بعد أن بدأت الرحلات البخارية منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمن تجوب أطراف جنوب أفريقيا، تقل ركابها من منطقة لأخرى، تحمل في طيات رحلاتها نوعاً جديداً من السياحة، وبعد أن أثبتت نجاحها ضمن نطاق محلي، كان لزاماً على شركات القطارات البخارية هذه تطوير رحلاتها وقطاراتها وتجهيزها على درجة أكبر من الرفاهية لتواكب أفكار السائح المتطلب. وذلك ما حوّل أنظار عشاق المغامرة والتجديد اليوم إلى سياحة حديثة القلب والقالب، إلى عبور أدغال افريقيا على صهوة حصان بخاري يتمتع بكامل مواصفات الراحة والجمال. وفي الحقيقة، حققت هذه القطارات ما يشبه المعجزة في جمع المواصفات على متن رحلاتها. فعلى قاطراتها تتوزع أكثر الغرف فخامة ما يضاهي أفضل الفنادق في العالم، ويقوم على خدمة ركابها فريق متمرن على أصول الضيافة والخدمة يفخر بتحقيق طلبات المسافرين مهما اختلفت، كما يعمل أشهر الطباخين على تقديم أشهى الوجبات وبما يناسب كافة الأذواق وينافس أهم المطاعم العالمية، بنوعية الطعام الذي يقدم للمسافرين ضمن أجواء شاعرية تؤمنها قاطرات المطاعم الفخمة على متن القطار والتي يستلزم بعضها من المسافرين لباساً رسمياً قبل دخولها. كل ذلك يغلفه أطار من السحر والجمال وروعة المناظر الطبيعية، فكل دقيقة تمر على الزائر في أراضي جنوب أفريقيا هي غالية وقيمة، فالمساحات الخضراء الممتدة تقطعها الأنهار بمياهها الخضراء التي لا تلبث أن تضيع في الغابات التي تتسلق الجبال مع القطار. وما يزيد من شاعرية هذا المنظر فهد نائم على جذع شجرة بعد وجبة طعام كبيرة، أما في الليل فعجلات القطار تهدهد المسافر في سريره وكأنه طفل صغير في مهده. هذه الرحلات تتنوع في مدتها، فقد تزيد أو تقل حسب البرنامج الذي يختاره السائح، إذ تتراوح بين اليوم الواحد والأسبوعين، الى جانب قيام هذه القطارات برحلات سنوية خاصة ولمرة واحدة في السنة، حيث تنطلق في شهر تموز يوليو من كيب تاون باتجاه دار السلام في تنزانيا لمسافة 6100 كم ولمدة 13 يوماً، وأخرى إلى ناميبيا في شهر أيار مايو، بالإضافة إلى ثلاث رحلات سنوية لعشاق الغولف تدعى سفاري غولف، واحدة في شهر نيسان أبريل وأخرى في آب أغسطس، والثالثة في كانون الأول ديسمبر يمر بها المسافر على أهم ملاعب غولف في جنوب أفريقيا خلال رحلة تضم الرفاهية والمتعة والترفيه. نختار في هذا المجال واحدة من أهم الرحلات التي تقدمها شركات القطارات وهي رحلة بين كيب تاون في جنوب أفريقيا وشلالات فيكتوريا في زمبابوي، حيث تعتبرهذه الشلالات واحدة من أهم وأعلى المعجزات الطبيعية في العالم وتصنف في عظمتها إلى جانب جبال هملايا. هذه الرحلة يجب أن تكون على مرحلتين تقطعهما وقفة في مدينة بريتوريا. يكون الوصول أولاً إلى مدينة كيب تاون والتجول في أرجائها واكتشاف معالمها وشوارعها والتبضع من أسواقها. وقد يكون الوصول إلى قمة جبل تيبل Table Mountain عبر المصعد المتحرك من أكثر المتع السياحية في المنطقة من أجل التمتع بالإطلالة الساحرة من على قمة الجبل المشرف على المدينة والمحيط، أو بالاسترخاء على شواطئ ورمال المحيط الناعمة. ولا تحتاج مدينة كيب تاون إلى أكثر من ثلاثة أيام قبل الانتقال إلى محطة القطار لتبدأ الرحلة من جديد. من كيب تاون إلى بريتوريا المساحات الواسعة الممتدة من حقول العنب هي أول ما سيعترض طريق القطار في بداية رحلته قبل أن يتجه صعوداً متسلقاً الجبل إلى ارتفاع 1220 متراً عن سطح البحر. التغير في المناظر الطبيعية بعد تسلق قمة الجبل هو أول ما سيلحظه المسافر، فالألوان الخضراء في المناطق الساحلية تنقلب إلى ألوان المناطق الداخلية الجرداء، حيث تنبسط الأراضي بشريط يميز الجنوب الأفريقي والذي يمتد حتى أثيوبيا. في اليوم الثاني للرحلة يصل القطار في الصباح إلى محطته الأولى في كيمبرلي مدينة الألماس الشهيرة، وعادة ما يدعى المسافرون لقضاء اليوم في هذه المدينة برفقة دليل سياحي خصوصاً زيارة أكبر حفريات صنعها الأنسان حتى يومنا هذا، المعروفة باسم الحفرة الكبيرة" The Big Hole". كذلك فإن ركوب الترام التاريخي في جولة حول المدينة بعد زيارة المنجم الذي تحول إلى متحف أمر ضروري لاكتشاف معالم أهم مدينة مصنعة للألماس. يغادر القطار في مساء ذلك اليوم متجهاً صعوداً باتجاه ناطحات السحاب في مدينة جوهانسبرغ، أكبر مدينة في الصحراء الأفريقية. ليس في زيارة هذه المدينة الكثير خصوصاً مع السمعة الاجرامية السيئة التي تحوم حولها، لذلك فان قضاء يوم واحد فيها قد يكون أكثر من كاف... ثم يواصل القطار رحلته في مساء اليوم الذي يصل فيه المدينة متجهاً إلى بريتوريا. شلالات فيكتوريا ينطلق القطار شمالاً باتجاه واحدة من أكثر المناطق غنى بالثروات المعدنية في القسم الجنوبي من القارة الأفريقية حيث تشير الأحصاءات إلى أن 70 في المئة من البلاتينوم الذي يستخرج في العالم يأتي من منجمين فقط من مناجم هذه المنطقة. يقطع القطار في رحلته مصدر نهر النيل بعد أن يمر بينابيع المياه المعدنية الدافئة،ويجتاز حدود الاسكاربمانت التي ينحدر جرفها من 1219 إلى 609 أمتار. وعلى هذا المنحدر التاريخي تتعلق بطريقة خيالية المستحاثات الحية المعروفة بأسم كايكاد التي لم تتغير أبداً خلال 130 مليون سنة، هذه النباتات البطيئة النمو والتي تشبه النخل ولا تنتمي لفصيلته، كانت فيما مضى طعاماً لديناصورات المنطقة. ونظراً الى قيمتها التاريخية وحمايتها من السرقة والتلف فإن نقل نبتة منها من مكان لآخر يحتاج إلى تصريح من الحكومة بذلك. ولزيارة غابة الكايكاد على السائح أن يمر عبر أرض الملكة الماطرة"Rain Queen" وتقديم احترامه لها لتقدسه وتبعث بالمطر كما تقول الأسطورة. مباشرة بعد اجتياز محطة سوكميكار، يقطع القطار خط مدار السرطان باتجاه منطقة الاستواء حيث يمر على بلدة لويس تريتشارد الجميلة النائمة، حيث يعتقد الأفريقيون بأن عملاقاً اقتلع الأشجار ثم أعاد زرعها بالمقلوب خلال نوبة غضبه... وهذا تقريباً هو حال أشجار باوباب في هذه المقاطعة. مع اجتياز حدود جنوب أفريقيا وزمبابوي في ميسينا تتابع الرحلة سيرها في أراضي زمبابوي، يلف القطار حول نفسه مغيراً اتجاهه من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي،بما يمكن السواح في القاطرة الأولى من التقاط الصور الفوتوغرافية للقطار بكامله، ثم عبور أطول امتداد مستقيم لسكة حديد في العالم تصل إلى 72 ميلاً قبل وصول الرحلة إلى شلالات فيكتوريا محطتها النهائية. غالباً ما تكون رحلة العودة عن طريق الطيران إلى مدينة كيب تاون مكان الانطلاق، ويجب الحجز لرحلة الطائرة قبل السفر، وباستطاعة مكتب السفر الذي ينظم الرحلة أن يقوم بالمهمة.