ربما لم تكن الفلاحة المصرية الشابة آمال تتخيل أن تصبح الدواجن الوادعة التي تقتات منها وأسرتها سبباً في تصدرها لائحة ضحايا فيروس"أنفلونزا الطيور"في مصر، حيث وصل عدد الإصابات البشرية إلى نحو 12، بينها ثلاث وفيات. تجاهلت آمال التي تقطن قرية"نوا"الفقيرة في محافظة القليوبية، تحذيرات المسؤولين من التعامل مع الدجاج. ولم تكترث كثيراً لما تم ترويجه عن أن ضبط أي طيور منزلية سيغرم صاحب الدار عشرة آلاف جنيه، فخبأت عشر دجاجات وبضع بطات... تحت سريرها. برر الرسميون وفاة آمال بوصولها إلى المستشفى متأخرة، لكن أحداً لم يبحث عن سبب احتفاظها بدواجنها في غرفة نومها. ربما لم تملك ترف الاختيار، فهذه الطيور هي كل ثروتها، وخوفها على ضياع"رأسمالها الحي"يفوق كثيراً خوفها من الفيروس. وربما فكرت أنهم حتى لو ضبطوها متلبسة بتربية طيورها، فلن يجدوا معها قيمة الغرامة. وكالعادة، دفعت الحلقة الأضعف الثمن. فمنذ 18 آذار مارس الماضي موعد الإعلان رسمياً عن أول وفاة بأنفلونزا الطيور في مصر، اقتصرت الوفيات من الفيروس على أهل الريف من الفقراء، ومن النساء تحديداً. الضحايا تساقطن، بعدما فضلن المخاطرة بحياتهن على الموت جوعاً بسبب الفقر. وتزداد خطورة الموقف في الريف مع توالي الإصابات بين النساء، لا سيما أن ما يزيد على ربع عائلات مصر تعيله نساء، و80 في المئة من النساء المعيلات يقمن في الريف. قصص الضحايا اللائي تساقطن لاحقاً، جميعها يؤكد أن الفقر لعب دوراً كبيراً في إصابتهن بالمرض وأن انفلونزا الطيور أضحى"مرض الفقراء"في ريف مصر. ففاطمة التي تلقت في 21 آذار مارس الماضي دجاجة"رخيصة"هدية عيد الأم من أطفالها، ذبحتها وانهمكت في تنظيفها، لينتهي يومها بالموت بالفيروس الذي احتوته أول هدية تتلقاها في عيد الأم. والضحية الثالثة التي لحقت بزميلات الفقر هي إيمان: فتاة ريفية عمرها 16 عاماً تملك أسرتها ككل أسر الريف المصري"عشة فراخ"وبقية القصة معروفة. الضحايا حتى الآن هن إذاً، إضافة إلى الرضع والأطفال، نساء فقيرات غير عاملات. وهن ينتمين إلى شريحة ليست صغيرة من المجتمع المصري سمتها الأبرز الفقر. وطبقاً لتقرير التنمية البشرية الأخير للعام 2005، فإن نسبة الفقراء في مصر وصلت إلى نحو 40 في المئة من السكان. أما البنك الدولي، فيحدد هذه النسبة ب 48 في المئة. ويتضافر الجهل مع الفقر ليمهدا الطريق أمام الضلع الأخير في ثالوث الشر، المرض. ويقدر تقرير التنمية البشرية في مصر نسبة من يعرفن القراءة والكتابة من النساء بنحو 56 في المئة، أي أنه من بين كل مئة سيدة مصرية هناك 44 يجهلن تماماً الكتابة والقراءة. ويؤكد أستاذ الاقتصاد عضو"المجالس القومية المتخصصة"الدكتور حمدي عبدالعظيم أن دراسة أجرتها"شعبة الأمن الغذائي"في المجالس أثبتت أن نسبة الفقر في الريف تبلغ 77 في المئة. ويقدر عدد النساء المعيلات في مصر ب 6.5 مليون امرأة، 80 في المئة منهن يعشن في الريف. ويضيف:"الفقر في الريف المصري له طبيعة خاصة جداً، فالأسر الفقيرة لديها آليات تحايل لتتمكن من البقاء، وحتى الأسر التي لديها حيازات صغيرة من الأراضي دخلت في دائرة الفقر بسبب الغلاء المتصاعد". ويعتقد أن"هذا التحايل مكونه الأساس"عشة"الدواجن، فتربية الدواجن في الريف تعد قارب إنقاذ من الفقر والحرمان، سواء ببيع البيض والدواجن، أو حتى بتناول لحومها، فشراء اللحوم الحمراء أمر أصبح عسيراً جداً". ويشير إلى أنه"عندما يتوفى العائل أو يعجز عن العمل تصبح مهمة المرأة الأساسية هي توفير دخل من تربية الطيور المختلفة وبيعها، ولو عرفنا أن 30 في المئة فقط من سكان الريف يملكون حيازات زراعية، نعلم أن 70 في المئة من السكان يعملون في مهن أخرى مثل الأعمال اليومية واليدوية، والمرأة هنا جزء أساس من قوة العمل، فهي بحسب تقرير التنمية البشرية تمثل 29.9 في المئة من نسبة عمال الزراعة". وفي مواجهة الفقر المدقع، سعت جمعيات أهلية ومؤسسات حكومية إلى دعم"المشاريع المتناهية الصغر"للنساء. لكن غالبيتها كانت تتركز على مشاريع تربية الدواجن. ويشدد عبدالعظيم على أن"الريف المصري وفقراءه سيفقدون سنداً قوياً كان يعينهم على استمرار الحياة بعدما دمرت انفلونزا الطيور هذه المشاريع ... ولا بد من توفير بديل مناسب وسريع". ويوضح:"الفاتورة ستكون ثقيلة جداً على هؤلاء الفقراء، سواء اقتصادياً أو صحياً. لن يجدوا حتى قوت يومهم وسينتهي تماماً أي أمل في أن يتلقى أبناؤهم أي قدر من التعليم أو الرعاية الصحية، هذا فضلاً عن انتهاء علاقتهم بالبروتينات التي كانت تأتي من لحوم الدواجن حصراً". وعلى رغم إصدار"اللجنة العليا لمعاونة المرأة المعيلة"التابعة لپ"المجلس القومي للمرأة"، قراراً بإعفاء المقترضات من سداد بقية الأقساط، خصوصاً صاحبات مشاريع تربية الطيور المنزلية، فإن الأزمة تضاعفت في 4780 قرية مصرية يعتمد 40.8 في المئة من أسرها، كلياً أو جزئياً، على مساهمة المرأة في الإعاشة"، وبالطبع لا سبيل لتوفير الدعم المالي للأسرة سوى العمل داخل المنزل، لا سيما أن سن الزواج تتراوح بين 12 و15 عاماً في هذه القرى، كما لا تتلقى النساء في أفضل الحالات سوى التعليم الأساس وتتسرب من التعليم نحو 25 في المئة منهن. ويرى الباحث الاقتصادي رئيس تحرير دورية"أحوال مصرية"مجدي صبحي أن"إدارة الحكومة لأزمة انفلونزا الطيور تجاهلت إلى حد كبير الفقراء، فهؤلاء كان لا بد من أن يكونوا جزءاً من هم المجتمع ككل، سواء مؤسسات رسمية أو هيئات المجتمع المدني". ويقول:"هذه المناطق أولى بالرعاية. وأكبر دليل أن من ماتوا بأنفلونزا الطيور هم فقراء هذه القرى ممن اختاروا الفيروس والدجاج بدلاً من لا شيء، وراهنوا بحياتهم من أجل أن يضمنوا قوت يومهم، بعيداً من حال الهلع التي أصابت مجتمع المدن الذي يملك رفاهة اختيار أكل الدجاج أو الاستغناء عنه". ويلفت إلى أن"تربية الدواجن هي المهنة الأولى في الريف المصري، بل ان من يمارسونها ليسوا بالضرورة فقراء لأنها جزء من ثقافة النساء هناك فلا يوجد منزل من دون عشة للطيور". ويضيف:"ما يحدث الآن هو صراع بين دولة تريد حماية مجتمع من وباء، وثقافة اجتماعية واقتصادية سائدة ترى أن جزءاً من أمانها الشخصي ينهار". ويحذر من أن الريف المصري أصبح على شفير كارثة اقتصادية في أعقاب انتشار الفيروس. وفي هذا السياق يشير إلى"ما حدث في القليوبية وهي محافظة كانت تشهد استثمارات قيل إنها وصلت إلى 17 بليون جنيه في تربية الدواجن وحدها. هذا الاستثمار ينهار تماماً الآن مخلفاً حالاً جماعية من الفقر، تتحمل جانبها الأكبر المرأة، لأنها المسؤولة عن إدارة الحياة داخل المنزل". ويختتم حديثه قائلاً:"المسألة الآن باتت أكثر تعقيداً. فالأزمة لن تكون مزيداً من الفقر فحسب، بل أيضاً تقلص محاولات البحث عن حل. وعلى الدولة أن تقدم بدائل سريعة، خصوصاً للمرأة. وربما يكون مشروع تربية العجول، مثلاً، حلاً مطروحاً، حتى لو كان بالمشاركة بين أكثر من عائلة".