لا تبدأ حكاية الحماس الجماهيري الأممي مع كرة القدم بالمونديال، وان كانت تبلغ ذروتها معه، فهذا الحماس يزداد بقدر ما يزداد الاهتمام السياسي والاعلامي والمالي بهذه الظاهرة. لا نستطيع، الآن وهنا، رصد أشكال تعاطي كل نظام سياسي في العالم مع فريقه القومي، ولكننا نرى رؤساء دول عظمى وغير عظمى يستقبلون فريقهم القومي وبطلهم الفائز استقبال العباقرة أو الفاتحين أيام زمان، ونعرف ان حكاماً متمولين يشجعون هذه الرياضة، ولم يفت سيلفيو بيرلوسكوني، رئيس حكومة ايطاليا السابق، ان يعتمد الكرة لجذب جماهير ايطاليا الحائرة والمرتبكة إزاء مغامراته الاقتصادية والسياسية والقضائية، ونشهد في لبنان اهتماماً فئوياً، زعاماتياً، طائفياً، بهذه الكرة، يؤطر للاعبين والجماهير في آن معاً، يبدو إزاءه المنتخب القومي يتيماً، ولا نستطيع ان نرصد ايضاً مدى اهتمام كل محطات وسائل الاعلام في العالم برياضة كرة القدم، إلا اننا نرى محطات التلفزة العربية تخصص برنامجاً يومياً لاتحافنا بأخبار الفرق والرياضيين، ومنها خلافاتهم الحادة! وهناك محطة متخصصة بهذه الرياضة، وكأن مصير الكرة هم قومي. وفي خلفية هذا الاهتمام الاعلامي تحضر الاستثمارات المالية، فهناك دراسات عن دور الشركات العملاقة في دعم هذه الرياضة لأسباب ترويجية استهلاكية منها على سبيل المثال، استخدام أبطال الكرة في الاعلانات، وابتكار سلع رياضية مواكبة لنشاطات كرة القدم. الاعلانات تمول البرامج الرياضية والبرامج الرياضية تولد الاهتمامات الرياضية وهذه الأخيرة تجذب الاعلان وندور في حلقة مفرغة. يتضح ان انتشار الاهتمام بكرة القدم والذي صار يقسم شعوب الكرة الأرضية ويؤججها ليس عفوياً وبديهياً، فلا حذاقة اللاعبين في اللعب، ولا براعتهم ولا رشاقتهم، ولا روح الغلبة والانتصار التي تغمر أنصار هذا الفريق أو ذاك كافية لشرح كل هذا الشغف، الذي يمكن ان يوظف في مباريات أخرى، كأن تجعل الناس يتبارون من أجل الإبداع والانتاج والتنمية. كل في قطاعه. وإذا اختاروا الرياضة ان يكونوا شركاء فيها لا مجرد متفرجين. الأمر الذي يجعل من كل شخص لا يمارس الرياضة ويكاد لا يعي جسده، ولا يستعمله إلا لضروريات البقاء، ويستكثر ترك مقعده الهزاز ومقود سيارته يراقب ويراهن وينفعل، يهلل وينتشي، أو على العكس يتأسف ويتفجع ويحزن. يتابع المتفرج المنحاز مصير الكرة ومصير فريقه وكأن مستقبله ومصير وطنه وأمنه مرتبط بها، محولاً نصر هذا الفريق أو ذاك الى نصر شخصي، كالقرعاء السعيدة بشعر جارتها، ومحولاً هزيمة فريقه الى هزيمة شخصية، قد تضطره الى الاشتباك مع مناصري الفريق الآخر واضطهادهم وربما قتلهم أو جرحهم، وفي الحالتين يغيب المنطق، والاسوأ ان انتصارات الكرة تعاش كتفوق حضاري، فماذا يفيد البرازيل مثلاً ان ينتصر فريقها وهي تعاني أزمات اقتصادية وفقراً مدقعاً؟ يتردد البعض في مناقشة الاشكاليات التي تثيرها هذه الرياضة، بعد كل الاهتمام الذي لحق بالكرة ولاعبيها ونجومها خوفاً من ألا يعتبر رياضياً أو أن يعتبر قاصراً عن استشعار ما يدور في وجدان ومخيلة المناصرين المثابرين والتضامن معهم، أو إساءة فهمهم، أو أن يعتبر عاجزاً عن دخول روح العصر. ولكن مناقشة حيثيات الهوس الكروي تستحق النقاش والبحث بقدر ما تتعلق بالمتفرج لا بمحاسن وفوائد هذه اللعبة بحد ذاتها، وما يجنيه منها من يمارسها، وبقدر ما تتوسع هذه اللعبة على حساب اهتمامات انسانية واجتماعية أخرى، معيدة ترتيب سلم الأولويات، من دون أن تعود بالنفع على هذا المتفرج الشغوف سوى لحظات الانتظار المتلهفة، التي يقضيها أمام الشاشة أو وسط الجماهير المتضامنة بشكل متعاكس، بين الأنصار والخصوم. يفسَر هذا الاهتمام الزائد بالكرة، بالرغبة في الانتماء والتماهي والمراهنة والغلبة والتنافس والانتصار، والقيم الثلاثة الأخيرة هي بالمناسبة قيم ذكورية خصوصاً، كما بالرغبة بالتسلية الخفيفة، ولكن الوقائع التي تشهدها مدارج الملاعب لا توحي دوماً بروح رياضية بل بكثير من التشنج. ان الكرة يمكن أن تؤدي الى تفجر العنف المكبوت لا الى تهدئة الخواطر واخراج التوترات السلبية. وحين عدت الى بعض الأبحاث في هذا الشأن وجدت أن تاريخ الكرة حافل بالأحداث الدامية، فالتاريخ يذكر أن محكمة مانشستير أصدرت قراراً بتحريم لعبة كرة القدم في 12 تشرين الأول اكتوبر 1908 بسبب أحداث العنف التي اكتنفت مبارياتها، وفي عام 1969، فقد 42 شخصاً حياتهم نتيجة شغب في المدرجات في بريطانيا، وفي عام 1956 في ملبورن في استراليا اشتبك الفريق المجري والفريق السوفياتي، حيث كانت المجر وما كان يسمى الاتحاد السوفياتي دولاً شيوعية، أخرجت الكرة المشاعر العدائية الكامنة من دون أن تطهرها، وفي ليما قتل عام 1960، 318 مشاهداً في مشاغبات. هذه الوقائع التاريخية والأخرى المعاصرة و"اللاحقة"والتي لن يتعذر على الباحث توثيقها والتي تحفل بها أخبار رياضة كرة القدم تدل على أن هذه الظاهرة المتنامية تكشف ما تريد أن تحجب وتحت ستار الفرح الجماعي تتخفى نزاعات وميول وأحقاد وفراغات ليست كلها حميدة وتنتظر أن تحين الساعة كي تخرج الى العلن. لن يتعذر على المتأمل في هذه الظاهرة التي تتسم طقوسها الجماهيرية والإعلامية بالبهجة والتسلية والبراءة ان ينبش في المسكوت عنه، وفي الخفي، وما يحض على التفكر هو الأهمية التي توليها الأمم لهذه الرياضة على حساب قضايا أخرى، حياتية وانسانية، تجعلها أساساً موضع ارتياب، لا نشاطاً هدفه التسلية فحسب. سيما أن هذه الرياضة وغيرها من الرياضات الجماهيرية كالملاكمة والمصارعة، تستبطن عنفاً ومشاعر سلبية تنتظر الفرصة السانحة لاستنهاضها في ما يجعل الوظائف المفترضة لهذه الرياضة - الفرجة، موضع ارتياب ويفقدها احد مبررات ترويجها وبالتالي جماهيريتها. * كاتبة لبنانية