من منظور تاريخي حديث، يمكن القول إن هجرة الأدمغة المصرية ازدادت اعقاب نكسة عام 1967 واستمرت، وإن لوحظت رغبات متناثرة من اصحاب هذه الكفاءات المقيمة في الخارج بالعودة الى المحروسة بعد انتصار تشرين الاول اكتوبر عام 1973. لكنّ سياسة الانفتاح أتت بما لا تشتهيه عقول العلماء، من انقلاب الهرم الاجتماعي رأساً على عقب، وطغيان الشره الاستهلاكي على كل المتطلبات الاخرى من علم وتعليم وتقويم و... بحث علمي. ويبدو أن مصر أيقنت منذ عقود أهمية البحث العلمي، فأنشأت اكاديمية بقرار جمهوري صدر عام 1971 يحمل الرقم 2405. وتتخذ هذه الاكاديمية حالياً من كلمات الرئيس حسني مبارك التالية عنواناً لها:"عادة ما تسبق التغيرات العلمية التغيير بصفة عامة، ذلك أنّ الاقتصادات هي حجر الاساس في التنمية، ولا احد ينكر أن العلم يمثل عاملاً فاصلاً في العالم هذه الايام". أين الترجمة الفعلية؟ إلا أن هذه الكلمات ضلت طريقها في مجال الترجمة الفعلية، فإذا كان متوسط انفاق الدول على البحث العلمي يبلغ نحو 5.3 في المئة من الدخل القومي، فهو متحجر في مصر عند نسبة واحد في المئة، ليس هذا فقط. بل ان 70 في المئة من هذه النسبة تبتلعها الحوافز والرواتب، ما يترك الفتات الجافة للبحث العلمي، وهكذا اضحت البيئة الموجودة طاردة للكفاءات. وما يزيد الطين بلّة أنّ مراكز البحث العلمي في مصر وأكثرها حكومي لا يمنح سوى برواتب متدنية، وظروف عمل حكومية وروتينية بيروقراطية أبعد ما تكون عن البحث العلمي، ما يدفع الشباب المتخرّج إلى البحث عن فرصته في الخارج. المركز القومي للبحوث في مصر يحاول من جهته سد جزء من الجرح المؤدي إلى هجرة"الادمغة"، فقد أسس رئيس المركز الدكتور هاني الناظر مشروعاً يعرف ب"الطريق إلى نوبل"ويهدف إلى تهيئة البيئة المناسبة لنحو 200 باحث شاب للبحث في مجالات علمية هي الكيمياء والفيزياء والأحياء والهندسة الوراثية، ذلك بهدف الحصول على جائزة نوبل. وما دمنا ذكرنا نوبل، فلا بد من أن نذكر الدكتور أحمد زويل أحد الأدمغة المصرية المهاجرة التي نجحت بعد هجرتها وتهيئة البيئة المناسبة للبحث العلمي في الحصول على جائزة نوبل في الكيمياء. زويل قال إن مصر التي غادرها قبل أكثر من ثلاثة عقود كانت أكثر تقدماً، وتمتلك قاعدة تقدم علمي أفضل، ومستوى طبياً جيداً في التعليم، وأن مراكز البحث العلمي فيها كانت تؤهلها لمواكبة العصر. ويعترف الناظر بوجود مشكلات مثل قلة عدد الأبحاث العلمية المصرية المنشورة في الخارج، وقلة عدد براءات الاختراع المسجلة، وتدني الموازنة السنوية المخصصة للبحث العلمي، وغياب التنسيق بين المراكز ومؤسسات الأبحاث المصرية. لكنه يؤكد في الوقت عينه وجود"قاعدة علمية حقيقية في مصر"إضافة إلى مراكز أبحاث متخصصة. دائمة وموقتة الوضع المتردي للبحث العلمي والمناخ الطارد للكفاءات والأدمغة الشابة يمكن أن تترجمها الأرقام من خلال دراسات وإحصاءات عدة. الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يشير إلى وجود 824 ألف مصري مهاجرين هجرة دائمة. أما الهجرة الموقتة فحجمها مليون و902 ألف شخص. وعلى سبيل المثال، يوجد في الولاياتالمتحدة الاميركية 47 مصرياً يحملون درجات أقلها الماجستير في الجراحة وجراحة القلب، و3 في الطب النووي، و10 في العلاج بالإشعاعات، و19 في طب المناعة، و36 في علوم السموم. كما يوجد 197 في مجال الهندسة منهم 42 في مجال المؤثرات الميكانيكية، و31 في تخطيط المدن والجسور والسدود، و52 في الهندسة الإلكترونية والميكرو إلكترونيات، و20 في الهندسة النووية، و38 في استخدامات أشعة الليزر، و14 في تكنولوجيا الأنسجة. كما يوجد 92 عالماً في مجتمع العلوم الأساسية أي الفيزياء الذرية وكيمياء البلمرات والجيولوجيا وطبيعة الزلازل والفلك وعلوم الفضاء والبيولوجيا والميكروبيولوجيا واستخدام الأشعة السيزمية، و24 عالماً في مجال الزراعة، و86 عالماً في مجال العلوم الإنسانية التي تضم اقتصادات السوق والمصادر التمويلية والعلاقات الدولية. وتشير الأرقام إلى وجود 318 ألف"دماغ"في الولاياتالمتحدة و110 آلاف في كندا، و70 ألفاً في استراليا، و35 ألفاً في بريطانيا، و36 ألفاً في فرنسا، و25 ألفاً في ألمانيا، و14 ألفاً في سويسرا، و40 ألفاً في هولندا، و14 ألفاً في النمسا، و90 ألفاً في إيطاليا، و12 ألفاً في اسبانيا، و60 ألفاً في اليونان. أكاديمية البحث العلمي في مصر أجرت دراسة أيضاً حول نزيف الهجرة الدائمة للكفاءات في كل المجالات الى دول الاتحاد الأوروبي واميركا وكنداواستراليا، فكشفت عن وجود نحو 720 ألف مهاجر مصري في دول الغرب، بينهم 450 ألفاً من أصحاب الكفاءات العلمية في المجالات المختلفة. وأشارت التقارير إلى أنّ تكاليف المصري الذي يهاجر لتحصيل درجة الماجستير أو الدكتوراه في جامعات أوروبا أو الولاياتالمتحدة الاميركية تصل الى 100 ألف دولار، ما يعني أن هجرة 450 عالماً تؤدي إلى خسارة مصر نحو 45 بليون دولار وإحداث فجوة حقيقية في القدرات المطلوبة للنهوض بالمجتمع وتنشيط عمليات التنمية. الغرب المستفيد الأول أكد مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في دراسة أجراها حول"هجرة الأدمغة العربية"أن المجتمعات العربية أصبحت بيئات طاردة للكفاءات العلمية العربية. والدليل الى ذلك أن 45 في المئة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم بعد انتهاء دراستهم، وأن إجمالي الخسائر التي تتكبدها الدول العربية بسبب هجرة أدمغتها يبلغ 200 بليون دولار أميركي، وهي الخسارة التي تتحول منفعة للدول الغربية. وللأسف فإن مصر تقف في الصدارة بين الدول التي تخسر بسبب هجرة أدمغتها الشابة. ويقدر أستاذ العلوم السياسية في جامعة اسيوط الدكتور عبدالسلام نوير عدد من تخلف عن العودة من الطلاب الذين نالوا منحاً لاكمال دراستهم في الخارج منذ بداية الستينات حتى مطلع 1975 نحو 940 أي بنسبة 12 في المئة من مجموع الطلاب الذين نالوا منحاًَ، وأكثرهم متخصص في مجالات الهندسة أو الطب والأبحاث الزراعية. الدكتور جميل سافر من بين هؤلاء. إذ شد رحاله الى بريطانيا في منحة دراسية عام 1987 لدراسة تقنية المعلومات وعلوم الكومبيوتر، ولم يعد إلى مصر إلا لقضاء العطلات. يقول:"قراري بعدم العودة إلى التدريس في إحدى جامعات مصر الحكومية ليس جحوداً منّي، لكنه ببساطة إنقاذ لما أنعم به الله عليّ من موهبة وتفوق في مجال تخصصي. فعودتي إلى مصر في ظل الظروف العلمية والاكاديمية الراهنة بمثابة وضع النهاية لكل ما تعلمته واكتسبته في بريطانيا. ولو كان هناك أمل من عودتي، لكان الدكتور زويل عاد إلى مصر قبل سنوات طويلة".