عشنا نسمع أكاذيب وصدقناها ثم جاء صغارنا فرفضوها. كان يقال إن الرئيس إيزنهاور وقف مؤيداً لمصر والعرب في حرب السويس ضد إسرائيل وبريطانيا العظمى وفرنسا. وصدقنا حتى جاء يوم نضج فيه صغارنا واكتشفوا أن إيزنهاور لم يكن يؤيدنا، وانه انتهز فرصة اندلاع حرب وفرصة اندلاع ثورة غضب في الرأي العام العالمي وقرر أن تكون هذه الحرب نهاية عصر الإمبراطوريات الأوروبية. وبالفعل انسحبت الجيوش المعتدية وفقدت بريطانيا وفرنسا مكانتهما الدولية ولكن لم يمس إيزنهاور إسرائيل بأذى أو فرض عليها عقوبة، بل كافأها حين عمل على وضع قوات دولية في سيناء وفتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية. وكان يقال إن إسرائيل خدعت الرئيس رونالد ريغان في عام 1982 عندما أبلغته أن غزوها للبنان سيكون محدوداً، وأن هزيمة ياسر عرفات هدف أوحد ثم تجاوزت الهدف فتدخلت في إعادة هيكلة الطبقة السياسية اللبنانية وتحالفت مع فريق ضد آخرين وتآمرت على ذبح اللاجئين الفلسطينيين ودمرت ما لم تكن دمرته الحرب الأهلية من بنى تحتية في لبنان. والآن يعرف صغارنا أن واشنطن، والبيت الأبيض بالذات، كان على علم كامل بكل خطط حكومة إسرائيل وترتيبات آرييل شارون لغزو لبنان وأهدافه فيها. ويقال الآن إن إسرائيل أبلغت الرئيس بوش أن حربها ضد حزب الله ستكون محدودة وتهدف إلى تفكيك حزب الله وإضعاف نفوذ إيران في الشرق الأوسط وزرع أسباب للوقيعة بين إيران وسورية، وقيل لأهل المنطقة وللعالم أن واشنطن وافقت على غزو محدود ومحدد. وأن بعض التفهم من جانب الحكومات العربية مطلوب. مرة أخرى الآن يقال أن إسرائيل تخدع الرئيس الأميركي، لكنها المرة التي تختلف كلية عن المرات السابقة، ولن ننتظر صغارنا ليدلونا على الحقيقة. إذ أنه على رغم أن الناس الآخرين في كثير من بقاع الأرض، كان يمكن أن يصدقوا قصة خداع الرئيس الأميركي من جانب إسرائيل أو غير إسرائيل، بعد كل ما قرأوه وسمعوه عن الآفاق المحدودة لذكائه واطلاعه، وبخاصة بعد واقعة مكبر الصوت على مائدة الطعام في قمة الثماني عندما تحدث الرئيس الأميركي من دون ملقنين، لولا أن أكثر الناس يعلمون أن الرئاسة الأميركية مؤسسة وليست شخصاً اسمه دبليو. صحيح أن نفوذ الرئيس الأميركي هائل إلا أن حريته في اتخاذ القرار مقيدة بقيود تضمن تقليل فرص تأثير العواطف والانفعالات قدر الإمكان. ولو كان الخداع ممكناً وصحيحاً، وتمكن الغرباء من عقل الرئيس الأميركي يشكلونه كيفما شاءوا لصار النظام الدولي أقرب إلى الحال التي يطلق عليها الكاتب المعروف تيموثي غارتون آش في مقاله الأخير في"صنداي تايمز"تعبير"نظام متعدد الفوضى". وإن كان في الحال التي يتحدث عنها يقصد الدور المتزايد الذي أصبحت تمارسه كوريا الشماليةوإيران وسورية وحزب الله وحماس وتؤثر به في مسارات العلاقات الدولية الراهنة. ولا يعادل سوء المصير الذي يتوقعه آش وغيره من احتمالات نظام تتعدد فيه مراكز الفوضى، سوى المصير الذي ينتظر البشرية لو استمر النظام الأحادي القطبية السائد حالياً يعتمد الكراهية مصدراً أساسياً للطاقة اللازمة لتنفيذ السياسة الخارجية. فالأحادية كنظام دولي قادرة نظرياً على تحقيق الاستقرار إذا اعتمدت التسامح والعدالة طاقة تحرك تفاعلات النظام ومسؤوليات القيادة، أما الأحادية التي تمارسها الولاياتالمتحدة في المرحلة الراهنة والمسؤولة غالباً عن تكريس أوضاع الظلم وإشعال صدام الحضارات والتي تضع في صدارة أهدافها إعادة هيكلة"النظام الديني العالمي"وإقامة مجتمع دولي يقوم على تراتيب جديدة من التمييز والتفرقة بين صنوف البشر، فهي الأحادية التي تعتمد على الكراهية باعتبارها الوقود اليومي لإشعال الأزمات وإثارة الشعوب ضد بعضها البعض والقضاء أولاً بأول على فرص الوئام والاتفاق. يتفق أغلب المسؤولين وصانعي الرأي في أميركا على أن صورة أميركا في الخارج تتدهور رغم كل الجهود التي تبذل والأموال التي تنفق لتحسينها، ولكن أحداً منهم لم يتوقف أمام السياسات الخارجية الأميركية التي تدفع إلى هذا التدهور، ولم ينتبه إلى خطورة الكراهية كسلاح شديد التدمير تستخدمه قوى سياسية في الولاياتالمتحدة وخارجها منتفعة أو حالمة بالصعود الإمبراطوري للولايات المتحدة، وساعية لإثارة عداء الخارج لأميركا، وعداء أميركا للخارج، إلى الحد الذي يدفع أميركا إلى مزيد من التدخلات العسكرية وتطوير سياسات لتأكيد قيادتها وهيمنتها وإعادة صياغة أهداف تحالفاتها الدولية. الكراهية، إن تبودلت، كانت دائماً الغطاء المناسب والدافع القوي لمحاولات فرض سيادة سياسات الصراع والاقتتال. ولدينا في الشرق الأوسط النموذج. فقد دأبت جماعات الضغط الصهيونية في الولاياتالمتحدة، مدفوعة من إسرائيل، ومتحالفة عضوياً مع جماعة اليمين الجديد المتطرف، على إثارة الكراهية ضد الشعوب العربية والإسلامية. حدث هذا دائماً ومن دون توقف أو هدنة اعتماداً على أجهزة الإعلام وعلى خضوع عديد من أعضاء الكونجرس الأميركي للمال وغيره، لكنه حدث بشكل جديد في عهد الرئيس رونالد ريغان، وبلغ قمته في عهد الرئيس بوش الابن. وكان هدف هذا الأسلوب الجديد في غرس الكراهية مزدوجاً، بمعنى أن الكراهية، لتعمل وتنجح، يجب أن تكون متبادلة ويجب أيضاً أن تحل محل الخصومة العابرة والخلاف السياسي أو حتى العداء بل عليها التعميق المتواصل لأسباب الخصومة والعداء وغرس أسباب كراهية حتى لا يأتي يوم تخف فيه الكراهية. الكراهية تغرس بينما الخصومات والاختلافات لا تغرس، والكراهية تورث على عكس العداءات السياسية التي قد تزول بزوال الفئات المتخاصمة والمصالح المنتفعة. لاحظنا مثلاً خلال مفاوضات الصلح بين مصر وإسرائيل في أواخر السبعينات درجة عالية من التصعيد لحملات الكراهية ضد المصريين والعرب بشكل عام، حدث هذا في الوقت الذي كانت الديبلوماسية المصرية تبذل جهوداً ضخمة للتأكيد على الطبيعة الخصامية للنزاع، ولم تمض سنوات قليلة لا تزيد على خمس، في عقد الثمانينات إلا وكانت حملة الكراهية اتسعت وصارت تشمل الإسلام كعقيدة ودخلت مارجريت تاتشر مشاركة في صنعها وتطويرها وتدويلها. لاحظنا أيضاً أن إسرائيل لم تكن يوماً معنية بتحسين صورتها في مصر ولدى المصريين بعد توقيع اتفاقات كامب دافيد، بل اهتمت بإثارة غضب المصريين وتعميق الكراهية بين الشعبين، ولا يزال هذا التوجه، هو أساس سياسة إسرائيل مع مصر حتى وإن تعاملت في الوقت نفسه مع حكومة مصر بعيداً عن الأضواء بأسلوب مختلف يخدم اختراقها المتزايد للاقتصاد ومجتمع النخبة والطبقة الحاكمة في مصر. لا تستطيع إسرائيل أو غيرها إنكار أن الدولة الصهيونية حققت مكاسب كثيرة نتيجة استخدامها سلاح الكراهية ضد ألمانيا وضد روسيا وضد الأممالمتحدة. فقد نجحت، إعلامياً وسياسياً ودينياً، في تعميق الكراهية بين الشعبين الألماني واليهودي إلى حد أن الألمان صاروا يكرهون أنفسهم بسبب السمعة التي ألصقتها بهم أجهزة الكراهية الصهيونية وأنهم ذات يوم كانوا جميعاً، ومن دون استثناء، يكرهون اليهود ومتواطئين مع السلطة النازية في عمليات إعدامهم في أفران الغاز. في حرب كراهية هكذا ضروس انهزم الألمان في مواجهة الكراهية ودفعوا ثمناً فادحاً وتعويضات هائلة ولا تزال ألمانيا تدفع راضية وإن مذعورة. كذلك استسلم الاتحاد السوفياتي عند لحظة لم يعد بعدها يحتمل عواقب القوة التدميرية الهائلة لسلاح الكراهية الذي استخدمته جماعات اليهود والكونغرس الأميركي في سنوات السبعينات والثمانينات بحجة الظلم الواقع على اليهود السوفيت وسجل روسيا الأغبر ضد اليهود عبر القرون. وكان نصيبنا في العالم العربي من هذه الكراهية شراً عظيماً ألحقته بنا الهجرات والأسلحة القادمة من ألمانيا ثم الهجرات القادمة من روسيا والانحياز السياسي في معظم السياسات لإسرائيل وسلسلة حروب مدمرة. وأعتقد أن خوف كهنة الكراهية من أن يأتي يوم ينضب فيه معين الكراهية، هو الذي يدفعهم إلى الاستخدام المتزايد لتهمة العداء للسامية لحماية الكراهية وتعميق آثارها، صار المناهضون للكراهية وخصوم صدام الحضارات ومحبو السلام الحقيقي في الشرق الأوسط والمقاومون الشرفاء للظلم والاحتلال والمتعاطفون مع حقوق العرب والأكاديميون والمؤرخون الملتزمون قواعد العلم والموضوعية، كل هؤلاء وغيرهم معادون للسامية، بينما بقى كهنة الكراهية محصنين ضد النقد. أعتقد أيضاً أن قادة عديدين من يهود العالم يعرفون أن كثرة إثارة قضايا العداء ضد السامية وكثرة القوانين التي أصدرتها حكومات أوروبية تخلق مشاعر كراهية، أغلبية يهود العالم في غنى عنها. هل قرأت ما كتبه آلان ديرشوفيتس أستاذ القانون في هارفرد في جريدة"لوس أنجليس تايمز"وخلاصته أن كل لبناني، طفلاً كان أم امرأة أم شيخاً عجوزًا إنسان متواطئ مع حزب الله ويجوز قتله، حسب نظرية قانونية من عنده تتحدث عن المدنيين في حالة الحرب كمتواصل يبدأ بمدنيين يخفون مقاتلين أو يتسترون عليهم وينتهي بمدنيين اكتفوا بالمتابعة صامتين، كلهم يستحقون قصف ممتلكاتهم وذبحهم مع أطفالهم وزوجاتهم وشيوخهم. ما يقوله أستاذ العدالة الأميركي يفصح عن مكنون كراهية غير مسبوق في الفكر القانوني، كيف يستحق اللبنانيون المحصورون في صراع بين قوى مقاومة وقوة نظامية العقاب الذي يستعد المقاومون المسلحون ويتدربون لمواجهته، بينما يظل المدنيون الإسرائيليون مدنيين بامتياز وإصابتهم بأذى جريمة حرب حتى وإن كانوا طبقاً للقانون الإسرائيلي يقضون معظم سنوات حياتهم جنوداً عاملين أو احتياطيين بجيش الدفاع.. وحتى إن حمل المستوطنون منهم، وهم لا يرتدون الزي العسكري، أسلحة واستمروا يقتلعون أشجار الزيتون ويقتلون الفلاحين الفلسطينيين أو يقطعون عليهم سبل الحياة ويعترضون طرق المرضى ويسرقون جثث القتلى. هكذا يغرسون في الشعب الأميركي وقياداته الكراهية، ليس فقط لمقاتلي حزب الله وحماس ولكن لكل شعوب العرب. ويتبجحون، فقد رأينا الدكتورة رايس تنفجر كراهية وهي تتحدث في مؤتمرها الصحافي قبل سفرها إلى الشرق الأوسط، كان صوتها متهدجاً مرتعشاً والانفعالات على وجهها تفوح بأشياء كثيرة، وبخاصة عندما أبلغت العالم أنها لن تسعى لوقف إطلاق نار قبل أن تحقق إسرائيل أهدافاً في لبنان. لم تقل أهداف إسرائيل. يتحدثون عن السلام وجميع مفردات سياساتهم من قاموس الكراهية، وأهدافهم إقامة نظام جديد في الشرق الأوسط فوق خراب ودمار وإحباط وغضب وفساد، وخطتهم فرض سلام إقليمي قائم على الكراهية. * كاتب مصري.