«الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    تشكيل النصر المتوقع أمام ضمك    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    "هيئة النقل" تؤكد منع عمل الشاحنات الأجنبية المخالفة للنقل بين مدن المملكة    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    المياه الوطنية و sirar by stcيتفقان على تعزيز شبكة التكنولوجيا التشغيلية في البنية التحتية لقطاع المياه    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يوقع عددًا من مذكرات التفاهم    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    كابوس نيشيمورا !    الاستدامة المالية    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    رئيس مجلس أمناء مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يعقد اللقاء السابع عشر    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعالجة الطبية وحدها غير ناجعة . مرضى الإيدز تصدوا للوباء، حيث أفلح التصدي ، بالعلانية والتضامن ومقارنة الاختبارات
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2001

ايقظ انتشار الوباء الجديد، الآتي من كاليفورنيا الأميركية والفاتك في الشبان البالغين بين 15 و25 عاماً، أيقظ في الأميركيين ثم في الأوروبيين الهلع الذي خيم على أوروبا، وعلى غير بلد من بلدان العالم القديم "الأوراسي" الأوروبي والآسيوي في أوائل النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي. فيومها نقلت قافلة من قوافل الحرير، عرجت على بخارى، الجميلة الاسم المشتق من البخور والعطور الأخرى، وأناخت في أسواقها وخاناتها وأرباضها، جرثومة الطاعون الأسود. وعصف الطاعون المحمول في أمعاء المسافرين وغائطهم ونفاياتهم، في جنوب أوروبا ووسطها وغربها وبعض شمالها، وأباد طوال قرن من الزمن نحو نصف الأوروبيين أو فوق نصفهم بقليل.
ولم تكد مختبرات معهد باستور الفرنسية تصف المرضى الجدد - وكان إعلان الوصف الأول في 5 حزيران يونيو 1981 وهو يوم "سعد" عالمي وليس عربياً وحسب - ثم تُتْبِع الوصف بتعيين الفيروس وعمله في إدامة فَقْد المناعة وكسب هذا الفقد وحفظه، وذلك بعد ثمانية عشر شهراً من الوصف الأول، حتى عم الأميركتين وأوروبا الغربية خوفٌ من الوباء أعاد صور الوجوه الغائرة والأجساد العليلة يوم الحساب والبعث من القبور. ف"الطاعون" الجديد، عوز المناعة الدائم والمكتسب "إيدز" أو "سيدا" بحسب قراءة الأحرف الأولى بالانكليزية أو بالفرنسية، كان داهماً. وإذا أحصي الى اليوم، غداة عشرين عاماً على تفشي الوباء، نحو اثنين وعشرين مليوناً من الوفيات كان فيروس عوز المناعة السبب فيها، فالشطر الأعظم من الوفيات الأميركية والأوروبية حصدته السنوات العشر الأولى.
البيئة العلاجية
ولكن المقارنة العارية بين أعداد الاصابات في بلدان ينمو فيها الوباء ويتعاظم وبين مثيلها في بلدان تخبو فيها جذوته، مقارنة غير مستقيمة أنظر الإطار المرفق.. فنصف المليون مريض تقريباً في غرب أوروبا وشمالها ليست حالهم، على وجه العموم، كحال أقرانهم عدداً في افريقياً أو في الصين ومعظم روسيا. والفرق الكبير هو أن معظم المصابين بالداء في بلدان "الشمال" ومجتمعاته انقلبوا، منذ 1996 وهو عام اختبار "العلاج الثلاثي"، من مصابين بداء مميت، في ثمانين الى تسعين في المئة من الأحوال، الى مرضى مزمنين "لا غير".
وعلى هذا، فاستقرار عدد الاصابات على هذا العدد أو ذاك في مجتمع من المجتمعات "الشمالية"، لا يعني ان وفاة الملايين الثلاثة العام الفائت أصابت بالعدل والقسطاس الاحصائيين نحو ثمانية في المئة من جملة المصابين. فحظوظ الوفاة ليست واحدة بين مجتمع وآخر. وبينما ينتهي الداء في معظم الأحوال، في البلدان الافريقية وفي مناطق الوباء الجديدة، الى وفاة المريض، تروي باحثة عيادية في أحد مراكز العلاج الكبيرة بفرنسا مستشفى بيساتْر أن عدد ضحايا الوباء هبط من اثنتين في الأسبوع الواحد، في 1995، الى ست طوال العام 2000. وبين 1995 و2000 منعطف "العلاج الثلاثي" في 1996. والفرق بين الحالين هو الفرق بين 104 و6 أي نحو ثمانية عشر ضعفاً ونصف المتوفين الألف في العام الفائت بفرنسا لا تعود وفاتهم الى فيروس السيدا الذي يحملونه بل الى تشمع الكبد، أو الى سرطان الرئة وتصلب الشرايين، وهما يصيبان المدخنين.
ويعود الفرق بين حالي المرض الواحد والمريض الواحد في مجتمعين مختلفين الى الفرق بين بيئتين علاجيتين. فاستقرار عدد الاصابات في غرب أوروبا وشمالها، وكبح جماح الداء، إنما سبقهما، ومهد الطريق اليهما إنشاء بيئة علاجية جديدة. وأول عوامل هذه البيئة، تسويق إبر اللقاح المعقمة تسويقاً مباحاً وحراً. فعوض تناقل متناولي المخدرات السائلة من طريق الدم واللقاحات آلات اللقاح المستعملة، والموبوءة في معظم الأحيان، وذلك خشية التهمة والملاحقة القانونيتين والبوليسيتين، أباحت السلطات الصحية والإدارية، في 1987 أو في تاريخ سابق أو لاحق بقليل، بيع الآلات المعقمة في الصيدليات، من غير تهمة ولا تعقب.
وترتب على هذا أمر "ثقافي" وحقوقي بارز هو الاقلاع عن مطاردة الجماعات التي تعرضها ملابسات حياتها الصحية والجنسية الى الاصابة بفيروس السيدا أو الإيدز ونقله، مطاردة المجرمين المتخفين.
وأذنت إباحة تسويق آلات اللقاح المعقمة وبيعها علناً بالصدوع، العلني بديهة، لحماية حياة البشر المهددين، وتقديم مرتبات هذه الحماية على أحكام الأخلاق الاجتماعية السائرة. وكانت الإباحة بمنزلة دعوة المتخفين والمتسترين والخائفين والمرذولين الى الخروج من تخفيهم وخوفهم و"عارهم" الى علانية الحياة الاجتماعية المنظورة والمشهودة. فشرط الوقاية من الوباء، على اختلاف طرق تناقله، هو علم المصاب به، وإعلانه عن إصابته، وتوقي نقله الى "الشركاء" المحتملين.
ويظهر أثر العلانية ظهوراً واضحاً في تناقص الاصابات من طريق الحمل. ففي أثناء العقد التاسع، وهو عقد السيدا الأول، بلغت اصابات المولودين لأمهات يحملن الفيروس 40 في المئة من الحوامل المريضات. أما الاصابات اليوم فلا تتجاوز 2 في المئة في بلدان ضفتي الأطلسي. وكان ابتداء التدني هذا، وهو بلغ عشرين ضعفاً كذلك، في 1994. ففي أعقاب اختبار اميركي وفرنسي أذيعت نتائجه في ذلك العام، عمد الأطباء الى معالجة النساء الحوامل، والمصابات بالفيروس، منذ اسبوع حملهن الرابع عشر، ثم الى معالجة الوليد الجديد في الأسابيع الستة الأولى بعد وضعه. وشرطا العلاج المزدوج هذا علم المرأة الحامل بإصابتها، وتقدمها بطلب وقاية جنينها من الإصابة في الوقت المناسب. والشرطان لا يستقيمان إلا بعلانية سافرة تقدم حياة المرأة والولد على خوف الشهرة والتشهير والتنديد.
وهذا الخوف هو بعض السبب في زيادة اصابة النساء الحوامل في جنوب افريقيا الى 5،24 في المئة منهن في العام 2000. وكانت نسبة الاصابة قبل عام 4،22 في المئة. وفي بوتسوانا تبلغ نسبة الاصابة بالفيروس بين الفتيات والشابات بين 15 و24 عاماً 34 في المئة من فئة العمر هذه. ويلاحظ المراقبون من غير عناء أن معظم الافريقيين، وعلى الأخص في البلدان البالغة الإصابة مثل جنوب افريقيا وبوتسوانا، لا علم لهم بإصابتهم، ولا وقاية منها تالياً إلا بعد تفاقمها وإشرافها على مراحلها الأخيرة وحين لا ينفع العلاج.
ففي معظم مجتمعات "الجنوب"، وهي المختلفة معتقداً دينياً وتقاليد اجتماعية، "يسود الحرام"، على قول صحافي فرنسي. وحيث يسود الحرام والعيب، وهي حال بوتسوانا على سبيل المثال، يقتصر عدد الذين يجهرون اصابتهم، ويعملون بموجب الجهر هذا وقاية وعلاجاً، على أقل من عشرة أشخاص. وهؤلاء نقطة في بحر نحو 160 ألف مريض، على وجه التقدير، يبلغون 10 في المئة من مليون وستمئة ألف بوتسواني.
وتضيف بلدان شرق افريقيا والشرق الأوسط، وربما الصين وروسيا كذلك، في باب المجتمعات التي يغلب التخمين والشك على إحصاء اصاباتها، ومصادر هذا الاحصاء، انما هو أي التصنيف قرينة على إنزال التحريم والعيب منزلة المذهب والمعتقد الرسميين. فلا يعقل، مثلاً، أن تقتصر الاصابة في مجتمع مبتلى بانتشار المخدرات سراً مثل المجتمع الايراني على العدد الضئيل الذي تقر به الأجهزة الحكومية.
"الصلف" الطبي
ونجم عن إباحة تسويق آلات التلقيح المعقمة، وجعل الواقي الذكري بمتناول الناس كلهم، راشدين بالغين وقصَّراً لم يبلغوا، وعن الدعوة الى اجراء اختبارات التشخيص المبكرة وإعلان نتائجها على الملأ، نجم عن هذا كله وغيره مثله إقبال الجماعات المهددة على جهر "هوياتها المنحرفة"، اذا جازت العبارة. وأقبل أفراد الجماعات المصابون على الخروج من الكتمان والتقية الى دائرة العلانية العامة، الاجتماعية والثقافية والسياسية. والعلانية وجه بارز وراجح من وجوه البيئة العلاجية التي مهدت الطريق الى الانقلاب من المرض المميت الى المرض المزمن.
فرد المصابون الأميركيون والأوروبيون، وشطر منهم من الجامعيين والناشطين "الثقافيين" والسياسيين، ردوا على المقتلة التي خلفها الوباء فيهم، وعلى آلام فتكه العضوي ودبيبه فى أجسامهم ونفوسهم، بتلاحم وتضامن مستميتين. فالفيروس اللئيم أخذهم على حين غرة، وخفية. وتوسل الى التمكن منهم بتسترهم على "آفاتهم". فكان استحياء المدمنين والمثليين وأهل البغاء والمهاجرين العابرين وكلهم يصح فيهم التذكير والتأنيث على حد واحد من جهر أحوالهم في مرافق الحياة العامة ومشاهدها، طريق الوباء عليهم واليهم. وكان على المصابين وعلى مجتمعاتهم من بعدهم أن يختاروا بين الاستمرار على التخفي والتكتم، وإباحة أنفسهم وحيواتهم للداء وفتكه، وبين تعريف أنفسهم وجهر مرضهم والتوقي من نتائجه عليهم وعلى شركائهم وأقرانهم. فانتشرت الروابط والجمعيات، وكثرت مواضع اللقاء والنوادي المُعلَمة تلك التي ترفع "علامة" روادها، وسارت المواكب تحت أعلامها المشهورة، وتصدرها بعض أهل المسرح والسينما والسياسة والكتابة من غير أقنعة. وتطرق التغيير الى علاقة المرضى بالطبابة والأطباء. فعلى حين لم تؤدِّ الثورة الباستورية نسبة الى باستور مبتدئ العلاج بالتلقيح والأجسام المضادة إلا الى تقوية دالة الطبيب على المريض و"سلطانه" عليه - على زعم برنار كوشنير، أحد رواد "أطباء بلا حدود" ووزير الصحة الفرنسي والمفوض الأوروبي الى ادارة اقليم كوسوفو سابقاً - بعث الوباء الجديد المرضى، وجمعياتهم وروابطهم وأسرهم، على الاضطلاع بقسط من العلاقة العلاجية.
ولاحظ الأطباء وأهل العلاج، على ما يقولون اليوم، ضرباً جديداً من المرض. فترك المرضى الاستكانة السالبة والتسليم برأي الطبيب المعالج. وعمدوا الى تقصي أحوال العلاجات المختلفة، تلك التي أحرزت بعض النجاح وتلك التي أخفقت. فأنشأوا في ما بينهم شبكة عريضة من الخيوط والقنوات، تناقلوا بواسطتها خبرات المعالجة على مختلف وجوهها وأنواعها وطرائقها. فارتاد العيادات ومراكز العلاج، على ما يقول الطبيبان كريستيان ساووت وديدييه جايل الفرنسيان من الفيديرالية الوطنية والمستشفى الأوروبي، مصابون على علم دقيق بمستجدات الطرائق العلاجية وبأدبيات الأبحاث العالمية.
وألبت الجمعيات والنوادي والروابط المجتمع المدني، وحملته على تأييد التصدي للوباء، وعلى الإسهام النشط في التصدي له وكبح هجمته. فتخلى المجتمع تدريجاً عن أحكامه الخلقية والمعنوية التقليدية في جماعات المرضى، وفي مصادر الاصابة. وأذعن الأهل لميول أولادهم. وحل التضامن محل الإدانة. ووسع أعداداً متعاظمة من العاملين العاديين في المكاتب والمعامل والادارات الإعراب عن أحوالهم ونوازعهم وعلاجهم. ولعل إسهام بعض كبريات الشركات العالمية في تمويل صندوق الأمم المتحدة الدولي لأجل السيدا الايدز من القرائن على نجاح التأليب هذا.
وتضافر الدوران اللذان اضطلعت بهما الجمعيات والروابط والهيئات مراقبة طرائق العلاج تأليب المجتمع على تغذية البحث العلمي والمختبري بموارد مالية كان مصدر معظمها الحملات الاعلامية في سبيل حماية المصابين. فحشد اليوم الأول، في 1994، ست قنوات تلفزيونية فرنسية تولت الدعوة الى التبرع بالمال. وجمع يوم العمل لأجل السيدا "سيداكسيون" ثلاثمئة مليون فرنك فرنسي أي نيفاً وخمسين مليون دولار أميركي.
ولا ريب في أن الموارد الخاصة والعامة أسهمت في تسريع الأبحاث والاختبارات التي تكللت، في 1996، ب"العلاج الثلاثي". ولعل الفرق بين تكلفة علاج المصاب الواحد في "مجتمع افريقي 450 دولاراً اميركياً وبين تكلفته في مجتمع أوروبي أو أميركي 12 ألف دولار، وهو يبلغ 25 ضعفاً تقريباً، ميزان يوزن فيه ثراء الأمم و"مالها"، من وجه، وتوزن فيه كذلك، من وجه آخر، موارد علاقاتها الاجتماعية والانسانية. ويهرب بعض قادة المجتمعات المرهقة بالوباء، مثل ثابو مبيكي الرئيس الجنوبي الافريقي، من وجهي التكلفة والموارد الى تصوير الوباء في صورة مرض اجتماعي، يقتصر السبب فيه على الفقر والقهر وسوء التغذية، ولا يعقل أن ينسب الى فيروس ضئيل.
والى تضاؤل عدد الاصابات النسبي أو استقرارها وإزمانها عوض قَتْلها المحتَّم، لم تبق مسالك الاصابة على حالها، ولا صفة الجماعات المعرَّضة للإصابة. فنحو 45 في المئة من الإصابات الفرنسية، في العام الفائت، كانت العلاقات الجنسية الغيرية بين ذكر وأنثى إنسيين طريقها أو ناقلها. وكانت نسبة الإصابات من هذه الطريق قبل ثلاثة أعوام 5،37 في المئة. وكان نصيب العدوى المثلية 26 في المئة من الإصابات في النصف الثاني من العام الفائت. ونجمت 14 في المئة من الاصابات في النصف الثاني من العام الفائت. ونجمت 14 في المئة من اصابات الوقت نفسه عن لقاح المخدرات. أما الشطر الباقي فالأرجح ان الحمل كان طريقه. وبلغت زيادة الاصابات النسائية 5 في المئة، على حين تدنت الاصابات الذكرية 15 في المئة.
وعلى مثال يشيع ويغشو منذ أوائل العقد العاشر من القرن العشرين أفضى تولي الهيئات المدنية وغير الحكومية شطراً من معالجة المشكلات الاجتماعية الكبيرة مثل التمييز والتجويع والتهجير والعنصرية والقتل الى عولمتها أولاً، والى بلورة "حق في التدخل"، أو "واجب التدخل"، "العلاجي" في معرضنا هذا، سبيلاً الى المعالجة، ثانياً. والأمران مرتبط واحدهما باآخر ومتصل به. فالعولمة نازع لا ينفك من حمل الأفكار والقيم والأفعال على الإنسانية جمعاء. فهي وإرساء السياسة، أو شطر متعاظم منها، على حقوق الإنسان، صنوان متلازمان. ويرقى هذا التلازم الى نيف وقرنين، على أقرب تقدير. والقول ان "الانسانية ليست مفهوماً سياسياً"، على ما يذهب اليه بعض أنصار النازع "الجمهوري" بحسب تسمية فرنسية ودعاة استقلال الدول على مثال موروث من القرن التاسع عشر - قول تتناقص حقيقته، ويضعف مصداقه يوماً بعد يوم. فالوباء لم يعبر الحدود الوطنية والاقليمية والقارية، ويجتح الجماعات في مختلف بلدان العالم ومدنها الكبيرة في غضون أشهر قليلة، فحسب. وهو قدر على مثل العبور والاجتياح هذين، وعلى هذه السرعة، لأن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين المجتمعات المعاصرة تغلِّب منذ عقود طويلة النزعة الفردية، وتقدمها على الروابط التي كانت تتيح للجماعات اعتزال بعضها بعضاً، وتنصبها معياراً أوحد ومرجعاً.
فلم يبق، أو لم يتماسك ما تحتمي به الجماعات الوطنية، أو الدينية، أو السكنية، أو الطبقية الاجتماعية، أو الوظيفية من انتشار مثالات الاستهلاك والذوق والعشرة والمخالطة. ولا ريب في أن تعاظم هجرات العاملين، والعراك المهني والسياحي داخل المجتمعات الوطنية والسياسية الواحدة أو المتقاربة والمتصلة، وسيطرة المثال الفردي الغربي على رغبات أهل المجتمعات المتفرقة ومخيلاتهم فوق سيطرته على أحوالهم، لا ريب في أن هذه العوامل أطاحت الأسوار التي حاطت بها الدول والمجتمعات و"الثقافات" نفسها وحدودها.
وأفضى يسر الافتعال بين المجتمعات، الى انفجار المشكلات النقدية والمالية والصحية والاجتماعية في وقت واحد. وعلى نحو ما ينبغي للمجالس النيابية والحكومات والمفوضيات وهيئات أصحاب العمل والنقابات النهوض معاً الى "تحرير" التجارة، أو تقييد حركة الودائع "المتبخرة"، أو تقييد نشوء الاحتكارات وتبييض الأموال الفاسدة، أو اشتراط الشروط على هجرات العاملين الواسعة، والبت في انضمام أسواق الى أسواق، والتضييق على التلوث الذري أو على الاحتراق المولِّد ثاني أوكسيد الكربون - عليها كلها، مجالس نيابية وحكومات ومفوضيات -، التصدي لهجرة الأوبئة، واجتياحها الحدود القارية والوطنية والداخلية.
ونهض "التدخل العلاجي" على هذه الأركان مجتمعة. وقد تترجح الاعتبارات والعلل والمسوغات بين اعتبار المنفعة الاقتصادية والتجارية الخالصة مثل قول الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، في افريقيا إنها سوق "واعدة" من 700 مليون مستهلك محتمل وبين النظر الأخلاقي الى نواة الاخوة الانسانية التي تبقى بعد "اطراح" المتعلقات القومية والاعتقادية والصورية الطبيعية. وبين اعتبار المنفعة والنظر الأخلاقي لا مناص من احتساب "العامل" السياسي. فليس من مجتمع اليوم، ما خلا المجتمعات أو الطبقات الحاكمة الغارقة في وهم فرادتها وانطوائها، إلا وهو مدرك إدراكاً قوياً كثرة الأواصر والروابط التي تشده الى المجتمعات المعاصرة، ولا سيما الى تلك التي تتصدر منها بلورة قواعد التبادل بين المجتمعات، وتنتج معظم ما تتبادله المجتمعات هذه.
ويترتب على هذا إيلاء الأحوال السياسية الداخلية، ولو في دول "بعيدة" ومستقلة، عناية فائقة. فتولي السياسات الأوروبية أحوال "افريقيا الشمالية والشرق الأوسط" مثل هذه العناية لأن البلدان المشاطئة البحر الأبيض المتوسط مصدر هجرات سكانية وعاملة واسعة من بلدان المغرب، وبعض بلدان المشرق العربي، وتركيا، والبلقان، الى اوروبا المتوسطية والى وسط أوروبا. ولأن بعض هذه البلدان منابع نفط ثمين، وأسواق يتمتع بعضها بقيمة شرائية عالية.
فلا يتصور أهل السياسات الأوروبية اندماج جاليات المهاجرين الكبيرة في مجتمعاتهم إذا استمرت جذوات الصراعات الاقليمية والداخلية على اتقادها. وتعول السياسات هذه على الاندماج. فهي تجني منه سلماً اجتماعياً وسياسياً، وتجديداً سكانياً وفتوة. وتجني منه علاقات ثقافية وتاريخية واقتصادية مجزية بمنابت الجاليات ومناشئها. ولا يأمل أحد من أهل الحل والعقد الاقتصاديين والسياسيين في جدوى الاستثمار في البلدان الافريقية، وفي انقلاب القارة السوداء من سوق انتهاب خامات الى سوق رأسمالية، إذ تحقق وقع وفاة ثلاثين مليون افريقي في غضون العقد الجاري، وإذا أقامت بلدان جنوب الصحراء وشمالها، من وجه آخر على حالها مسرحاً للحروب "العالمية" الاقليمية، على ما سميت حرب الكونغو، ولحروب الإبادة العرقية والقبلية و"الدينية".
ووباء عوز المناعة المكتسبة والدائم انتشر في افريقيا، وفي بعض بلدان آسيا وشرق أوروبا، على تداعي الأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والمشكلة المستعصية على المعالجة هي أن الأبنية المتداعية هذه تعوق التصدي للوباء وانتشاره. فعلى خلاف المجتمعات الأوروبية والأميركية تفتقر مجتمعات "الجنوب"، وهي ليست واحدة ولا متجانسة، الى قسط كبير من الموارد المالية والاستشفائية والعلمية والمهنية التي تصدت بها المجتمعات الأوروبية والأميركية الى هجمة الداء الجديد. ولكنها تفتقر، من وجه ثان أشد وطأة ربما وفداحة، الى الأواصر الاجتماعية والثقافية والفكرية التي جبهت بها هذه المجتمعات الداء. وركنا الأواصر هذه الفردية والمساواة، على ما مر.
فتبدو مطالبة أفراد الجماعات الهشة ب"حقوق" - مثل الجهر بأحوالها و"هوياتها" الصحية، أي المرضية، تلافياً للإصابة من طريق الخطأ والجهل، أو اعتزال الجماعات "السوية" والصحيحة. ومثل الاجتماع في روابط تتعهد تنسيق الخبرات والمعارف وتناقلها وإذاعتها ومقارنتها، أو تولي هيئات عامة التشخيص المنهجي واستباق استقرار المرض وتظاهره، أو المبادرة الى اجراءات تقيد الانتشار، ... تبدو هذه المطالبة عدواناً على معتقدات أهل هذه المجتمعات، وخروجاً على إجماعها الأخلاقي والديني و"الحضاري". والحق ان الأمر يتناقض. فعوامل العولمة، وهي تعمل في نشر الداء على نحو ما تعمل في محاصرته ومعالجته، تؤدي فيما تؤدي إليه الى بث الأفكار والقيم والأحكام الفردية والحقوقية والانسانوية، ولو كرهت الحكومات والسلطات. والوباء لا يردعه "الاستمساك بالاستعفاف لماذا ليس "العفة"؟ والأمانة الزوجية" على ما جاء في الحيثية ان من "اعلان التزام" الهيئة العامة للأمم المتحدة "في شأن فيروس نقص المناعة البشرية والايدز" وحدهما.
والجماعات الهشة والمعرَّضة للوباء يعرف أفرادها هذا علم اليقين. وهم يختبرون كل يوم وطأة القسر والتعسف والتجبر التي تلابس العلاقات بين الناس، على تنوع وجوه هذه العلاقات، في مجتمعات تقليدية كثيرة. ويختبرون وطأة التكتم وعواقبه عليهم. وعلى رغم الوطأة المزدوجة هذه ينزع أفراد من هذه الجماعات في لبنان، على سبيل المثال شأنهم في مدن شمالية افريقية وفي مصر والصين، الى جهر "خصوصيتهم"، واعتزال من ليس مثلهم أو لا يعلن "هويته". ويلح هؤلاء في الصدوع بما هم عليه غير مختارين، وفي التماس حمايتهم والإقرار بما ترتبه هذه الحماية. وهم يحملون هذا على حقوق لهم على المجتمع ودولته وإدارته وعهوده الدولية. فإذا هم مضوا على هذا فينبغي أن تتوقع مجتمعاتهم امتحاناً عسيراً لمعتقداتها وما تحسبه ثوابتها.
* مدرس علوم اجتماعية في الجامعة اللبنانية.
مقارنات إحصائية... لا تصح
لا يقل عدد المرضى، في أوائل العام 2001، عن 36 مليوناً ومئة ألف مريض. ولم يقل عدد ضحايا الفيروس في أثناء العام المنصرم عن ثلاثة ملايين. وزاد عدد المصابين في العام 2000 وحده خمسة ملايين وثلاثمئة مصاب. ولكن توزيع المصابين والوفيات، وحظوظ تقدم الإصابة وانتشارها، وحظوظ الخروج من المرض، كل هذا تغير تغيراً كبيراً. فثلاثة أرباع المصابين، اليوم، أي 25 مليوناً وثلاثمئة ألف، هم من حظ افريقيا التاعس. وهو حظ مقسوم في المجتمعات والدول الافريقية على تفاوت كبير. فجنوب الصحراء، أي بلدان افريقيا السوداء، تترجح مجتمعاته بين زيادة انتشار الوباء فيها زيادة قوية جداً وبين الزيادة القوية الى المعتدلة. ويبدو، للوهلة الأولى، ان بلدان افريقيا الشمالية وحدها، وهي كتلة احصائية واحدة مع الشرق الأوسط العربي والتركي والايراني يصيبها الوباء اصابة "معتدلة". فتُحصى من الاصابات 400 ألف اصابة ولكن مصادر الأمم المتحدة لا تكتم كون بلدان هذه الكتلة منطقة إحصائية "رمادية"، أي تفتقر الى الاحصاءات الدقيقة والموثوقة.
وتتعاظم حظوظ بلدان افريقيا من الاصابة طرداً مع الذهاب جنوباً. فتحوز قصبة السبق المدمر زامبيا وناميبيا وزيمبابوي وبوتسوانا وجنوب افريقيا. فالخمسة وعشرون مليون مصاب افريقي هم واحد من ثمانية وعشرين من جملة السكان وعددهم 700 مليون. وتبلغ هذه النسبة في جنوب افريقيا مريضاً واحداً من تسعة. وتتوقع وكالة الأمم المتحدة للصحة أن تبلغ هذه النسبة في أواخر العقد الجاري، أي في 2010، إذا لم يكبح هجوم الوباء و"عدوانه" المراوغ والخبيث على ما وصفه "الجندي" السابق كولن باول في دورة الجمعية العامة الاستثنائية للأمم المتحدة، 25-27 حزيران/ يونيو، افريقياً جنوبياً من أربعة. وهذا قرينة على خطر داهم.
ويصيب الفيروس 8،35 في المئة من سكان بوتسوانا البالغين 15 عاماً الى 49 عاماً. وهذه أعلى نسبة إصابة بين بلدان العالم كلها، بحسب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة "السيدا" أو الإيدز. وترتب على هذا تدني متوسط الحظ "الأمل" في الحياة من 3،65 عاماً، على ما كان عليه متوسط الحظ هذا، الى 2،46 عاماً في العام المنصرم. وتؤدي إصابة الفتيان البالغين وهم في مقتبل بلوغهم، أي في الخامسة عشرة تقريباً، والنساء الحوامل، وتالياً الأولاد الرضّع، الى هرم أعمار أشوه. فهو خسر شطراً من قاعدته، وأطبقت مراتبه القريبة من القاعدة بعضها على بعض، فلم يبق من المراتب هذه على سويته الا المراتب العليا والمستدقة.
وتشرِّع مناطق واسعة من العالم أبوابها أمام رياح الوباء، تتصدرها أوروبا الشرقية ووسط آسيا وشرق آسيا وضفاف المحيط الهادئ الآسيوية. والى اليوم "تقتصر" الاصابة على 700 ألف في الاتحاد السوفياتي السابق الأوراسي، وعلى 640 ألفاً في بلدان شرق آسيا، ومنها الصين. ولكن الوباء في هذه البلدان ما زال في المهد. وهو مهد قريب من بؤرة متقدة وراعفة هي جنوب آسيا حيث الهند و"قارتها" وجنوب شرقها حيث تايلندا. ويبلغ عدد الاصابات في بلدان جنوب شرقي آسيا خمسة ملايين وثمانمئة ألف. وتلي مرتبة الاصابات هذه، عدداً وليس نسبة، المرتبة الافريقية. ولكن الوباء يتقهقر في بلدان آسيا هذه على خلاف حاله في الصين وروسيا ما خلا بعض البؤر الاندونيسية واليابانية.
وعلى حين يكاد الوباء يستقر في الوجه الغربي من أميركا الجنوبية، ولو على مليون وأربعمئة ألف إصابة، ويحل الرقم المرتبة الثالثة في اللائحة الكئيبة هذه، ولا ينذر بالتفاقم، يتراجع عدد المصابين به نسبة الى عدد السكان الاجمالي في معظم اميركا الجنوبية، وفي شمال اميركا 920 ألف إصابة، وفي غرب أوروبا وشمالها 540 ألف اصابة. ويبلغ عدد المصابين بعوز المناعة المكتسب والدائم في استراليا وزيلندا الجديدة خمسة عشر ألف مصاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.