رفع البنك المركزي العراقي في منتصف شهر تموز يوليو الماضي سعر الفائدة المعتمد لديه الى 12 في المئة بعد أن كان 10 في المئة. ويعلل بيان للبنك إجراءه هذا بأنه جاء لخفض نسب التضخم الجاري بمعدلاته المرتفعة التي بلغت 53 في المئة بين 2005 و2006، وذلك بخفض نسبة السيولة وتشجيع الادخار. وتبع رفع معدل سعر الفائدة المذكور توجيه البنك المركزي الى المصارف التجارية برفع معدلات أسعار فوائد الإيداع. ومع وجود فوارق بسيطة بين المصارف، فإن فوائد المصارف التجارية على قروضها القصيرة الامد بالدينار العراقي هي 15 في المئة، ومتوسطة الأمد 17 في المئة والطويلة الأمد 19 في المئة. وفيما لو ان التضخم الجاري في العراق ناتج عن زيادة الطلب مع وجود مستويات إشباع استهلاكي عالية، لكان في إجراء البنك المركزي منفعة. إلا أنه تضخم من النوع الناشئ عن ارتفاع الكلف مع نقص استهلاكي واضح ومعدل دخل فردي منخفض. وفي حالة كهذه فان رفع أسعار الفائدة من شأنه أن يزيد الطين بلة، إذ سيزيد في كلف الاستثمار و الإنتاج ، ويقلل الكفاءة الحدية لرأس المال المستثمر المتمثلة بمعدل العائد الداخلي للاستثمار. إن في مقدم المعضلات الكبرى التي يواجهها الاقتصاد العراقي الآن، ضعف القدرة التنافسية السعرية لمنتجاته وارتفاع تكاليفها وتراجع الاستثمار والإنتاج المحلي، وارتفاع نسب البطالة الناجمة عن ذلك، وتردي مناخ الاستثمار وبيئته. لذا، لا ندري أي زيادة سيولة نقدية يقصدها بيان البنك المركزي وعند من؟ تشير دراسة أجراها برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة بالتعاون مع وزارة التخطيط والجهاز المركزي للإحصاء في بغداد الى"أن ما يزيد على نصف الشعب العراقي أو 15.7مليون نسمة يعيشون بدولار واحد في اليوم"للفرد الواحد. وضمن هذا العدد أكثر من أربعة ملايين نسمة يعيشون بأقل من نصف دولار للفرد يومياً. وهم يعيشون بفقر مدقع، على رغم تسلمهم مواد البطاقة التموينية. وأن نحو 20 مليون نسمة، أو ما يزيد على ثلثي الشعب العراقي 69 في المئة من المجموع، يأكلون اللحم مرة واحدة في الاسبوع. ومن ضمن هذا العدد 5.2 مليون يعيشون ايضاً من دون بيض ولبن وحليب فضلاً عن اللحم. ومنهم من لا يحصل على أي من تلك المواد حتى مرة واحدة في الأسبوع، ونحو 60 في المئة من تلاميذ المدارس الابتدائيه مصابون بفقر الدم، ونحو أربعة أخماس النساء في سن الإنجاب في جنوبالعراق يعانين من الداء نفسه. فأي سيولة نقدية يتكلم عنها بيان البنك وبأيدي من هي؟ وأي ادخار يراد من هؤلاء المساكين، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل. ولو أدخلنا في الحساب مؤشرات الرفاه والتباين الاجتماعي والاقتصادي الأخرى، ومن ضمنها الفضاءات والمسطحات الخضر التي لا تتمتع بها الا قلة قليلة من أفراد مناطق الفئات الهامشية والفقيرة، وعدد سيارات جمع القمامة المتوافرة لهؤلاء، وعدد الأطباء وعدد أسرة المستشفيات وعدد الحواسيب الشخصية وعدد التلاميذ في المدارس وغير ذلك لبان الخطب أعظم. فأي فيض أنفاق حكومي يتكلم عنه بيان البنك ومحافظه في تصريحه لفضائية"الفرات"يوم 13 تموز يوليو الماضي؟ ان القضايا الاقتصادية ومصالح المجتمع لا يتعامل معها كما لو كنا في مختبر أو معمل نريد ان ننتج مادة بتفاعل مادتين وعامل مساعد آخر، فنزيد او ننقص من هذا العامل أو ذاك. فالعملية الكيماوية هي ضمن نطاق محدود هو نطاق عوامل التفاعل. إلا أن الاقتصاد غير ذلك. يقول عالم الاقتصاد رونالد كوز، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد:"إن أي وضع اقتصادي فعلي هو وضع معقد، وإن أي مشكلة اقتصادية مفردة لا توجد بمعزل عن غيرها، ومن ثم يكون التعامل عرضة للالتباس، كون التعامل مع واقع اقتصادي معين يترتب عليه التعامل مع مشاكل عدة وحلها في آن واحد". استناداً"الى مصادر موثوقة، فإن قرار البنك المركزي موضوع البحث جاء بتوجيه من صندوق النقد الدولي. إلا أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قال عن هذا الصندوق إنه"يصف حبة الدواء ذاتها للمرضى كافة". ان النسب النقدية هنا لا تمثل الواقع. يفضل ان تولي السياسة الاقتصادية في العراق اهتماماً"أكبر وبحثاً"اكثر الى جانب العرض وارتفاع الكلفة، والعوامل التي تقف وراء ذلك، ومنها الفساد الإداري المستشري في دوائر الدولة، والتحالفات بين المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال، والبيروقراطية المقيتة المتجذرة عميقاً التي تؤخر استجابة العرض وتقمع فرص التقدم. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تحمل العراقيون طيلة عامي 2004 و 2005 دفع فواتير اتصالاتهم بالهاتف النقال ضعف الكلفة التي يدفعها مواطنو بلدان مجاورة، وذلك نتيجة الوضع الاحتكاري الذي وفرته الوزارة المختصة لشركة"عراقنا". كما ان السعر العالمي للكيلوغرام الواحد من الدجاج البرازيلي هو دولار واحد في حين يبلغ سعر الجملة دولارين ونصف الدولار في السوق العراقية. ويلعب الفساد الاداري دوراً في ذلك. أما في قطاع العقار، فإن ضرائب انتقال الملكية وتصحيح وثائق العقار وغيرها من الضرائب والرسوم في هذا القطاع تثير العجب والسؤال والحيرة في بلاد تقض مضاجع أبنائها تكاليف الحصول على سكن وقلة ما في اليد. وإذا تهاود التضخم مستقبلاً، فلن يكون ذلك نتيجة ما قام به البنك المركزي الآن برفع سعر الفائدة موضوع البحث، بل بسبب عوامل اقتصادية وسياسية مرتقبة أخرى لا علاقة له بها. * خبير اقتصادي عراقي.