أربعة اشهر مرّت على"غزوة"الاشرفية الباسلة"في قلب بيروت المعاصرة"حيث هجمَ غوغاء من السنّة على حي الاشرفية المسيحي بالحجارة والعصي، محطمين الممتلكات والمعابد، ومشعلين النار في شقق بناية بأكملها، الا المستهدفة منها، اي شقة القنصلية الدانماركية... مخلّفين خراباً ودماراً وسخطاً مكظوماً، ومطمئنين الى انهم بذلك إنما دافعوا عن كرامة النبي الكريم محمد ضد إساءات كاريكاتورية أتتْ من بلاد الدانمارك! وبالأمس، هجم غوغاء من الشيعة، وفي منتصف الليل، على أحياء مقابلة لهم، سنية ومسيحية، وفي العداد اربعون دراجة نارية يمتطي كل واحدة منها شابان غاضبان وشبه مسلحين... ثم راحَ الغوغاء يطلق الصيحات ويضرب ما تيسّر له من حجر وبشر، ويزرع الذعر وسط الاهالي، مخلّفاً جرحى ورعباً في النفوس، وذلك دفاعاً عن زعيمهم، حسن نصر الله، الذي تعرّض الى الإساءة في احد البرامج التلفزيوينة الساخرة. الموقعتان، الاولى في 5 شباط فبراير، والثانية في اول حزيران يونيو، تتشابهان وتختزنان عواطف خطيرة: نفوس مشحونة بكراهية الآخر، وبالقصاص الجماعي والثأر التاريخي الذي يجب ان يُنفذ الآن، من دون تباطؤ، وبالأسلحة البيضاء. قال مهاجم لإحدى وسائل الاعلام انه دخل الى عين الرمانة الحي المسيحي المقابل ليلا لأنه لا يقبل ان"يمس احد بالسيد"نصر الله، مضيفاً"ما تنسي لا تنسي انه لابس على رأسه عمامة الرسول"! شيءٌ يشبه مناخات الحروب الدينية التي اعتقدنا لوهلة من الزمن انها من التاريخ ليس الا، وان البشرية لن تعود اليها. فالموقعتان، 5 شباط واول حزيران، تنفيان عن الوطن صفته الجامعة الحامية، وتزعزعان اركان دولته، المتعثرة الولادة اصلا. لكن الفرق بينهما ليس فقط في طبيعة الانتماء المذهبي لجماهيرهما الهائجة غضباً"أي الاولى السنية والثانية الشيعية. بل ايضا في كون الاولى قامت افتراضاً ضد السخرية ممن هو رسول من رسل الله. فيما الثانية انطلقت احتجاجا على سخرية من قائد سياسي ليس ثمة اتفاق على تنزيهه بالمعنى الذي يصحّ في الرسل. ولئن ذكّرت الثانية بالاولى، فلطبيعة الاختلاف بينهما، وليس بسبب الإلتقاء فحسب. فالغوغاء موجود في كل الاديان والاحزاب والتيارات والايديولوجيات، وفي كل الازمنة ايضاً. لكن السيد حسن نصر الله ليس مقدساً محرّماً معصوماً الا في نظر جماعته. نقطة اختلاف اخيرة: ان"انتصارات"5 شباط ضد اهالي حي الاشرفية العُزل كانت فعلا مدبراً، والشواهد على ذلك لم تنقص. فالوقت كان نهاراً والناس انتظرت الحدث على الشاشة وتابعته. اما فتوحات اول حزيران، فحصلت في منتصف الليل، وباغتت الجميع، إلا مرتكبيها. والسجال الخجول الذي حصل حول"عفويتها"او"عدم عفويتها"يفتح الباب واسعاً امام طبيعة التعبئة الدينية والسياسية والعسكرية التي تخضع لها الطائفة الشيعية في لبنان على يد"حزب الله". رحم الله ياسر عرفات. كان يحيل أية جريمة يرتكبها عناصره ضد فلسطينيين او لبنانيين في أزقة بيروت الى"عناصر غير منضبطة""وهذه الكلمة اصبحت تقليدا سياسياً راسخا. قيادات الصف الثاني من"حزب الله"نفت نفيا قاطعا ان تكون هذه الاعمال مدبرة منظمة. بل اعتبروها عفوية تماما. ربما كان الأمر كذلك وربما لا... او ربما كان الحدث شبه"عفوي"، شبه مدبر. والحال انه لو كانت قيادات وسطية من"الحزب"هي التي رتّبت التظاهرة العفوية، كما اشيع، فهذا ادنى خطراً مما لو كانت عفوية تماما. ففي هذه الحالة، يجدر بنا التوقف عند نوع السيطرة التي يمارسها"حزب الله"على انصاره وجمهوره"وعلى كيفية هذه السيطرة. لنأخذ التظاهرة من آخرها: أمر"الحزب"أتباعه بالإنصراف الى بيوتهم. شكرهم نصر الله وقيادات اخرى من"الحزب"على ما فعلوه، على نبل عواطفهم، قبل ان يعدهم"بمتابعة الموضوع بطرق اخرى". فيما راحت قيادات اخرى وجمعيات قريبة من"الحزب"تصف سخرية البرنامج من نصر الله بأنه مؤامرة صهيونية امبريالية. يسيطر"الحزب"بتوفير المديح لغرائز الغوغاء المنفلتة"بتوحيد الغريزيتين الدينية والسياسية، بنفس طريقة الاصولية السنية، ولكن مع تنويعات ضرورية، أهمها محاولة إختزال الشيعة الى حزب يقوده قائد معصوم يتوعّد أحياناً بقطع الالسن والايادي والاعناق التي تتجرأ على سلاحه، هو الذي يقيم أتباعه حوله إجماعاً حديدياً مبنياً، حسب"الحزب"، على ان طاعته من طاعة الله: اي أنه مبني داخليا، في اعماق الضمير، ومتوغل في اللاوعي. ووراء ذلك هناك هالة قتال ومقاومة وانتصار على عدو واستنفار شعوري دائم ضد"كل الاعداء"، وهم في نظر"الحزب"بوتقة واحدة. وهذه إشكالية اوضح من الشمس. إشكالية المزج المحْكم بين الديني والسياسي والعسكري. يتوق اليها الآن العديد ممن يرغبون بأدوار في المشهد، نظراً لطبيعة العصر الدينية. رجل سياسي، هو في الوقت نفسه مرجع ديني، وكيل مرجع ديني، على نفس صيغة الأصل نصر الله هو وكيل مرشد الثورة الاسلامية الايرانية الامام خامنئي. وثمة اوراق غار اخرى على رأسه: المقاومة، فهو"سيد المقاومة": و"سيد"هنا تجمع بين لقب احفاد الرسول وبين السيادة السياسية. البرنامج الساخر الذي تعرض لنصر الله "بس مات وطن"، قناة ال بي سي تعرض لسياسيين آخرين، ومنهم زعماء لطوائف اخرى. وهو مثله مثل العديد من تعبيرات السخرية السياسية الموجودة في كل مجتمع انساني، لكن من سؤ حظنا كلنا ان البرنامج يذاع على قناة ال بي سي المحسوبة لبنانيا على المسيحيين الموارنة. اي ان"الجاني"معروف ومحدد. والقرار الجماعي الشيعي بمقاطعة ال بي سي، بعد الموقعة المجيدة، يعني باللغة اللبنانية الصرفة، إغلاق نافذة على طائفة عدوة، بعد الهجوم على احيائها الطرفية. اننا بازاء ردة فعل، وربما رد على ردة الفعل. أتون يسهل الانزلاق اليه، ويجب وقفه. ولكن مع محاولة الوقف يلحّ السؤال: هل نحمي بلدنا من الانزلاق الى الفتنة الطائفية، بأن نأخذ القرار بعدم الضحك على أوضاعنا وزعمائنا وبؤسنا السياسي، وهجرة ابنائنا، وعلى تبدد الأمل في نفوسنا...؟ هل نمتنع عن الضحك تحت سيف الابتزاز بالفتنة، فلا نحمي بلدنا الا حماية هشة من انبعاث غرائز الطوائف المدمرة؟! هكذا نبني على الخوف مملكة صمت لا يخرقها الا صوت الافتداء في سبيل القيادات التي تجتمع لديها المكانات السياسية والدينية والعسكرية، فيما يمتد نفق الظلام ويتوسع أفقه!