في السادس من أيار مايو أُسقطت مروحية بريطانية من نوع" لينكس"كانت تحلق في أجواء البصرة ما أسفر عن مقتل ركابها الخمسة. وأحاطت جمهرة غاضبة بحطام الطائرة فيما أطلق بعض الأفراد من بين الحشد المتجمع النار على القوات البريطانية. وأظهرت هاتان الحادثتان المترابطتان وضع البصرة المتدهور في الوقت الذي أملت القوات البريطانية في 2003 أن تصبح هذه المدينة مثالاً تحتذي به بقية المدن العراقية. كما ذكّرت الحادثتان بأن مهمة القوات البريطانية المؤلفة من 7.500 جندي في البصرة باتت مستحيلة. على رغم ان وضع المحافظاتالجنوبية أفضل بكثير من المناطق الشمالية، باتت حياة سكان المحافظاتالجنوبية الأربعة خطرة ومزعجة، إذ نشر رجال الدين الشيعة مناصريهم في الميليشيات التابعة لهم، وهي غير منضبطة ومدججة بالسلاح، استولت بدورها على غير فرقة من الشرطة هي نفسها تلك التي دربتها قوات التحالف طوال ثلاث سنوات وأمدتها بالسلاح فيما قتل عدد من السكان المحليين بسبب تعاملهم مع قوات التحالف. من السهل توضيح أهداف الذين يديرون هذه الميليشيات. فهم يريدون أولاً إجبار قوات التحالف على الانسحاب، وهي بالغالب بريطانية. ومع أن هذه القوات استُقبلت بترحاب باعتبارها قوات تحرير بعدما عانى الشيعة من هجمات صدام حسين الانتقامية بسبب فرار قواته من الكويت، ينظر إليها الآن على أنها قوات احتلال وأصبحت قوات غير مرغوب بوجودها، خصوصاً لكونها خاضعة لسيطرة الأميركيين الموالين لإسرائيل. ثانياً، تسعى كل واحدة من بين الميليشيات الى سلب النفوذ السياسي من منافسيها سعياً الى توسيع رقعة سلطتها ونفوذها. وقد رفض محافظ البصرة محمد الويلي التعامل مع القوات البريطانية المنهكة وحذا سياسيون ومسؤولون آخرون حذوه وتبع رفضه ثلاثة أحداث شديدة الأهمية. فخلال الخريف الماضي اعتقلت القوات البريطانية الشيخ أحمد الفرتوسي، قائد إحدى الميليشيات المحظورة، ورداً على هذه العملية أسرت فرقة شرطة غير منضبطة جنديين بريطانيين من فصيلة الوحدات الجوية الخاصة،"الساس"SAS، ما أدى إلى عملية إنقاذ شجاعة والى المزيد من الفوضى. كما تسبّب نشر صور كاريكاتورية تظهر الرسول محمد عليه السلام في أوروبا الغربية منذ أشهر بإهانة بالغة"كما عرضت في البصرة منذ أسابيع خلت مشاهد لجنود بريطانيين من فرقة المشاة ينهالون بالضرب على فتيان. وقد عاودت فرقة المشاة تأدية مهمتها في شوارع البصرة. يعتبر"جيش المهدي"اليوم أهم جيش خاص في جنوبالعراق، وهو يدين بالولاء لمقتدى الصدر الذي لا يلقى استحساناً كبيراً. وقد كانت للبريطانيين يد في لجم محاولته الوصول الى السلطة العام الماضي. أما اليوم فإن الخطر الداهم يكمن في اعتبار القوات البريطانية بمثابة"دخلاء"في وقت تشتدّ حمى القتال بين المجموعات الشبيهة بعصابات المافيا. وكان ويليام باتي، السفير البريطاني إلى بغداد، يأمل بشدة في أن تساهم الانتخابات المحلية التي كان مزمعاً تنظيمها أوائل العام الحالي، بتصفية الأجواء السياسية في جنوبالعراق، وقد تمّ تأجيل هذه الانتخابات مرات عدة ومن المحتمل ألا تنعقد في العام 2006، مما أجج عدم الاستقرار في البلد. على خلفية كل هذه الفوضى والاضطرابات، ازداد نشاط إيران، جارة العراق القوية والمهتمة، على الساحة العراقية. وقد اتهمتها وزارة الخارجية البريطانية علناً بتسريب العملاء إلى العراق ويعتقد أن إيران تمد أصدقاءها الشيعة بأسلاك"حرارية من الأشعة تحت الحمراء"لتفجير القنابل إضافة إلى قنبلة من نوع جديد تخترق الدروع ذهب ضحيتها الكثيرون إلى الآن. وقد ارتفعت حصيلة قتلى الجنود البريطانيين في العراق إلى ما يزيد عن المئة بكثير، أضيف إليهم جنديان قضيا ضحية قنبلة وضعت بمحاذاة الطريق في 13 أيار قرب البصرة. وترى وزارة الخارجية أن ليس مستغرباً ان يتأجج العنف في الجنوب الشيعي الذي يحظى بدعم الإيرانيين، نظراً الى الدور الكبير الذي لعبته بريطانيا في مجال إحالة مسألة البرنامج النووي الإيراني الى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وفي مسألة فرض العقوبات على طهران. وتتركز مهمة قوات التحالف في مناطق الجنوب الشاسعة على"تقديم الدعم للسلطة المدنية"، وفقاً للتعبير العسكري القديم، ومن الواضح أن هذه المهمة يجب أن تكون متبادلة. فليست البصرة وحدها التي تعاني من غياب السلطة السياسية بل تمتد المعاناة إلى بغداد حيث يصارع جواد المالكي، رئيس الوزراء الجديد الذي يفتقر للخبرة من أجل فرض نفوذه الخاص. وقد أدى عجز السياسيين العراقيين عن تشكيل حكومة قوية تمثل جميع الأطراف، وهو وضع مستمر منذ فترة طويلة بعد الانتخابات، الى إلحاق أضرار كبيرة. وقد شعر القادة العسكريون البريطانيون في الجنوب بسرور كبير بسبب مساهمة الشرطة العراقية في احتواء الحشد الغاضب بعد إسقاط المروحية ولمحوا إلى أن القوات العراقية تسلك الطريق السليم، تمهيدا لتسلّم زمام الأمور في الوقت المناسب، لكن ذلك لن يمحو بسرعة أصوات الصيحات الغاضبة ومشاهد القبضات المهددة التي أحاطت بالمروحية المحطمة من ذاكرة مشاهدي شاشات التلفزة البريطانية. فما هو التطور الذي يحصل فعلاً على الأرض؟ * كاتب وسياسي بريطاني.