ذهب الكاتب السعودي زكي الميلاد نحو مسعى صعب، هدفه التأسيس لفكرة تعارف الحضارات، وهو في هذا المسعى، لا يذهب وحيداً، بل يضم جهده الى جهد آخرين من كتاب، عملوا في مقاربة الفكرة ونقاشها، وصولاً الى هدف يخدم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ما سعى اليه زكي الميلاد. وقبل الذهاب الى ما تم، قد يكون من المفيد الاشارة الى أن الكاتب الميلاد بين كتاب اجتهدوا طوال سنوات في ابراز ثقافة انفتاح اسلامية في التعاطي مع الآخرين سواء في مستوى الافراد والشعوب أو في مستوى الحضارات من أجل اعادة صياغة جديدة للعلاقات السائدة في عالم اليوم، ونقل تلك العلاقات من اطار الصدام طبقاً لنظرية"صدام الحضارات"التي اطلقها هينتغتون الى الحوار بالاستناد الى"حوار الحضارات"التي سعى اليها غارودي قبلاً، لكن عبر مرحلة وسيطة، يسميها الميلاد ب"تعارف الحضارات". وسط تلك الرؤية، أعاد الميلاد توقفه عند الفكرة الاسلامية المعروفة حول الخلق الانساني من ذكر وانثى، وانقسامهم الى شعوب وقبائل في اطار مجتمعات مختلفة مسعاها عقد تعارف بين الناس، ومنها استنبط فكرة"تعارف الحضارات"ليقدم جهوده واجتهاداته حول الموضوع في سلسلة من الكتابات المنهجية والمشاركات الحوارية في مؤتمرات وندوات اضافة الى نقاشات واختبارات اجراها في مستوى العلاقات اليومية مع الآخرين من المهتمين بالفكر والفكر الاسلامي في شكل خاص. واستطاعت مسيرة استمرت نحو عشر سنوات في هذا الميدان، ان تبلور رؤية حول"تعارف الحضارات"عند زكي الميلاد، والأهم في خلاصات الرؤية، ان"مقولة تعارف الحضارات لا تعني مجرد الاعتراف بتعدد الحضارات وتنوعها، وانما تستند الى ضرورة بناء وتقدم الحضارات في العالم، وتأسيس الشراكة الحضارية في ما بينها، وتبادل المعرفة والخبرة"، والفكرة في الاهم من جوانبها، تأتي في اطار تجديد واجتهاد اسلامي له طبيعة معرفية من جهة، وتأكيد لمعنى الانفتاح والتواصل الحضاري الذي عبرت عنه التجربة الحضارية الاسلامية في تعاطيها مع الحضارات الاخرى من جهة ثانية. وكان من الطبيعي، ان نترك رؤية زكي الميلاد وجهوده في موضوع"تعارف الحضارات"اثرها في النقاش العربي الدائر حول علاقة الحضارات ببعضها، فظهرت مشاركات لكتاب ومفكرين، نظرت الى الموضوع من زوايا مختلفة على نحو ما فعل حسن عزوزي في مقالته"من أجل تكريس مفهوم تعارف الحضارات"، ومحمد مراح"نحو رؤية اسلامية لتعارف الحضارات"، وادريس هاني في مقالته الحلقة المفقودة ما قبل تعارف الحضارات: مأزم الحداثة وبؤس آلية التثاقف"، وطاهر عبد مسلم في مقالته"تعارف الحضارات من اطروحات الاستشراق الى التمركز الاعلامي والدعاية المضادة"، وهي بعض مساهمات تضمنها الكتاب، مثلت قوساً واسعاً في النظر الى الموضوع. وقد يكون الابرز فيما ركز عليه الكتاب العرب في موضوع"تعارف الحضارات"، قول العراقي رسول محمد رسول، ان تعارف الحضارات، ليس مجرد تعبير، انما هو مشروع حضاري له أسس وتكوين فكري، يستند الى المرجعية الاسلامية، فيما يرى السوري عبدالواحد العلواني، انه يمثل اساساً لنظرية"يمكن تطويرها، وهي اكثر انصافاً وعدلاً وفاعلية ووئاماً، وتتيح سبيلاً نحو فهم افضل لبناء علاقات سوية بين الأمم والشعوب، بينما تنظر السعودية سهام القحطاني الى تعارف الحضارات باعتباره مرحلة أخرى خارج الحوار والصدام في العلاقات القائمة من خلال القول، ان"تعارف الحضارات نظرية انشائية"هدفها"انشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس"، وهي ثالث اشكال العلاقات، حيث الاولى"صدام الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية"، والثانية"حول الحضارات بوصفها نظرية نقدية أو علاجية". لقد أجمل الجزائري محمد مراح، رؤيته ل"أهداف تعارف الحضارات"، فقال، انها تتضمن تحقيق التقارب والتسامح، وفك عقد الهيمنة، وتجاوز عقيدة الصراع بين المختلفين، اضافة الى تعميم معرفة الآخر، وتصحيح الصور المسبقة عنه، وتشجيع فكرة الانتفاع المتبادل بخيرات الارض، واحترام الخصوصيات الحضارية لكل طرف، وأشار الى العوائق، فأجملها في اربعة، تشمل"العائق العقائدي"، و"تضخيم الذات الحضارية"، و"نظريات الصراع والصدام"، و"هيمنه المفهوم السياسي على مجال العلاقات الدولية". خلاصة القول في فكرة"تعارف الحضارات"، انها جهد فكري يستحق الاهتمام في معناه الذي يخرج العالم من مأزق الصدام، وهو الذي لم يذهب الى الحوار، وهو جهد مهم من حيث اهدافه التي تتعدد مستوياتها الحضارية والسياسية، فتخلق قواعد جديدة للعلاقات في العالم المعاصر، لكن الوصول بهذا الجهد الى غاياته يحتاج الى آليات وجهود كبيرة وحثيثة والى بيئة مساعدة. ذلك ان كثيراً من الافكار المهمة ذات الاهداف الجيدة، ضاعت لأنها لم تجد الآليات والبيئة المناسبة لبلورتها وتكريسها.