في العام 1926، ثار في أوساط التحليل النفسي على المستويين الأوروبي والأميركي سجال واسع يتعلق بمزاولة الطب النفسي. ودار السجال أساساً من حول سؤال بديهي وبسيط: من يحق له أن يزاول هذا النوع من الطب... أهم الاطباء العاديون أم صنف آخر من المحللين لا علاقة مهنية لهم بالطب العلاجي؟ هذا السؤال قد يبدو اليوم غريباً إذ - الى حد كبير- تجاوزه الزمن. ولكن في ذلك الحين كان سؤالاً مهماً تترتب عليه نتائج كثيرة. ومن هنا وجد سيغموند فرويد، حتى وهو يناهز السبعين من عمره، نفسه منساقاً الى السجال لتكون النتيجة واحداً من كتبه المهمة، والبسيطة في آن معاً، وهو الكتاب المعنون، في شكل تقريبي"التحليل النفسي والطب"، علماً أن عنوانه الأصلي هو"مسألة التحليل غير الطبي". ولقد أوضح فرويد مراده من وضع هذا النص مرات عدة، منها مرة في رسالة بعث بها الى أ. بفستر قال فيها:"لست أدري إذا كنت قد أدركت الرابط في ذهني بين كتابي"التحليل غير الطبي"وپ"مستقبل وهم". ولأوضح الأمر أقول لك انني أردت في الكتاب الأول ان أحمي التحليل النفسي من الأطباء، فيما أردت في الكتاب الثاني أن أحميه من القساوسة". والحال ان حماية فرويد للتحليل من الأطباء الممارسين كانت ضرورية - وتبين انها ناجعة - بالنظر الى أن أوساطاً طبية عدة، لا سيما في الولاياتالمتحدة كانت قد بدأت تنادي بسَن قوانين تمنع غير أصحاب الشهادات الطبية من مزاولة التحليل والطب النفسيين. وكان واضحاً ان في مثل هذه المطالبة نسفاً لعمل وجهود عدد كبير من أقطاب التحليل النفسي من أمثال ميلاني كلاين وأوتورانك، من الذين كانوا فرويديين الى أعلى المستويات. وبالتالي كان واضحاً أيضاً ان الفرويدية كانت هي المستهدفة، وهو ما أوضحه فرويد بنفسه، كما يفيدنا جورج طرابيشي في مقدمة ترجمته العربية لهذا الكتاب تحت عنوان آخر هو"مسائل في مزاولة التحليل النفسي" استناداً الى رسالة أخرى بعث بها فرويد الى آ. تينغتون ويقول فيها:"ان هذا التحرك ضد المحللين النفسيين من غير الأطباء يبدو لي في بقايا المعركة القديمة ضد التحليل النفسي عموماً. ومن سوء الطالع أن الكثر من جماعتنا مصابون بقصر النظر أو أن مصالحهم المهنية قد أعمتهم بما فيه الكفاية، إذ أنهم شاركوا في تلك الحملة. مهما يكن من أمر فأنا أعتبر ان الحملة كلها إنما هي تعبير عن غضب جماعة فيينا وغيظهم ازاء الاهتمام الذي أبداه العالم الخارجي بي لمناسبة عيد ميلادي السبعين. ومن هنا أرى انني مسؤول، ولو في شكل جزئي، عن هذه القضية". والحقيقة ان فرويد كان محقاً في هذا الاستنتاج، حتى وإن كانت المعركة اتخذت، عموماً، طابع السجال الحاد والعملي بين الأوروبيين والأنغلو - ساكسون. فالقضية انطلقت أصلاً في فيينا حين أقام مريض دعوى أمام المحاكم النمسوية ضد المحلل النفسي ثيودور رايك، الذي كان يمارس المهنة من دون أن تكون لديه شهادة طبية. وكانت التهمة ان رايك هذا، والذي كان من أهم وجوه حركة التحليل النفسي في فيينا قد مارس تجاه المريض عدداً من الأساليب الضارية. لاحقاً رفضت الدعوى إذ ثبت ان المريض مختل عقلياً، ناهيك عن أن فرويد نفسه عرف كيف يتدخل في اللحظة المناسبة لدى موظفين كبار في القضاء وضعوا الملف على الرف، غير ان هذا لم يمنع القضية من الاندلاع، إذ ان الصحافة في فيينا التقطت القضية لتشن على فرويد وأنصاره حملة واسعة، تبعهما فيها الأميركيون، الذين خالفوا الجسم الأوروبي العام، مطالبين الطب النفسي بأن يكون له وضعية قانونية تمنع غير أصحاب الشهادات الطبية العليا من الممارسة. وهنا في تلك اللحظة وجد فرويد ان عليه أن يتدخل فكتب هذا النص. صاغ فرويد نص"مسألة التحليل غير الطبي"في شكل مبتكر، أي على صيغة حوار طويل أجري معه، ولقد مكنه هذا الأسلوب من عرض القضية من مختلف وجوهها، إذ على مدى صفحات الكتاب البالغة حوالى مئة صفحة، يطرح محاور فرويد القضية من مختلف جوانبها، فيتولى فرويد الإجابة مفنداً الأسئلة واحداً واحداً. في لحظات كثيرة - وهذا أطرف ما في الأمر - يبدو المحاور مقتنعاً على مضض. وفي بعض الأحيان يميل الى عدم الاقتناع. ويحدث مرات خلال الحوار أن يترك فرويد الأمور معلقة، كأن يقول لسائله في ختام الفصل الرابع من الكتاب:"غير اني أترك لك الآن أن تبت في هذه المسألة: هل من شأن الاهتمام الذي توقظه دراسة الحياة الجنسية لدى المصابين بالأمراض العصبية ان يخلق جواً يساعد على انتشار الفسق والفجور؟". والكتاب يترك هذا السؤال من دون جواب، ما يفرض ان المحاور موافق ضمنياً. ثم بعد ذلك يأتي هذا المحاور ليقول لفرويد:"أحسب انني فهمت مراميك. فأنت تريد أن تبين لي ما المعارف اللازمة لمزاولة التحليل النفسي، حتى أستطيع أن أحكم في ما إذا كان ينبغي حصرها بالطبيب وحده. والحال اني لم أسمعك حتى الآن تحدثني في الطب إلا بعض الشيء، في حين أنك أطلت في الحديث عن علم النفس... وأقل من ذلك عن علم الأحياء وعلم الجنس. أترانا لم نصل بعد الى خاتمة هذا الحوار؟". وهنا يجيبه فرويد بأن الحوار لم ينته بعد بالتأكيد، ثم يردح عارضاً أفكاره. من البيّن ان هذا الأسلوب في النقاش، يعطي النص كله طابعاً سقراطياً، حيث ان فرويد، في صفحات كثيرة يترك لمحدثه مهمة التفسير والاستنباط والخروج بالاستنتاجات الضرورية، من دون أن يبدو في حديثه انه هو من يملي الأفكار والأحكام. ومن البيّن أيضاً ان فرويد، المحلل النفسي الذي يعرف في تلك المرحلة المتقدمة من عمره ومعارفه، طبيعة الذهن البشري، إنما اختار صوغ الكتاب على ذلك النحو، كي يعطي أفكاره صدقية تامة، انطلاقاً من انه المفروض بالقارئ المتوقع للكتاب، أن يعتبر السائل ناطقاً باسمه، حاملاً أسئلته واعتراضاته أيضاً، وهكذا حين تأتي اجابة فرويد قاطعة ضمنياً، إنما راغبة في إشراك السائل في استنباطها، شكلياً، تبدو أكثر اقناعاً. ومن هنا جاء هذا الكتاب سلاحاً هجومياً قوياً من لدن فرويد في معركته، مع انه كان عليه أول الأمر أن يكتفي بأن يكون سلاحاً دفاعياً. ومع هذا فإن الكتاب، وانتشاره، لم يحسما المسألة على الاطلاق، إذ ان هذا السجال نفسه ظل قائماً عقوداً طويلة بعد صدور الكتاب، وظل غلاة مناهضي حركة التحليل النفسي والطب النفسي يثيرون القضية بين الحين والآخر، وليس في الولاياتالمتحدة وحدها، بل حتى في بلدان أوروبية عدة، حيث تفيدنا مارت روبير، إحدى دارسات فرويد المجتهدات في فرنسا، في كتابها"الثورة السيكولوجية"الذي كان في الأصل نصوص حلقات اذاعية عن فرويد وثورته، تفيدنا ان الكتاب إنما فاقم ذلك السجال بين الأوروبيين والأنغلو- ساكسون، ولكن أيضاً داخل بلدان أوروبية كانت أصلاً قد حسمت الأمر قضائياً لمصلحة استقلالية الطب النفسي عن الطب العام، وخصوصية وضعيته، وتعطي مارت روبير مثلاً هو فرنسا حيث ليست لمزاولة التحليل النفسي أية وضعية قانونية خاصة، ما يعني ان مزاولي التحليل من غير الأطباء معرضون دائماً للملاحقة بتهمة الممارسة غير الشرعية، حتى وإن كان القانون يتساهل معهم عبر غض النظر. أو أحياناً - وكما حدث في حال محددة في العام 1951 - عبر إسقاط دعوى تقدم بها شاك ضد محلل نفسي. مهما يكن فإن فرويد كان حسم الأمر، منذ مقدمة الكتاب إذ كتب ان ثمة إشكالات قد لا يكترث القانون بها، وإن كانت تستأهل أن تؤخذ في الاعتبار. فقد"يتضح ان المرضى - في هذه الحال - ليسوا بمرضى عاديين، وأن غير الأطباء ليسوا من الجاهلين بأصول عملهم، وأن الأطباء ليسوا تماماً على مثل ما هو متوقع من الأطباء". أما تلميذه وصديقه ساندور فرينزي، فلم يكن - في نهاية الأمر - مخطئاً حين نظر الى الكتاب نظرة أخرى ورأى فيه انه - أبعد من موضوعه البيّن - يقدم خلاصة كاملة تصف التحليل النفسي في راهنه، خلاصة تتميز بالدقة والسلاسة. ولو سألني أحد عن الكتاب الذي يمكن أن أدله عليه، كي يتعرف من خلاله الى مبادئ التحليل النفسي وجوهر نظرياته، لن أتردد في تزكية هذا الكتاب من فوري".