نعم، هناك نكبة كامنة يجري التستر والتعتيم عليها في البلدان العربية عن طريق الجهل والإنكار. والخوف كل الخوف أن تستمر ذهنية الجهل والإنكار إلى أن يستشري الوباء، ووقتها سيكون الوقت قد فات لعمل شيء ما حيالها. موضوع النكبة القادمة إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن هو انتشار مرض نقص المناعة المكتسب في البلدان العربية. مختصر التحليل الوبائي للمرض هو أن مواجهته بكفاءة، حتى القضاء على المرض في المجتمع، تبقي ممكنة ما دامت نسبة انتشاره اقل من 4 في المئة. ولكن إن تعدت نسبة الانتشار حد الخطر هذا، فالأرجح أن يتصاعد معدل الانتشار بسرعة فائقة حتى يصل الى حد استحالة القضاء عليه بانتقال المرض إلى قرابة ثلث السكان. عند حد الإبادة هذا يتحول الوباء إلى عدو فتاك يقضي على الحياة من دون تمييز ويحيل حياة من يفلتون منه إلى حين جحيماً. وهذه مأساة بعض البلدان الأفريقية التي انتهت إلى فقدان كل منجزات التقدم البشري التي تحققت بها في مضمار مقاومة الوفاة خلال القرنين الماضيين، وفقدتها في اقل من عقدين من الزمان. والخشية أن البلدان العربية قد تكرر هذه المأساة الأفريقية. فالتقديرات المتاحة، على ضعفها، تشير إلى أن معدل انتشار المرض في البلدان العربية يبقى في حدود 1 في المئة. والمشكلة أن هذه التقديرات تقلل من المدى الفعلي لانتشار المرض، حيث يرى بعض الخبراء أن مدى الانتشار قد تعدى حد الأمان هذا في أكثر من بلد عربي. لكن الحكومات، مدفوعة بمزيج الجهل والإنكار، تقلل من مدى الانتشار دافنة الرأس في الرمال هروبا من عار متوهّم ومن مشكلة قد لا تطيق مواجهتها بالكفاءة المطلوبة. مأساة الشعوب، في المقابل، أن هذه الذهنية تدعم ركون الحكومات إلى تجاهل المشكلة، بينما يمكن مكافحتها، وتتيح من ثم الفرصة لمرض أن يستشري غير معوّق، بحيث يصبح الوصول الى حد الخطر، ثم حد الإبادة، مسألة وقت ليس إلا. وما لا يعلمه الجهلة والمنكرون أن تنبوءات انتشار المرض في المستقبل توصل البلدان العربية إلى حد الخطر 4 في المئة في اقل من عشر سنوات إذا استمر منهج الجهل والإنكار سائدا. بعبارة أخرى، الموقف الحالي للحكومات يضع المجتمعات العربية على طريق للفناء قد لا يمكن الرجوع عنه، محطاته الرئيسية هي التعامي عن انتشار المرض وقت أن كانت المواجهة الفعالة ممكنة، حتى بلوغ حد الخطر، وبعدها تسود ذهنية اليأس وعدم القدرة على مواجهة الوباء الذي استشرى إلى حد الإبادة، ولن يبقى للحكومات وقتها إلا انتحال الأعذار عن النكبة الجديدة التي جلبت على الأمة. لا يعني هذا أن مكافحة المرض في المرحلة الحالية أمر يسير، لكنه على الأقل ممكن. المطلوب برنامج مجتمعي متكامل ذو أبعاد تعليمية وإعلامية ورعاية للمرضى وإصحاح للمجتمع. ومن حسن الحظ أن لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي برنامجا إقليميا لمكافحة المرض، مقرّه القاهرة، مطلوب من جميع الدول العربية أن تستفيد منه وأن تدعمه بجميع السبل الممكنة، مساهمة في منع هذه النكبة الكامنة. وأول ما يتعين التخلص منه هو الجهل بالمرض وذهنية العار مما يلتصق بالمرض وبالمرضى. صحيح أن بعض الإصابة بالمرض يرتبط بأنماط سلوك غير مرضي عنها في المجتمعات العربية والإسلامية، لكن غالبية الإصابات لا ترتبط بسلوك مشين أو عورة أخلاقية، وكم من سيدة أصابها المرض في فراش الزوجية، أو طفل أصابه المرض عبر الوراثة أو عن طريق نقل دم ملوّث أو إبرة حقن تعدد استعمالها! أضف إلى هذا أن المرض ليس قابلا للانتقال بالمعايشة الاجتماعية العادية، فيظهر أن المرضى بحاجة، إضافة إلى إتاحة العلاج السليم، إلى الرعاية والعناية في إطار المحبة و المودة التي يستحقها أي مريض. بل إن منظور احترام حقوق الإنسان يرتب للمرضى حقوقا في مثل هذه الرعاية والعناية، بدلا من العزل والازدراء وإلصاق العار كما هو سائد حاليا. لكن المطلوب لمكافحة فعالة للوباء تستهدف إبقاءه دون حد الخطر أكثر بكثير. فهل تتحرك الحكومات، أم علينا أن ننتظر إلى أن يصل الوباء الى بلاطهم وحواشيهم؟