طموحاً شديداً لتمثيل الإنسان باعتباره كائناً يلخص تاريخ الخليقة، فعاشور الناجي يعادل الانسان الأول، ابن الخطيئة، لقيط في الكون، تمتد إليه يد ضرير هو الشيخ عفرة زيدان الذي كان ربما كأنه القدر العشواني، ويحاول أخوه غوايته درويش - على وزن إبليس - ولكنه ينجو بالعمل المسخر لخدمة الانسان، ثم يحل الوباء بالحارة = الدنيا ويفتك بأهلها. ويعتصم عاشور مع زوجته الغانية وابنه بالجبل فيمثلون النجاة من الطوفان في قصة الخليقة. ويظل عاشور رمزاً للخير ودرويش رمزاً للشر ويتجاوران، أحدهما يقوم بدور الفتوة المثالي الذي يسخر قوته لحماية المستضعفين ونشر العدل، والثاني يدير"البوظة"ويلعب بالغرائز ويرضي الشهوات. لكن مثالية عاشور الناجي ليست أخلاقية فحسب، بل هي مثالية فلسفية، أي أنها تقوم على أساس من استقراء التاريخ البشري أو الاحتكام الى مراحل تطوره الفعلية، وإنما تعتمد على فرضية من صنع المؤلف، هي أن بطلاً ما يقرر بمحض إرادته الفردية أن يقيم نظاماً من الفتوة على أساس من الخير أو العدل، ويرفض انحرافها الى البلطجة والتكسب بالقوة، وعلى رغم إدراك محفوظ العميق للعوامل الفاعلة في المجتمع وللصراع الطبقي والنفسي للقوى التي تدير الحياة وتمثيلها برموز متكررة، مثل السبيل والزاوية والبوظة والتكية، إلا أن هذا الإدراك لا يفيده في التكييف التاريخي المتوازن للدور الذي يقوم به نموذجه الأساسي، فيظل عاشور الناجي ومن بعده ابنه شمس الدين شخصيات فرضية وهمية لا تتمتع بحياة خصبة مشبعة برائحة الوجود الفعلي، إنها تعيش فحسب حياة الأشباح من دون أية ارتباطات تاريخية محددة. ويظل هذا الافتقار الى الوجود الفعلي بزخمه الخصب ماثلاً في معظم أجزاء الرواية، فهي تقع في مصر المحروسة، في مكان معين على مشارف الصحراء مما يلي الدرّاسة، حيث يتاخم"الجيوش"ويقرب من"العطوف"ولكنها تقع في فراغ زمني رهيب، لا حكام ولا عهود ولا مراحل تاريخية خاصة، فهل كانت مصر حينذاك مملوكية أم عثمانية أم خديوية، ألم يكن لها أي احتكاك بشعوب أخرى تركية، أو أوروبية غازية، باستثناء بعض الإشارات اليسيرة في التكية والخواجة لا سبيل أمامنا لموقعة"ملحمة الحرافيش"زمنياً. وهذا على وجه التحديد ما يقصده المؤلف، فهو الذي كتب من قبل الرواية التاريخية والواقعية يدير هنا ظهره عاملاً للتاريخ استجابة للمطلب الثاني للإطار الملحمي وهو استبعاد الزمن بالأسطورة، والأسطورة لا تتمثل في الأفعال الخارقة المعجزة ولا في البطولات الفذة النادرة ولا في العناصر الغيبية المعجزة، وإنما تتمثل في إقامة عالم خاص متطوع الوشائج الظاهرية على الأقل بدنيا الناس وما بأهلها من سكان حقيقيين لهم أسماء تاريخية. ولاحظت أن هذا القدر من التمثيل الأسطوري لا يكفي وحده لبعث الروحي الملحمي في الرواية، فرأيت أنه كان على نجيب محفوظ أن يكون أشد جرأة في ملامسة الفعل الخارق المعجز ليضرب في أعماق الميثولوجيا المصرية والعربية كما كان يفعل الروائيون في أميركا اللاتينية، ونبهت الى أنه في بعض اللحظات الفائقة قد أوشك على أن يدخل مجال الأسطورة، لكنه لا يلبث أن يفر منها كأنه يهرب من حقل ألغام، مثلا عندما احتدمت المأساة في نفس"شمس الدين"غيرة على أمه ذات الماضي الموجع ذهب محزوناً الى ساحة التكية، ومن شدة أساه حمل السور المترامي فوق عاتقه، وعندما يدركه الشيب يتذكر - فقط يتذكر - الأولياء الذين عمروا ألف عام. وتأتي الحكاية السابعة لتدعو المؤلف الى مشارفة الأسطورة بجرأة أشد، إذ أراد جلال أن يدرك الخلود فذهب الى شاور يلتمس السحر ومرافقة الجان، فأشار عليه بالاعتزال سنة كاملة، وبناء مئذنة بلا مسجد، ووقف عمارته على مريدته حواء، وبعد أن وفى جلال كل ذلك مات بالسم على يد زينات الشقراء، وخرج عارياً لينكفئ على حوض الماء ويصبح أمثولة ساخرة في فم الأجيال. كان الطريق ممهداً لأسطورة فذة، ولكن نجيب محفوظ لم يجرؤ على اقتحامه. مكتفياً بالإيماء بالمناخ الأسطوري - بالرائحة فحسب - بوسيلتين، هما تحويل الأحداث الواقعية الى مبالغات تختمر في حضن الماضي وتصبح عجائب، أو استخدام الحلم لكسر قوانين العالم الخارجي. وأخذت حينئذ في تحريض نجيب محفوظ حتى لا يظل عالم الأسطورة مغلقاً أمامه بغلبة الحس الواقعي الحرفي عليه، وذكرته بما فعله كتاب اميركا اللاتينية في ثورتهم المذهلة التي اصبحوا بها سادة الرواية العالمية، حيث يكمن سر عظمتهم على وجه التحديد في اكتشافهم لصيغة جديدة من صيغ الواقعية أطلقوا عليه الواقعية السحرية. حيث نجد كبرى أعمالهم"مئة عام من العزلة"لغارسيا ماركيز تقدم عالماً شديد الشبه بما يطمح نجيب محفوظ الى تقديمه في"ملحمة الحرافيش"، ولكن المؤلف الكولومبي يعانق الأسطورة ويرتضي بالفعل الخارق لتمثيل القوى الكامنة في الانسان، ويثير رمزه بأبعاد ميثولوجية متعددة الاتجاهات. الزهد طريق النجاة يظل المبدأ الذي يقود أبطال نجيب محفوظ في هذه الرواية ويحدد مصائرها هو أن الزهد وحده طريق النجاة، وأن الترف والمرأة كلاهما سبيل الهلاك، وهو مبدأ يتم تصوره في شكل متعادل على الواقع التاريخي ويتم عرض الأحداث عليه بطريقة فرضية مسبقة، ما يؤدي الى نتيجة خطيرة حيث يصبح التغير تدهوراً الى الأسوأ والتطور خروجاً من الفردوس المفقود. ما يكاد يلغي منطق الحياة والتاريخ ويقيم بديلاً عنه كوناً مثالياً يخضع لقوانين تختلف عن قوانين التطور الاجتماعي والانساني المعروف. وأقول"يكاد"لأن حاسة نجيب محفوظ الروائية الواقعية تسعفه في الحكايات التالية، فيكف عن الخضوع الحرفي لمنطق الثواب والعقاب الأخلاقي، ويسمح لمفارقات الحياة ان تسخر قليلاً من"السيمترية"الصارمة لتواجهنا ببعض المصائر العبثية التي لا تقبل التفسير، كما نرى في قصة سماحة مثلاً. يضع محفوظ لهذه الحكاية ختاماً بارعاً يستعيره من أبيات حافظ الشيرازي التي يثبتها بالفارسية وترجمتها:"ليس لآلامنا من علاج سواك أيها الغوث... وليس لهجرنا من سبيل سواك أيها الغوث". فيعطي إيقاعاً بائساً مستصرخاً بأعتاب السر الكبير، ولكنه يمضي الى أبعد من ذلك فيستحضر هذا الغائب مرة ثانية وقد صار شيخاً ضريراً تقر عينه بأولاده فيلقى أيضاً - على المدى البعيد - ما يستحقه من جزاء وثواب. ويأتي العنصر الملحمي الثالث - وهو التكثيف الشعري - ليجعل رواية الحرافيش انتقالاً نوعياً في أسلوب محفوظ في مرحلته الوسيطة، كما رصدت، ويتمثل هذا التكثيف في مستويات لغوية ورمزية وصوفية عدة لعل أبرزها هذا التوظيف الممتع في أناشيد التكية لأشعار غزليات حافظ الشيرازي، حيث يستغل عروبة الحرف الفارسي وسهولة قراءته مع اختلاف اللغة واستغلال معناها على القارئ، ليحدد القدر المسموح له بتلقيه وهو الهيكل الصوتي فحسب كي يناوئه ويشاغله بسرها المكنون. إنه يلعب بمهارة بورقة الإبهام المتبدي من الأسطر ليثير جملة ايحاءات رمزية حافلة بالدلالة فهذه الأناشيد الشعرية تمثل القوى الروحية الدائمة المتعالية على الزمان والمكان، وإذا كان وصفها بأنها لا ترد على طارق لأنها مثل الموت خالدة ، هذا الخلود الشعري هو الوظيفة الرمزية للأناشيد التي تتردد أصداؤها مثل الخلفية الثابتة القائمة على حافة الحارة الحافلة بالمتغيرات. فكأنها الشاشة المضيئة بغموض تعرض على صفحتها حركة الوجود الطاغية. وعندئذ ينبثق البعد الصوفي المشرق في الملحمة ليضع لها ملامحها الشرقية الأصيلة. وإذ مضى على قراءتي الأولى لملحمة الحرافيش نحو 27 عاماً ولقيت ترحيباً وتشجيعاً من محفوظ حينذاك، على ما تضمنته من نقد، فإن أعماله الكبرى تظل محكاً خصباً لمنهجيات النقاد في الأجيال القادمة.