إن مسألة الإصلاحات الاقتصادية ليست مفاجئة بالنسبة الى العراقيين. والسبب في ذلك يعود إلى أن التغيير الذي حصل في نيسان ابريل 2003، نقل العراق إلى وضع جديد، هو مزيج من عناصر كنا نتوقعها وأخرى جديدة لم تخطر في بال. هذا الأمر يطرح أهمية مراجعة المقاربات التي اتبعت في معالجة هذه المواضيع والى أين وصلت، وما هي النتائج التي تحققت خلال هذه الفترة. في الواقع لابد أن نتوقف عند جملة من القضايا، أهمها: أية مقاربة اتبعت في معالجة قضايا البناء في العراق، وكيف حددت حزمة الإصلاحات الاقتصادية وإدارتها خلال هذه الفترة؟ كان العراق أمام مقاربتين، الأولى إيديولوجية والثانية براغماتية. وللأسف الشديد أن المقاربة الأيديولوجية هي التي طغت، والمقصود هو الدعوة في شكل غير علمي وفج إلى اقتصاد السوق ومحاولة استنساخ وصفات لتجارب بلدان أخرى، أدى استخدامها إلى كثير من المتاعب، وأقصد ما حصل في روسيا وبعض بلدان أوروبا الشرقية. عندما نتكلم عن المقاربة الأولى، أي إيديولوجية السوق في صورة مطلقة واحادية الجانب، فلا نعني إلغاء دور السوق. فهناك فارق بين تقديس السوق واقتصادها وآلياتها، وبين الخيار الآخر الذي يدعو إلى الجمع بين دور السوق ودور الدولة. نحن عندما واجهنا هاتين المقاربتين، لم يكن لدينا خيار، لأن البلد وقع تحت الاحتلال. وأصبح لسلطة الائتلاف الكلمة الحاسمة في تقرير السياسات المختلفة للبلد. فكان على العراق أن يقوم بالإصلاحات الاقتصادية وفق الوصفة الجاهزة، أي وصفة صندوق النقد الدولي، التي تدعو إلى إجراء الإصلاحات في إطار ما يسمى بسياسة التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي. كان هنالك مسألتان أساسيتان في هذا الصدد. الأولى أن يحسب حساب للمشروطية المقترنة بوصفة صندوق النقد الدولي، والثانية هي حساب الكلفة الاجتماعية المصاحبة لتطبيقها. وثمة حقيقة بديهية هي انه لا يمكن إن تتحقق تنمية ولا إعادة أعمار ولا ديموقراطية ولا أمن من دون دولة فعالة. هذا هو الدرس الأول الذي ينبغي أن نتوصل إليه في أي معالجة للقضايا التي يواجهها العراق اليوم. فحين سقطت دولة النظام السابق عام 2003 وجاء البديل سلطة الاحتلال ومعها أجهزتها وخبراؤها في كل الميادين، جرى بحث الإصلاحات، وصدرت مجموعة من القوانين والأوامر والإجراءات في غالبها صحيحة. وانا اعتقد إن الخلل ليس فيما صدر. فقوانين كثيرة جاءت لإصلاح الجهاز المؤسسي للدولة في التجارة والمصارف والعمالة والأسواق المالية وغيرها. لكن المشكلة التي حصلت هي ان لا يمكن ان نحقق الاصلاحات المنشودة ما لم نقيم المناخ المناسب لها. فالإصلاح مشروط بمناخه. وهذا في الحقيقة ما لم يحسب حسابه في الشكل الكافي، لأن البرامج التي قدمت كانت مبنية على فرضيات خاطئة. - الفرضية الأولى: - إن سقوط النظام السابق قد هيأ المناخ كاملا للإصلاحات. وأطلق ما يسمى بمفهوم"مرحلة ما بعد النزاع". والفرضية كانت في الحقيقة غير مبنية على أسس ومعطيات صحيحة، لان سقوط النظام ? كما يعرف الجميع ? لم يكن بداية إنهاء النزاع، وإنما بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة نزاع من نوع آخر، اقترنت بالتخريب والإرهاب والعنف الذي مازلنا نعيشه حتى اليوم. فحين ترسم السياسة في ظروف مبنية على أساس خاطئ. تكون النتائج خاطئة. فهناك برنامج يسمى"تقييم حاجات العراق لإعادة الأعمار"قدم للعالم في شهر تشرين الأول أكتوبر 2003 في مؤتمر مدريد للدول المانحة. وكل ما في هذا البرنامج كان مبنياً على فرضية عدم وجود مخاطرة وسيادة وضع طبيعي، ولا بد من تطبيق هذه البرامج، كما كانت ترى الأوساط الأجنبية ذات العلاقة. - الفرضية الثانية: - وتتعلق بالتقديرات الخاطئة والاجراءات القاصرة في اطار التخطيط لإسقاط النظام السابق ومن ثم الاحتلال. فالمخططون للسياسة الأميركية جاؤوا بفكرة مفادها إن سقوط النظام سيهيئ الفرصة لإقامة نموذج ديمقراطي يتمثل بنظام ليبرالي يقوم على اقتصاد السوق وتحرير التجارة والأسعار وإقامة أسواق مالية. لكن في الحقيقة حصل التناقض ما بين الدعوة إلى هذا النموذج الذي يتوقع له إن يمتد في المنطقة، وبين التقدير الخاطئ لحجم المخاطر المحتملة التي لم تكن ذات اثر جانبي، لأنها امتدت أكثر من ثلاث سنوات ولا زلنا نعاني منها. - إما الإصلاحات نفسها، فتركزت في إزالة الاختلالات بالنسبة الى ميزانية الدولة والميزان التجاري والمطالبة بتحرير التجارة والتغييرات الهيكلية التخصيص وإصلاح المؤسسات العامة. هذه الوصفة لم تنظر الى ظروف العراق الخاصة حيث لا يمكن إن تكون الإصلاحات وحدها هي الهدف، بل لابد إن تكون جزءاً من استراتيجية شاملة للتنمية. فالاستيراد من الخارج لم يخضع لأي قيود سوى ضريبة بسيطة لا تتجاوز 5 في المئة استثني منها بعض المواد الإنسانية والكتب. ثم ضوعفت في الموازنة الجديدة لعام 2006 لتصبح 10 في المئة، ونتيجة لذلك ترتب الآتي: 1- تهميش دور القطاع الخاص والدور المنشود له في قيادة الاقتصاد الوطني، نظراً الى انعدام الحوافز لذلك. 2- تهميش الصناعات الوطنية. 3- انعكاسات خطيرة على حياة الناس من نقص الكهرباء والوقود والمياه. دور الدولة القضية الثانية المهمة التي يجب إن تبحث هي كيف لنا إن نفكر بدور الدولة. فقد جرى نقاش كبير حول هذا الموضوع بسبب وجود خلط كبير بين الدور الصحيح للدولة والدور المبالغ فيه. ان الذين لديهم تقدير موضوعي لهذه المسألة، مبني على التجارب للشعوب الأخرى، يعتقدون بالحاجة لتفعيل دور الدولة في شكل صحيح وليس الركون إلى الدولة كسلطة مطلقة في كل شيء كما حصل ويحصل في الأنظمة الشمولية. الى جانب ذلك لابد إن يقوم توازن وتكامل بين دور الدولة ودور السوق. العراق اليوم، إذا أراد إن ينمو ويتطور، لا يمكن إن يخرج عن هذه القاعدة. وعندما يجرى الكلام عن الإصلاحات، والتي يجب إن تكون جزءاً من إستراتيجية للتنمية، فذلك يعني إننا في حاجة إلى من يخطط. أي الى وجود آلية لرسم السياسات والستراتيجيات العامة وفق قواعد علمية صحيحة. هذه مشكلة يرددها البعض وكأن المشكلة هي وجود وزارة للتخطيط. هذا أمر غريب وبعيد كل البعد عن ارض الواقع. لذلك فان بعض الدراسات والتقارير للبنك وصندوق النقد الدوليين يشير إلى أهمية التخطيط ودور الدولة، أكثر من أي وقت مضى ولكن ليس ضمن المفهوم الخاطئ الذي ذكرناه. لا رؤية لإدارة قطاع النفط أهم نقطة نواجهها الآن هي قضية إدارة الثروة النفطية من حيث العمليات الانتاجية واستثمار العوائد. كيف للدولة إن تقوم بمثل هذه المهمة الكبيرة إذا لم يكن لديها رؤية وأدوات وآليات؟ هذا غير ممكن في الحقيقة من غير ذلك. وكل ما يقال بان يترك الأمر للقطاع الخاص كلام مبالغ فيه. فالقطاع الخاص العراقي لا يزال ضعيفاً وفي حاجة إلى مزيد من الدعم وتوفير الإمكانات الضرورية للنمو. لكن هذه القضية هي في غاية الخطورة إذا لم تعتمد وفق آليات صحيحة. في هذا الجو من النقاشات ومراجعة التجربة الماضية، يجب التأكيد على إن الإصلاح هو جزء من إستراتيجية التنمية، وعلى أن الدولة تلعب دوراً متوازناً ومتكاملاً مع دور السوق. فالقطاع الخاص في حاجة إلى الدولة. ويجدر في هذا السياق، التأكيد على ركن أساسي آخر في صياغة استراتيجية انمائية، وهو تنويع الاقتصاد العراقي وتحريره من الاعتماد المفرط على عوائد النفط، بحيث تحول الاقتصاد كلياً الى اقتصاد ريعي، أحادي الجانب ومشوه. وهي مسألة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالحاجة الى تأمين استثمار سليم للعوائد النفطية بما يكفل بناء قاعدة انتاجية صلبة، في الزراعة والصناعة وباقي القطاعات الاقتصادية، والسعي لتنويع مصادر دخل الدولة. "مشروع مارشال"عراقي ؟ ومن الأمور المهمة الاخرى، هو أن نحسب حساباً لمصادر قوتنا ومواردنا الداخلية. هذه قضية أخرى لابد من الحديث عنها. عندما بدأت عملية إعادة الأعمار في العراق قيل إن كل شيء سيوضع تحت تصرف العراق بما يكفل التوصل إلى نتائج في مستوى خطة"مشروع مارشال"في أوروبا، حتى قيل إن التعهدات المالية التي وصلت إلى 33 بليون دولار من مؤتمر مدريد تعد اكبر معونة مالية تقدم لدولة منذ المشروع المذكور. وهذا صحيح. لكن حين نراجع التجربة خلال هذه الفترة نرى عدم الوفاء بهذه التعهدات إلا بنسبة قليلة، كما ان الحكومة العراقية ليس لديها أي توثيق لما صرف الى حد الآن، ولا توجد مؤسسة عراقية تعرف بالضبط كم هي المبالغ التي صرفت في إطار المعونات الدولية. هذه المعلومات مستقاة من الخارج واغلبها إما من البنك الدولي أو من الصناديق الدولية أومن المانحين أنفسهم. والمعلومات التي نشير إليها تؤكد ان ليس هناك أكثر من 10 الى 11 بليون دولار أنفقت وجرى الالتزام بها فقط. الصندوقان الدوليان اللذان استُحدثا الأول يديره البنك الدولي والثاني تديره مجموعة الأممالمتحدة لم ينفذا مشاريع مهمة اذ لا تتعدى قيمة هذه المشاريع نصف بليون دولار. أما المعونة الأميركية التي تزيد عن 18 بليون دولار فلم ينفق منها في العراق إلا بحدود 8 بلايين دولار، كما تؤكد المصادر الأميركية نفسها. هذه القضية والارقام من الصعب مناقشتها. ولكن ما هو تأثيرها وانعكاساتها في أوضاع العراق؟ كلفة المشاريع تحت الاحتلال تعترف المصادر الأميركية، بما في ذلك التقارير التي تقدم إلى الكونغرس بأن كلفة الأمن للمشاريع تبلغ نحو 30 في المئة. فإذا كانت قيمة المشروع 100 مليون دولار مثلاً فإن 30 مليون دولار تذهب لأغراض الحماية الأمنية. ثم من هي الجهات التي تقوم بالمهمات الأمنية؟ مصادر أميركية موثوقه تشير إلى وجود 40 شركة أجنبية خاصة يعمل فيها نحو 25 ألف شخص كلهم من الأجانب ويصل راتب الشخص الواحد الى 33 ألف دولار شهرياً تقريباً. وهذه الكلفة تساوي 30 في المئة من قيمة المشروع. أضف إلى ذلك ما يسمى بالنفقات الإدارية التي لا تقل كلفتها عن 20 في المئة، ونحن هنا نذكر الأرقام بصورة معتدلة ومتحفظة لكي لا يبدو الكلام وكأنه مبالغ فيه. النتيجة في أحسن الأحوال إن نحصل على 50 في المئة . ولكن أين تذهب ال 50 في المئة الأخرى؟ هنا لا بد من متابعة المردود الاقتصادي في العراق. فهناك البطالة. كم هي فرص العمل التي توافرت من هذه المعونات؟ إلى أي مدى تقلصت رقعة البطالة في البلاد ؟ وهناك الخدمات والهياكل الارتكازية. فإلى أي حد جرى تحسين هذه الهياكل في ما يتعلق بالخدمات العامة ماء ? كهرباء ? تعليم ? صحة . ثم لدينا الاستثمار الإنمائي الذي يمثل حاجة ملحة أيضاً. وهنا أتمنى ألا يحدث أي نوع من التصور بأنني أدعو إلى إهمال العامل الأمني. بل على العكس فأنا أصر على إن هذا العامل له الأثر الكبير والمباشر في تخريب كثير من البرامج. ولكن إلى جانب ذلك يجب إن نقيم مسيرة الإعمار في شكل موضوعي، أي إن نحسب المسألة من جميع جوانبها ونذكر السلبيات في شكل صحيح لان هذا مفيد جداً لنا في المستقبل. اخلص من هذا كله إلى نتيجة أخرى وهي هل إن العراق في حاجة إلى المعونات المالية إلى هذا الحد ؟ وهل يمكن إن نبني إستراتيجيتنا المستقبلية على المعونات الخارجية؟ الاعتماد على الذات وليس المساعدات أنا اعتقد إن ثمة مسألة غاية في الأهمية تخص مستقبل العراق، تتعلق بالنمو المتوقع للعوائد النفطية. العراق الآن من الناحية المالية إمام أفاق جيدة. فعندما يكون سعر برميل النفط الخام أكثر من 60 دولاراً، فذلك يعني أن الوضع المالي للبلاد سيكون مختلفاً. وعلينا إن نفكر بكيفية استثمار وإدارة صناعتنا النفطية بصورة مجزية. وهذا أمر يرتبط بعوامل سياسية. لكن هل يمكن للعراق إن يبني ? كما ذكرنا ? إستراتيجيته على الخارج أم إن علينا إن نفكر بسياسة الاعتماد على الذات ؟ أنا اعتقد ومعي كثير من المفكرين الاقتصاديين، ومنهم أجانب وأميركيون من مؤيدي سلطة الائتلاف، يعتقدون أن الأوان قد حان للعراق لكي يعتمد على ذاته. وهذه مسألة يمكن إن تحسب. فهي ليست نوعاً من التنجيم. لدى العراق الآن أكثر من 5 بلايين دولار تحققت كفائض خلال عام 2005 على أساس إن أسعار النفط كانت 26 دولاراً للبرميل الواحد، ثم أصبحت فيما بعد 46 دولاراً وفق القاعدة الحسابية المعتمدة في موازنة 2006، فنحن اذاً أمام ضرورة ملحة لمراجعة الوضع المالي. لدينا الآن احتياط نقدي تعدى ثمانية بلايين دولار، فضلاً عن 5 بلايين فائض السنة الماضية. أي لا بد من التفكير بنقل نقطة التركيز من المصادر الخارجية إلى الموارد المحلية، او الجمع بينهما بصورة عقلانية. وهذا هو الدرس الكبير للإفادة منه في بناء مستقبل البلاد، أي كيف ينعكس هذا على المعونات الخارجية. الغريب إن كثيراً من الدول توقفت عن الوفاء بالتزاماتها. فالصناديق الدولية الآن شبه خاوية. ففي عام 2005 لم يدخلها سوى 200 مليون يورو، وليس هناك ما يشير إلى إن الدول المانحة ستغذي الصناديق قريباً. وهذا يدعو إلى التساؤل لماذا وصلت الأمور الى هذا الحد ؟ والجواب ببساطة هو ان الدول المانحة لا تعطي إلا للفقير. وهذه قضية أتوقع أن تستمر. من ثم يجب أن نضع معادلة سليمة لهذا الأمر. إلتزامات"نادي باريس" مرة أخرى نحن مدعوون إلى مراجعة الإصلاحات التي حدثت في العراق خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فالعراق الآن إمام التزامات حساسة منها إننا غير قادريين على التقدم بملف الديون وتنفيذ صفقة"نادي باريس"، ما لم نقم بعدد من الإصلاحات، منها إلغاء التخصيصات المالية للدعم النفقات التحويلية في الموازنة. وفي هذا جانب صحيح وآخر غير صحيح، لأن موضوع المشروطية يجب إن يدرس بشيء من المرونة وبحد من المبدئية. ولأن بلداناً أخرى عانت من هذه المشروطية ودفعت ثمناً باهظاً. هذه هي النقطة الأولى. أما النقطة الثانية فهي الكلفة الاجتماعية المترتبة على إلغاء الدعم يجب ان تحتسب في شكل صحيح. فعندما نقوم برفع أسعار المشتقات النفطية وبعدها أجور الكهرباء، وتتخذ إجراءات تتعلق بالبطاقة التموينية، لا بد من توفير برامج بديلة هي برامج الحماية الاجتماعية. وما لم تتوافر مثل هذه البرامج فإن هناك كثيراً من المخاطرة في هذا المجال. من الناحية النظرية يوجد كلام جيد في أدبيات صندوق النقد الدولي، يشير الى الحماية الاجتماعية وشبكة الأمان الاجتماعي. ولكن السؤال هو: كيف لنا إن نطبق هذا في العراق الآن ؟ نحن نمر الآن في أوضاع غير طبيعية، والدولة مشلولة وغير قادرة على القيام بوظيفتها بنحو فعال. فإذا أرادت إن تطبق مشروعاً أو برنامجاً للحماية الاجتماعية أو لرفع أسعار الوقود، لا بد من حساب قدرتها على التنفيذ. كثير من وظائف الدولة معطلة الآن وأهمها غياب الأمن على مستوى الفرد والجماعة والمنشآت العامة. وفي ظروف كهذه كيف لنا إن نتعامل مع الشروط الخارجية ؟ إن أي سياسي مسؤول يجب إن يحسب ذلك بدقة. فالسير على طريق الغاء او تقليص الدعم لا ضير فيه مع توفير الظروف المناسبة لذلك. لاشك إننا جميعا نرفض إن تكون ميزانية الدولة تعاني من الاختلال بهذا الشكل. فنحن نريد إن نبني دولة حديثة تعتمد آليات وضوابط صحيحة. ولكن هذا مرهون بضوابط وشروط. فلا يمكن اتخاذ القرار بالطريقة ذاتها التي اتخذ بها. انا اعتقد إن كل الذين يعملون في القطاع الاقتصادي والمالي مدركون لهذه الحقائق وليسوا مسؤولين عن ذلك. ولكن المشكلة تكمن في إيجاد صيغة معالجة، توائم بين ظروفنا الخاصة وبين الشروط الخارجية. فقد جعلوا إلغاء الديون مشروطاً بالالتزام ببرنامج معين ضمن مواعيد ومهل محددة ومقدسة. فقبل نهاية 2005 ، كان لا بد من رفع أسعار الوقود وخلال 15 شهراً أخرى لا بد من اتخاذ إجراءات لرفع أسعار الكهرباء، ووضعوا هكذا مجموعة متوالية من الشروط. المطلوب من أي اقتصادي أو راسم سياسة إن يعلم إن متطلبات الخارج ليست متطابقة دائما مع إمكانات الداخل. فصندوق النقد الدولي يعلن مثلاً ان العراق في وضع سليم ونحن نعلم انه ليس كذلك اذ ان الدولة ضعيفة ولا تستطيع أن تنفذ أو تعاقب. إذاً ما لم نوفر الشروط والضمانات، فلن يكون بمقدورنا السير في هذا البرنامج. ولن يعتد هنا كثيراً بالقرضين المقدمين للعراق ازاء التوقيع على الاتفاقين مع صندوق النقد الدولي. فالقرض الأول بعد الاتفاق الاول المسمى باتفاق المعونة العاجلة لما بعد انتهاء النزاع 436 مليون دولار والثاني اتفاق الاجراءات الموقتة 685 مليون دولار . فالعراق ليس في حاجة للقروض الأجنبية فضلاً عن ان جزءاً غير يسير منها يذهب لتغطية نفقات استشاريين دوليين للمساعدة في اجراء المفاوضات مع الأطراف الدولية. ففي العراق خبراء اقتصاديون وماليون وكذلك طاقات فنية متنوعة، باستطاعتهم أن ينهضوا بمهمة التفاوض هذه. هذه هي مشكلة"الوصفة"التي قدمت للعراق وطبقت في بلدان اخرى. ولكن أوضاع العراق تختلف. ويمكنه أن يقوم بالاصلاحات بصورة مستقلة ومن غير الالتزام بوصفة ومشروطية صندوق النقد الدولي. والشيء ذاته قد حصل في الهند وباكستان وغيرهما. كما أن وزير المال الحالي علي علاوي صرح اخيراً بما يعبر عن هذا الموقف ذاته. مرة أخرى يدعونا هذا الأمر الى التأكيد على قراءة الظروف الاستثنائية السائدة في العراق. فالأجنبي الذي لا يستطيع دخول البلد ويراسلنا من مدن في الخارج ويفتح مكاتبه في عمان وغيرها، لا يمكنه أن يطلب بناء تجربة نموذجية في العراق في ظل هذه الظروف! فهل من المعقول إن كل مكاتب المانحين والأممالمتحدة موجودة خارج العراق ورواتب العاملين في هذه المكاتب تدفع من الأموال العراقية؟ فهناك نحو 200 موظف في عمان وقبرص والكويت وتشكل رواتبهم جزءاً من موازنة المشاريع التي يفترض ان تمول من المنح المقدمة للعراق ! إذن كيف يمكننا إن نتعامل مع هذه القضايا المهمة جداً؟ هل يجرى التعامل بقبول مطلق للشروط الخارجية ؟ أم نعيد بحث الموضوع وفق منهج صحيح؟ لحسن الحظ ان القائمين على وزارة المالية مدركون لهذا الأمر على رغم صعوبة الوضع لديهم. وانا عندما أتحدث بمثل هذا الكلام فهو غير موجه لأحد. بل أقول إن هناك تجربة تاريخية مرت بها بلدان أخرى وأدت إلى نتائج عكسية. نعم يجب إن نأخذ الأمر بجدية مع ضرورة إن يفهم العالم الخارجي أوضاعنا الخاصة. ويبدو إن العالم بدأ يفهم هذه الخصوصية. لذلك نجد الدول المانحة بدأت تتردد في تقديم معوناتها إما لاعتبارات أمنية أو لاعتبارات تتعلق بتزايد القدرة المالية للعراق. وهكذا يصبح بإمكاننا أن نسأل المانحين والمستثمرين أنهم إذ يعترفون بوجود عوائق تمنعهم من دخول العراق، فلماذا يلزموننا باتخاذ إجراءات يترتب عليها كلفة اجتماعية واضطراب داخلي. فهذا حق مشروع وليس مفتعلاً. النقطة الأخرى هي مسألة البدائل. إذ كيف لنا إن نقيم شبكة للامان الاجتماعي ؟ أنا اعتقد إن هذه المسألة غير مدروسة في شكل صحيح. ففي موازنة الدولة لسنة 2006، هناك 500 مليون دينار مخصصة لهذا الغرض. أنا شخصياً لم أتمكن من فهمها بالضبط. فما هي الآلية لصرف هذه المبالغ ؟ تارة يقال ستوزع بصيغة البدل النقدي ومرة يقال إن هناك 150 ألف عائلة تحت مستوى خط الفقر ستستفيد من هذه المبالغ. وفي الحقيقة هذا ليس علاجاً مدروساً ومنهجياً. ثم إن هناك من يقول إننا خصصنا بليون دولار للأقاليم والمحافظات من غير إن يذكر الطريقة أو الآلية التي ستصرف بها هذه المبالغ. ألا يجب أن نضع رؤية محددة وموحدة للدولة ؟ ألا يجب إن يتم صرف هذه الأموال وفق أسس معينة وواضحة. فنقول مثلا إن محافظة ميسان في حاجة إلى كذا مشروع ضمن اطار زمني محدد وبالتالي فهي جديرة بان تتمتع بهذا القدر من التخصيص. هذه أمور يجب ان تؤخذ في الاعتبار عند دراسة مسألة الحماية الاجتماعية. ولكن حين نتجاوز ذلك فان الكلفة ستكون أكبر، ولحسن الحظ ان المتاعب الناجمة عن هذه الاجراءات ليست كبيرة. الاستقطاب الطائفي والمناطقي الموضوع بمجمله يعبر عن هموم متراكمة كبيرة ليس للعراقيين فيها خيار بسبب تداخل السياسة والاقتصاد معاً. نحن نعاني من مشكلة الوجود الأجنبي وتأثيراته في القرارات السياسية. نعاني من مشكلة غياب الأمن. نعاني من مشكلة غياب التوافق الاجتماعي المطلوب، وهذه المشكلة كبيرة تهدد نسيج المجتمع. لدينا أمراض جديدة منها أمراض الاستقطاب الطائفي والمناطقي والاثنين معاً، وهذه أيضاً خطرة جداً بالنسبة إلى مستقبل العراق. كل هذا يدعونا الى التفكير جدياً بمستقبلنا، خصوصاً ان العملية السياسية انتهت تقريباً، ونحن مقبلون على تشكيلات جديدة نأمل إن تكون بداية لمستقبل آخر. لكن هذا لا يمنع من المراجعة النقدية لتجربة الماضي واستخلاص العبر والدروس الضرورية، لأن مستقبل العراق مرهون بكثير من عوامل الرؤيا الاقتصادية، عوامل الرؤيا العامة لتطور البلد. فان لم نستطع صياغة رؤية صحيحة وعلى أسس مدروسة، لا يمكن للعراق إن يستمر بهذه الطريقة العشوائية لأن نتائجها ستكون وخيمة. مهدي الحافظ * وزير التخطيط العراقي السابق رئيس المركز العراقي للتنمية والحوار الدولي. * ملخص لمحاضرة ألقيت في نادي الصيد في بغداد.