حول طاولة غداء مع باحثين عرب، والكلام في التراث يتسع، تحدث الباحث السعودي الدكتور علي بن ابراهيم غبان، وهو مستشار الأمين العام للثقافة والتراث في الهيئة العليا للسياحة في المملكة العربية السعودية عن السياحة الثقافية في المملكة، وعن استحداثها مواقع وأحياء أخرى تروي حكايات التاريخ الإسلامي وما قبله، وأن هذه المواقع الغنية ستكون مثيرة لفضول السياح والباحثين، مثل موقع معركة"أُحد"، أو موقع لقاء عنترة وعبلة... وهي أمور جديدة سمعناها عن المملكة السعيدة، في خططها التنموية وانفتاحها وتنويع مصادر دخلها. واستطرد الباحث ليقول: ان التنقيبات الجديدة في المملكة تتتالى، وهي تسجل في مسيرتها كشوفات قد تُغير من بديهيات متداولة. وسألنا: متى عرف الحرف العربي التنقيط، أي الأعجام؟ وكنا جميعاً أساتذة وباحثين معنيين بما يسأل، لذا، لم ينتظر الجواب، بل أردف قائلاً: إن التنقيط قديم وقد يعود الى العصر الجاهلي، أما المؤكد المتواتر فيعود به الى العصر الأموي بناء لأمر الحجاج، أي الى ما بين عامي 75 و89 للهجرة، مع أن هناك نقوشاً وكتابات بأحرف عربية منقوطة كلها أو بعضها تعود الى ما قبل هذا التاريخ، وقد اكتشفت شخصاً نقشاً جديداً يؤكد أن التنقيط كان أيام الخليفة عمر بن الخطاب، أي قبل كتابة المصاحف - ونعرف أن المصاحف لم تكن منقوطة - والنقش هذا سميته"نقش زهير"وهو أقدم النقوش حتى اليوم، اكتشفته مع زوجتي في المملكة، في طريق الحج الشامي، في"قاع المعتدل"جنوب الحجر، وقد استأذنتها في نشر هذا البحث مستقلاً، وهو جزء من أطروحتها للدكتوراه، وقد نُشر بالعربية تحت عنوان"نقش إسلامي مبكر من طريق الحج الشامي"في"عالم المخطوطات والنوادر"، م5، ع1، نيسان ابريل 2000 ص 239، كما أُعيد نشره في العربية والفرنسية في مجلة: Arabia-v.1- 2003 institut de recherches et d,etudes sur le monde arabe et musulman . وفعلاً، أرسل إليّ الدكتور علي بن إبراهيم غبان هذا البحث المثير، والذي أستعيد، هنا، بعضه، لأهميته، مشيراً في البدء الى أن هناك فئتين من الدراسات حول تأريخ تنقيط الحرف العربي هما: فئة تشير الى ان التنقيط عُرف قبل تنقيط المصاحف، منها كتاب"الأمالي"لأبي علي القالي ت 356 مستشهداً ببيت طرفة: "كسطور الرق رقشه/ بالضحى مرقش يشمه". شارحاً"رقش"بمعنى"نقط"ط. دار الكتب، ج2، ص 246. وپ"الفهرست"لابن النديم ت 385 الذي يذكر أسطورة وضع الحروف العربية، ويعزو التنقيط الى عامل من قبيلة بولان بالأنبار نشر بيروت، ص 6 - 7. وپ"العواصم من القواصم"لأبي بكر بن العربي ت 548، الذي قال:"... وكانت القراءة رواية"... وكان نقل المصاحف من غير نقط ولا ضبط واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد الناس على ما في المصحف نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط"قسنطينة، 1927، ج2، ص 197. والفئة الثانية أشارت الى أن التنقيط يعود الى ما بعد كتابة المصاحف، منها:"التصحيف"لأبي أحمد العسكري ت 382 ومراجع أخرى روت انه أيام عبدالملك بن مروان كثر التصحيف وانتشر في العراق، ففزع الحجاج الى كتّابه وسألهم ان يضعوا للحروف المشتبهة علامات... وأكدت المراجع هذه أن الاصلاح قام به نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني، وذلك بين عامي 75 و89 ه، لأن بداية حكم الحجاج كانت عام 75، ونصراً توفي عام 89 ه، كما ان القلقشندي ت 821 في"صبح الأعشى"يرفض أسطورة ابن النديم ويؤكد المقولة السابقة ج 3، ص 153. وأهم الكتابات الإسلامية المنقوطة هي"بردية اهناسية"تمثل وصلاً على ورقة بردى يعود الى عام 22 هجرية حرره قائد فرقة من المسلمين لأهل اهنس بمصر، يفيد تسلمه 65 شاة. واللغة عربية ويونانية. اكتُشفت البردية عام 1877 وهي محفوظة في المكتبة الوطنية في فيينا ضمن مجموعة راينر تحت رقم 558. أما أهم النقوش المنقوطة: نقش زهير 24 ه، نقش عبدالله بن ديرام في نجران 46 ه، نقش سد معاوية بالطائف وفيه 17 حرفاً منقوطاً 58 ه، نقش حفنة الأبيض في كربلاء 72 ه ثم الدنانير والدراهم المنقوشة... وعن نقش زهير نقتبس من بحث الدكتور غبان وصف النقش: وپ"النقش على واجهة صخرة رملية، وهو من ثلاثة أسطر غير متساوية الطول الأول 50 سم، والثاني 215 سم، والثالث 54 سم والمنقوش: بسم الله/ أنا زهير كتبت زمن عمر توفي سنة أربع/ وعشرين". ويتابع الباحث: "إن البسملة غير الكاملة كانت معروفة، كما ضُرب على الدراهم الساسانية أيام عمر بن الخطاب وعثمان، أما اسمه"زهير"فاكتفى به بلا نسبة لأن النقش الآخر في أسفل الصخرة عليه اسمه منسوباً"، ثم يناقش الباحث التاريخ، وهنا أهميته."فزهير نفسه كتب ولم يُكتب له، وكلمة زمن تشير الى حادثة وفاة الخليفة عمر، وهنا يتساءل الباحث: لماذا أثبت زهير عام 24؟ هل لأنه شاهد حادثة الوفاة، أم لأن أحدهم أخبره بها فبقيت عالقة في ذهنه؟". ونعرف أن هناك اختلافاً في تحديد وقت وفاة عمر: هل هو في الاول من محرم عام 24 أم في السادس والعشرين من ذي الحجة عام 23، ففي طبقات ابن سعد رواية مرفوعة بسند الى عثمان بن الأخنسي ويعقوب بن زيد عن أبيه قالا: بويع عثمان بن عفان يوم الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فاستقبل لخلافته المحرم سنة أربع وعشرين الطبقات ج2 ص 63، بينما ينقل الطبري في رواية عن سلمة بن جنادة تحدد وفاة عمر بليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة عام ثلاثة وعشرين. ويعقّب الطبري: قال أبو جعفر: وقد قيل: ان وفاته كانت في غرّة المحرم عام أربعة وعشرين ج4 ص 190. ثم راح الباحث يفتش عن نسب زهير، ففي النقش الأسفل للنقش الأساسي يشير الى انه:"زهير مولى ابنت شيبة"،"فمن المصادر يتبين ان هناك عدداً من الشخصيات يحملون اسم زهير: الخثعمي، وابن رافع الأنصاري، وابن قرضم بن العجيل، وابن صرد، وابن القين، وسواهم... ممن عاشوا هذه الفترة الزمنية، أما"ابنة شيبة"منا لصحابيات وغيرهن فمنهن: رملة، وفاطمة، وصفية..."وبقي البحث مفتوحاً من دون حسم. أما دراسة الخط: فالنقش تم بالحزّ السطحي، بالخط الحجازي، الذي كان مستخدماً في مكة والمدينة آنذاك، ثم بطُل تداوله خارج الحجاز بعد شيوع الخط الكوفي، واستمر داخلها، وبه وردت نقوش: زبد 512م وجبل أسس 528م وحران 568م. والشبه بين خط بردية اهناسية ونقش زهير كثير، على رغم ان الأولى كتبت على ورق البردى والثانية نقشت على الصخر، والمختلف هو حرف الياء الراجعة التي استخدمت في النقش ولم تستخدم في البردية. ويخلص الباحث الى أن نقش زهير بتاريخه المبكر قد أصبح أقدم نقش إسلامي مؤرخ، وهو نموذج للكتابة العربية في عهد الخلفاء الراشدين، ويضيف دليلاً مادياً جديداً الى الأدلة القليلة المؤرخة والتي تحسم قصة التشكيك في أصالة بردية اهناسية لظهور النقط على حروفه، وهو أيضاً أفضل نماذج النقوش التي ظهرت حتى الآن للخط الحجازي المدني. * أستاذ في الجامعة اللبنانية