للاستبداد العربي آباء كثيرون، بيد أن تطورات عدة وقعت في العقدين الأخيرين، ترجح أن يكون مستقبل الأوضاع السياسية في العالم العربي مختلفاً عما ساد قبلاً. فهناك، أولاً، عملية إحلال وتجديد في قمة هرم السلطة السياسية لأسباب طبيعية بيولوجية. وثانياً، فان البون بين الحركات الإسلامية المتطرفة والحركات الإسلامية المعتدلة يزداد وضوحا، بفضل جهود هذه الأخيرة من أجل مصالحة تاريخية مع مؤسسات النظام الديموقراطي وبعض قيمه. وثالثاً، يزداد الفضاء العام غير الحكومي اتساعا بسبب ما وفرته تكنولوجيا الاتصالات من سهولة في نقل المعلومات والأفكار بسرعة فائقة. وهناك، رابعا، تراجع الأيديولوجية القومية العربية في صيغتها التقليدية التي كانت تعلي من قضية الوحدة على حساب قضية الديموقراطية. وكان من شأن هذه التطورات أن تحدث شروخاً في بنية الاستبداد في العالم العربي، ليس أقلها ما يأتي: بيولوجيا الموت السياسي: لأسباب بيولوجية طبيعية يموت القادة التاريخيون وتحل محلهم قيادات أكثر شبابا"نسبيا"، ما قد يؤثر إيجاباً في مستقبل بعض النظم العربية، اذ أدى بقاء بعضهم فترة طويلة في السلطة إلى مركزية هذه الأخيرة وتراجع دور المؤسسات في مواجهة دور القيادة السياسية"الأبوية"، في وقت يفترض أن تضع المؤسسات القوية قيودا مختلقة على صانع القرار وتخضعه للمساءلة، وهو ما أبته، ولا تزال، معظم القيادات التاريخية في العالم العربي، والتي تعتبر نفسها فوق القانون والمساءلة. وإذا كانت حال الانفتاح السياسي"المحدود"التي يشهدها بعض الدول العربية تؤشر إلى أن القيادات الجديدة ترغب في تأسيس شرعيتها على أساس من الإصلاحات السياسية، إلا أن هذه القيادات لم تفلح حتى الآن في نقل مجتمعاتها إلى ديموقراطيات ليبرالية، وإنما، فقط، إلى مجتمعات أقل تسلطية مع الاحتفاظ بحق التدخل والنكوص عن هذه الإصلاحات وقت الحاجة. ثيولوجيا الإسلام الديموقراطي: بات واضحاً أن ثمة تحولاً حدث في تعاطي الحركات الإسلامية المعتدلة وعلى رأسها جماعة"الإخوان المسلمين"مع أطراف اللعبة الديموقراطية، وعلى رأسها النظم السياسية والنخبة المثقفة، وهو ما جعل منها الحركات الإسلامية طرفا قابلا بمؤسسات الديموقراطية وإجراءاتها، مع التحفظ على إحدى ملامحها في الغرب وهي العلمانية. وساهم في هذا التحول إطلاع قادة هذه الحركات على الكتابات المختلفة لمفكرين إسلاميين معاصرين من أمثال يوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا ومحمد عمارة وطارق البشري وفهمي هويدي وراشد الغنوشي وحسن الترابي. وعلى سبيل المثال، أعطى كتاب القرضاوي"في فقه الدولة الإسلامية"للجماعة"صك غفران"للتعامل مع الديموقراطية بوصفها"إسلامية"، بقدر ما هي أداة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما كانت جهود البشري مؤثرة في تبني صيغة مدنية للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المسلم. وفضلاً عن ذلك، قبل"الإخوان"بالعديد من المقولات التي تقوم على أن السلطة للشعب، ولكن شرط ألا يقرر الشعب ما يتعارض صراحة مع نص قطعي الثبوت والدلالة من القرآن والسنة. ومن جهة أخرى اجتهدت جماعة"الإخوان"في التمايز عن الجماعات المتشددة التي تتبنى العنف ضد حكوماتها ومجتمعاتها. وكان من شأن تبني جماعة"الإخوان"، وهي الفصيل الإسلامي الرئيسي، للإجراءات الديموقراطية، واضطرار وغيرها من الحركات الإسلامية الى التعايش في بيئة تعددية لا تستطيع أن تفرض إرادتها المنفردة عليها، أن يؤدي إلى اتساع شرخ آخر في بنية الاستبداد العربي المعاصر. تكنولوجيا الفضاء العام: تشهد المجتمعات العربية، مع تفاوت في الدرجة، اتساعا لمساحة الفضاء العام، وذلك بسبب تكنولوجيا الاتصالات التي وفرت للمواطن العربي وسائل جديدة للاتصال والتحاور من خلال القنوات الفضائية والمواقع التفاعلية على الانترنت. وهو ما ساهم في خلق فضاء عام أرحب للتفاعل بين المواطنين العرب لا سيما الشباب، وبروز نزعة نقدية لدى الكثيرين منهم ازاء الأوضاع الحالية، والرغبة في مجتمعات أكثر ديموقراطية، وهو ما ينعكس حتماً على نظرتهم الى حكوماتهم ووضعها في مقارنة مع غيرها من الحكومات الأكثر شفافية والتزاماً ازاء مواطنيها. نهاية الأيديولوجيا الشعبوية: ولعل من سوء الحظ، أن الحركة القومية العربية لم تصل إلى الحكم في أي دولة عربية عبر انتخابات حرة نزيهة، بل كان هذا يحدث إما عن طريق انقلاب عسكري أو من خلال ثورات شعبية ضد الاستعمار، وهو ما دفع بالكثير من قادتها إلى التضحية بالديموقراطية وحقوق الإنسان، في مقابل الحفاظ على"حلم"الوحدة العربية والانتصار على الصهيونية ودحر الاستعمار الأجنبي. ووقعت الأيديولوجيا القومية أسيرة لصيغة"إما / أو"، فإما الحقوق المدنية والسياسية أو الوحدة والاستقلال والتنمية الاقتصادية. وكان يغلف ذلك الممارسات القمعية والفساد وتهميش المعارضين وإقصائهم. بيد أن ذلك لا ينفي حدوث مراجعات فكرية للأيديولوجية القومية التقليدية، تدفع بها الى تبني المكونات الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. ولعل أهم ما تنتجه هذه المراجعات ما يمكن تسميته بعامل"الواو"أي إننا أمام محاولة لاستيعاب عامل"الإضافة والتكامل"بين الأهداف الوحدوية من دون الحاجة للتضحية بالديموقراطية من أجل غيرها. هذه الشروخ الاربعة، يمكنها أن تتسع لتنال من البنية الاستبدادية المعاصرة والراسخة في كثير من مجتمعاتنا، بيد أنها في حاجة إلى زيادة في الطلب على الديمقراطية والاستعداد لدفع ثمنها، وهو ما يقتضي تغيرات أخرى في بنية المعارضة العربية وفي ردم الفجوة بين الديموقراطية ووعي المواطن العربي بفوائدها المباشرة له. كاتب مصري