بعد 58 سنة على احتلال فلسطين ما زالت مناطق عدة منهما مأهولة بمواطنيها الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب، وعصية على الاستيطان والتهويد، لكنها مفتوحة على العنصرية المتزايدة. فمنذ أعلن دافيد بن غوريون في بيانه الوزاري أمام الكنيست ما سمي يومها"السياسة الجديدة تجاه العرب"، الرامية الى الاسراع في استيطان الجليل والمثلث، لم تتوقف عمليات التوسع الاسرائيلية. وها هو إيهود أولمرت بعد كل هذه السنين يعود إلى تلك السياسة، في سياق مشروع أكبر تحت مسمى"الانطواء"، يقضي بتجميع مستوطنات في الضفة الغربية والتخلي عن المستوطنات المعزولة، كونها"تهدد مستقبل إسرائيل، ونقل مستوطنيها إلى الجليل والمثلث والنقب، ما يؤمل أن يحدث"انقلاباً وثورة كبيرة"بحسب وصفه لهذه العملية أو تلك السياسة . وكان أولمرت أعلن في السابع من آذار مارس الماضي أن حكومة برئاسته لن تستثمر في السنوات المقبلة بلايين الدولارات خارج"الخط الاخضر"، بل ستكرسها لمشاريع إنشاء بنى تحتية ضخمة داخل فلسطينالمحتلة عام 1948، وتحديداً في النقب والجليل والقدس، معتبراً الاستثمار في المناطق الثلاث المذكورة، وفي إقامة شبكة قطارات في المدن الكبرى"خطوة عملاقة وتغييراً جوهرياً في سلم الاولويات سيغيران طابع الدولة"! وتطبيقاً لهذه السياسة، فإن المشروع التطويري - التهويدي للجليل والنقب يرمي الى زيادة الوجود الاستيطاني اليهودي في تلك المناطق. وكانت الحكومات الاسرائيلية أطلقت عليه في البداية"مشروع تهويد الجليل"، ثم سرعان ما عملت على تغيير الاسم إلى"مشروع تطوير الجليل"، والهدف واضح منه وهو الوصول بهذه المنطقة إلى أن تصبح منطقة يهودية تستحيل معها المطالبة في يوم من الايام بإعادة الجليل أو أجزاء منه إلى الفلسطينيين، إذا استمر العنصر الفلسطيني هو العنصر الغالب ذو الاكثرية العددية في هذه المنطقة من فلسطينالمحتلة عام 1948. وفي حين لم تؤد حملات المصادرة وبناء المدن الاستيطانية اليهودية إلى إحداث تغيير جذري في التوازن الديموغرافي بين الفلسطينيين واليهود في الجليل، استمر الفلسطينيون يشكلون حوالى نصف السكان، ما يعني أن حملة تهويد الجليل لم تحقق نجاحاً يذكر. وما من شك في أن معدل الزيادة المرتفع لعدد السكان الفلسطينيين أدى إلى التغلب على العدد المتزايد من المستوطنين اليهود الذين يجرى زرعهم في المنطقة. ولهذا لجأت السلطات الاسرائيلية إلى وضع خطط جديدة لتهويد الجليل تحت مسمى"التطوير"، حين أعلنت وزارة الزراعة في تشرين الثاني نوفمبر 1975 عن مشروع جديد لتطوير الجليل جاء فيه أن القضية الخاصة بالجليل هي قلة السكان اليهود بالنسبة الى غير اليهود الذين يشكلون 70 في المئة من مجموع السكان. إلا ان الرد الشعبي الفلسطيني على هذه الخطط توج في الثلاثين من آذار مارس 1976، باعلان الاضراب العام واصطدام المضربين مع قوات حرس الحدود والشرطة وسقوط ستة شهداء. في أعقاب ذلك حاول متصرف اللواء الشمالي الذي يضم أقضية عكا والناصرة وطبريا وصفد، يسرائيل كينغ بحكم منصبه تشخيص أحداث"يوم الارض"، ووضع مقترحات أدرجها في وثيقة أطلق عليها"مشروع كينغ"، دعا فيها الى العودة إلى سياسة تهويد الاراضي ومصادرتها، وزاد عليها هذه المرة اقتراح تخفيف السكان الفلسطينيين، بالعمل على إجبارهم على ترك مناطقهم بمختلف الوسائل، والهجرة إلى الخارج، كما يشير المشروع في بنوده التفصيلية. تهويد الجليل: مشروع حكومي رسمي وفي الواقع كانت مصادرة الاراضي من أصحابها الفلسطينيين، قد بدأت حتى قبل صدور قرار التهويد، فقد صودر 1200 دونم من أراضي الناصرة لإقامة تجمع يهودي مجاور. وهذه الاراضي هي عملياً كامل احتياط الاراضي التي كان في استطاعة الناصرة أن تتوسع فيها في المستقبل. ثم أتبعتها السلطات الاسرائيلية بمصادرة 2000 دونم من أراضي عرابة وسخنين لاستعمالها في مشروع تحويل نهر الاردن. إلا أن الحقيقة كانت لإقامة مساكن عليها للمهاجرين اليهود، وأقيمت إلى جانبها مصانع للغزل والنسيج والحلويات وغيرها لتشغيل هؤلاء المهاجرين. ثم اتجهت سياسة التهويد إلى المنطقة الجبلية، التي سميت"منطقة سنوات الألفين"نسبة إلى طموح المخططات التي أعدت لتهويدها حتى عام 2000، وأبرزها مشروع الوزير العمالي جاد يعقوبي. حيث تمتد هذه المنطقة، بحسب التقسيم الرسمي لوزارة الداخلية، إلى قمم جبال الجليل الغربي حيث البقعية وبيت جن وترشيحا، وتضم المستوطنات والمناطق الاستيطانية والصناعية الثلاث: كرمئيل ومعلوت وتيفن، مساحتها 400 كلم مربع وفيها 45 مستوطنة يهودية عدد سكانها 58 ألف نسمة و24 قرية فلسطينية عدد سكانها 150 ألف نسمة. اما القلق الذي عبر عنه الوزير فمرده الى كون السكان اليهود يشكلون فقط 16 في المئة من مجموع السكان في المنطقة، والمخطط هو مضاعفة عددهم أربع مرات على الاقل حتى يصبح 100 الف نسمة حتى سنة 2000. أما الجليل الاسفل والمنطقة الجنوبيةالشرقية فيشكلان أكبر تجمع سكاني فلسطيني في منطقة الجليل التي تضم الناصرة وقضاءها وسهول طرعان وقسماً كبيراً من البطوف وتبلغ مساحتها 745 كيلومتراً مربعاً ويعيش فيها 187 الف مواطن فلسطيني. أما المستوطنون اليهود فيبلغ عددهم 49 ألف نسمة يعيش معظمهم في الناصرة العليا. وكشف يعقوبي يومها عن مخطط جديد لهذه المنطقة، فمن المعروف أن الخريطة الهيكلية لمدينة الناصرة تضم منطقة تطوير صناعية وبلدية وتبلغ مساحة الارض المخصصة لهذا الامر حوالى 5 آلاف دونم ضمت في حينه إلى الناصرة، فهل كان هذا التراجع جزءاً من المخطط الجديد الذي يهدف الى مصادرة هذه الارض أيضاً وضمها إلى الناصرة العليا؟ النقب"أفضلية قومية عليا" لقد كان هدف تفريغ النقب من سكانه الفلسطينيين، ولا يزال أول سلم اولويات الحكومات الاسرائيلية، وما محاولة تهجير 45 قرية أخيراً إلا حلقة في سلسلة خطوات تهويد النقب، التي بدأت منذ العام 1951 حين قامت سلطات الاحتلال بطرد 12 عشيرة بدوية تضم حوالى مئة الف شخص. اما اليوم فلا يزيد عدد بدو النقب على 60 الفاً. ووفقاً لما يسمى"قانون أملاك الغائبين"انتقلت ملكية الجزء الاكبر من الاراضي الى اليهود، وأعطيت للكيبوتسات أو للجيش. حيث كان البدو يعيشون في اراضٍ تبلغ مساحتها 4 ملايين دونم وفقاً للصور الجوية التي التقطها البريطانيون أبان الحرب العالمية الاولى. وبعد الانتهاء من الاراضي، جاء دور القوانين التي هدفت إلى تشريد البدو، وضمان عدم عودتهم إلى اراضيهم. وهكذا كان مثلاً القانون الذي سنته"إدارة أراضي إسرائيل"عام 1964، وقضى بعدم السماح باقتناء الاغنام، وسمي"قانون العنزة السوداء"، وكل من يوجد لديه أغنام من النوع المذكور تتم مصادرتها من دون دفع أي تعويضات، بهدف القضاء على بيت الشعر الذي يصنع من شعر هذه الاغنام. وفي عام 1980 سن قانون جديد يقضي بعدم رعي الاغنام جنوب خط ديمونا حيث المفاعل النووي الاسرائيلي. وكانت بدأت في وقت سابق أيضاً حملة لترحيل البدو إلى منطقة اللد والرملة، حينما بدأت تتضح معالم خطة لتجميع البدو في تجمعات للنوم"يعيشون أو ينامون فيها ليلاً ويغادرونها للعمل عند الصباح"، إلا ان مقاومة هؤلاء للانتقال إلى هذه التجمعات التي تبعدهم عن نهج حياتهم وعن أراضيهم أعاقت تنفيذ الخطة. وخلال التسعينات عانى مواطنو النقب الامرين من سلطات الاحتلال لدفعهم إلى ترك أراضيهم. وفي العام 2003 صادقت لجنة وزارية"لشؤون الوسط غير اليهودي"على خطة لمعالجة"الوسط البدوي في النقب"والمعروفة باسم خطة شارون. وقد رصد لها مبلغ 1.175 بليون شاقل لفترة خمس سنوات، وعلى رغم أن الخطة ترمي، كما ورد في نصها الاصلي، إلى"تغيير وتحسين وضع السكان البدو"، إلا ان اهدافها عكست السعي الحثيث للسيطرة على اراضي الفلسطينيين وتهجير المواطنين وتجميعهم في سبع بلدات، وتصفية القرى الفلسطينية التي ترفض السلطات الاسرائيلية الاعتراف بها، على رغم أنها اعترفت بسهولة ببلدات يهودية مجاورة وأمدتها بالمياه والكهرباء والخدمات التي ظلت البلدات الفلسطينية محرومة منها. ولهذا رأت الاحزاب الاسرائيلية في النقب منطقة"ذات أفضلية قومية عليا"، ولم يتورع إيهود أولمرت في العام 2004 وكان يومها عضو كنيست عن حزب ليكود، عن الاعلان عن"ان الدولة الاسرائيلية ستخلي القرى البدوية في النقب ليتسنى لها توطين آلاف اليهود، فيما شرعت منظمة"الكيرن كيميت ليسرائيل"منذ العام 2004 في حملة تستمر 5 سنوات لجمع بليون شاقل دعماً للاستيطان اليهودي في النقب، ويتم جمع هذا المبلغ من يهود ومتعاطفين مع إسرائيل يقيمون في 34 بلداً. في المقابل شكك اتحاد الجمعيات العربية اتجاه الناشط في اوساط فلسطينيي 1948 في قرار اللوبي اليهودي الاميركي حشد موارد مالية لمصلحة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل"لتحسين ظروف معيشتهم ومواجهة سياسة التمييز الحكومية ضدهم". وقال ان الجمعيات العربية الفلسطينية في إسرائيل تؤكد استناداً إلى تجربتها بشأن التمويل، أن أهداف اللوبي الاميركي تتناقض مع أهداف الجمعيات. وأن الاموال التي يجرى الحديث عنها إنما هي مخصصة لمشاريع تبدو في ظاهرها تطويرية في النقب والجليل، بينما هدفها الحقيقي وجوهرها دعم التهويد. وأكد الاتحاد في بيانه"ان الامتحان الحقيقي لأي طرف تمويلي ليس في مدى تمويله للمجتمع الفلسطيني في الداخل كي يكون أكثر خضوعاً وولاء للعنصرية البنيوية والمؤسساتية، إنما في استعداده لمناهضة العنصرية البنيوية الاسرائيلية". الحياة 10/5/2006 من هنا يمكن ترجمة الاسباب الحقيقية لمخططات التهويد على أنها ليست ديموغرافية فقط، بل يكمن خلفها أسباب سياسية - استراتيجية لقطع الطريق على اي تحرك فلسطيني في المستقبل، للمطالبة بضم الجليل إلى الدولة الفلسطينية - حال قيامها - نظراً إلى ان الجليل عملياً يقع ضمن الدولة الفلسطينية وفقاً لقرار التقسيم. وقد سبق ليوسي ساريد قبل 31 عاماً أن أعرب عن مخاوفه من أن يبقى اليهود يشكلون اقلية في تلك المنطقة، وأن يطالب سكان الجليل الفلسطيني باستقلال ذاتي. فهل تكون خطة زميل بيريز في حزب العمل سابقاً هي الخطة التي سوف يعتمدها وزير"تطوير الجليل والنقب"في تهويدهما، ما دامت هذه الخطة ومنذ ذلك الوقت يجري التعاطي معها كوثيقة رسمية تقرها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة؟ لقد ذهب بيريز إلى إجراء نوع من المقايضة أو التقابلية في زعمه أن المهمة الاساسية للحكومة الحالية يجب أن تكون تطوير الجليل والنقب، وعلى حد تعبيره فإن الاسرائيليين"سيخرجون من المناطق الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 لنزهر هاتين المنطقتين". ولهذا لا تخفي مسميات"التطوير"و"الازهار"حقيقة السعي إلى تهويد مناطق تعج بسكانها الاصليين، فيما تمضي حكومة إسرائيل الحالية نحو السعي إلى خلق نكبة جديدة لفلسطينيي الجليل والمثلث والنقب. وهكذا تذهب ما أصبح يطلق عليها"حكومة الانطواء"ليس إلى طي صفحة في الصراع مع الفلسطينيين في الاراضي المحتلة عام 1967، بل إلى فتح صفحات من الصراع المتواصل مع الفلسطينيين المتشبثين بأرض آبائهم وأجدادهم في فلسطينالمحتلة عام 1948. * كاتب فلسطيني