يصعب فهم ما يجري على الساحة اللبنانية الآن من دون تذكر أن هذا البلد الصغير الجميل كان مسرحاً دائماً للصراع على النفوذ بين قوى خارجية عديدة، وهو صراع حكمته توازنات داخلية دقيقة تغيرت مفرداتها بتغير الظروف العالمية والإقليمية. ولذلك فعندما اختلّت هذه التوازنات وعجزت حركتها عن التكيف مع الأوضاع الإقليمية التي نجمت عن بداية توجه مصر نحو التسوية المنفردة مع إسرائيل اندلعت حرب أهلية تشابكت فيها مصالح وعلاقات الأطراف المحلية المنخرطة فيها مع مصالح قوى أقليمية ودولية محددة هي: سورية وإسرائيل والولاياتالمتحدةوفرنسا. غير أن سورية تمكنت من حسم هذه الجولة من الصراع لصالحها، مستغلة، وبمهارة شديدة، عوامل دولية وإقليمية، خصوصاً في أعقاب الغزو العراقي للكويت العام 1990. اذ أدت حاجة القطب الأميركي لمشاركة سورية في التحالف المناهض للعراق إلى توفير الشروط الموضوعية لصفقة مكنتها من الانفراد بالنفوذ على لبنان. غير أن هذه العوامل الدولية والإقليمية عادت وتغيرت مرة أخرى عقب قرار الولاياتالمتحدة غزو العراق واحتلاله. فلم تكن هناك حاجة أميركية الى دور سوري في هذا الغزو، ولم يكن بمقدور سورية التعاون لتمكين الولاياتالمتحدة من العراق. فشكل الوجود العسكري الأمريكي في العراق تهديداً مباشراً لأمن سورية. كان الخوف من العواصف المتجمعة في الأفق بسبب تطورات الوضع في العراق هو الذي دفع بسورية لارتكاب واحد من أهم الأخطاء في إدارتها للأزمة اللبنانية حين أصرّت على التمديد للعماد لحود. فأفقدها هذا الإصرار حلفاء مهمين على الصعيدين الخارجي والداخلي. فعلى الصعيد الخارجي ساعد هذا الموقف على إحداث تقارب فرنسي- أميركي ما كان يمكن من دونه صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559، أما على الصعيد الداخلي فساهم في احتقان الحياة السياسية في لبنان، خصوصًا بعد استقالة حكومة رفيق الحريري. وعلى رغم أن القرار 1559 لم يوجه إدانة صريحة لسورية أو حتى يشير إليها بالاسم، خصوصاً في فقراته العاملة، وصدر في إطار الفصل السادس وليس السابع من الميثاق، ولم يأتِ مصحوباً بآليات تنفيذ أو بمهلة زمنية تفرض بعدها عقوبات إلا أنه رتّب بمجرد صدوره نتائج سياسية بالغة الأهمية بدأت تثير تفاعلات خطيرة في المنطقة بات من الصعب على الحكومتين السورية واللبنانية السيطرة عليها. فتضمن هذا القرار شروطاً تعجيزية استحال عليهما تنفيذها. فانسحاب سورية كلياً من لبنان، وتفكيك بنية المقاومة المسلحة التي يقودها حزب الله وما يسمى بالوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وطرد مكاتب المنظمات الفلسطينية الرافضة للتسوية بالشروط الإسرائيلية لم يكن يعني، في نهاية المطاف، سوى شيء واحد وهو تسليم لبنان بالكامل للنفوذ الإسرائيلي الأميركي المشترك وتعريض أمن النظام والدولة والمجتمع في سورية لتهديد المباشر. وفي هذا السياق بدأت جملة من التفاعلات الخطرة التي انتهت بجريمة اغتيال رفيق الحريري. كان لبنان استطاع خلال مرحلة النفوذ السوري المنفرد أن يتجاوز آثار الحرب الأهلية وتمكن من تحقيق إنجازين كبيرين متوازيين ومتلازمين: التحرير والتعمير، بفضل التضحيات الهائلة التي قدمتها المقاومة بقيادة حسن نصرالله، من ناحية، والجهود الجبارة التي قادها وجسدها رفيق الحريري، من ناحية أخرى. ولم يكن ممكناً تحقيق هذين الإنجازين في الوقت نفسه من دون توافر مظلة أقليمية، شكل التوافق الإيراني - السوري أساسها الصلب، وأخرى دولية وفرت التحالفات التي أفرزها الغزو العراقي للكويت أساساً معقولاً لها. غير أن أحداث أيلول سبتمبر، من ناحية، والاحتلال الأميركي للعراق، من ناحية أخرى، خلقا ظروفا وأوضاعا جديدة راحت تضغط بشدة على صيغة التعايش هذه وانتهت بتحطيمها. وفي تقديري أن الصراع الدائر حالياً على الساحة اللبنانية كان ولا يزال يتمحور حول رؤيتين على طرفي نقيض. الأولى: ترى أن مصلحة لبنان الاستراتيجية تكمن في دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية وتقوية علاقة الارتباط مع سورية في سياق البحث المشترك عن تسوية عادلة وشاملة للصراع في الشرق الأوسط. أما الثانية: فترى أن مصلحة لبنان الاستراتيجية تكمن في فك هذا الارتباط وإعادة بناء تحالفات لبنان التقليدية مع القوى الغربية وخصوصاً مع فرنساوالولاياتالمتحدة. وإذا كان الانتصار الذي حققته المقاومة اللبنانية أسهم في ترجيح كفة التيار الأول في البداية، فإن عدم تنفيذ سورية لالتزاماتها بموجب اتفاق الطائف وارتكاب أجهزتها الأمنية في لبنان لتجاوزات كثيرة تسببت في إحداث شروخ في العلاقة بين فصائل الحركة الوطنية اللبنانية راحت تكبر وتتسع حتى وصلت إلى ما يشبه القطيعة في أعقاب التمديد للسيد إميل لحود. ثم جاء اغتيال رفيق الحريري ليحول الصراع المفتوح إلى استقطاب حاد بين معسكرين يريد أحدهما أن يمشي في جنازة الآخر. وبينما راح معسكر"المعارضة"يهيئ نفسه لاحتلال موقع الهجوم رافعاً شعار"استقلال لبنان"وتحريره من"الاحتلال السوري"متهماً المعسكر الآخر بموالاة الاحتلال وتكريسه، وجد معسكر"الموالاة"نفسه محشوراً في خندق الدفاع عن صمود لبنان ومتهماً معسكر"المعارضة"بالموالاة للولايات المتحدة وإسرائيل وتحوله إلى أداة أو إلى مخلب قط لتنفيذ مخططاتهما الرامية لتصفية المقاومة والتوطين والعودة بلبنان إلى مرحلة ما قبل اتفاق 17 أيار مايو. التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية الناجمة عن جريمة اغتيال الحريري دفعت بالرياح في شراع سفن معسكر"المعارضة"الذي اعتقد أن الكفة بدأت تميل لصالحه، وراح يتصرف وكأنه يسيطر وحده على الشارع اللبناني. غير أن الأوراق بدت مختلطة في هذا المشهد"المعارض"بين فصائل رفعت شعارات وطنية، من منطلق الحرص على تصحيح وإعادة بناء العلاقات السورية اللبنانية على أسس جديدة في إطار وحدة الهدف والمصير المشترك، وفصائل أخرى ترفع نفس الشعارات تنفيذا لأجندة خارجية إسرائيلية أو أميركية أو فرنسية. أما داخل معسكر"الموالاة"فطمست الشعارات المنادية بوحدة الهدف والمصير، إمكانية الفرز بين القوى المؤمنة حقاً باستقلال لبنان وعروبته، والقوى التي توقفت درجة عروبتها على مقدار الدعم السياسي والاقتصادي الذي كانت تقدمه لها أجهزة الأمن السورية طمعاً في مقعد نيابي هنا أو صفقة تجارية هناك! وفي سياق اختلاط الحابل بالنابل على هذا النحو تصورت القوى الأجنبية المتطلعة لعودة نفوذها المفقود في لبنان أن هذا البلد الصغير بات ثمرة ناضجة على وشك السقوط. ولأنه لم يكن خافياً على أحد أن تصفية حزب الله وفرض توطين الفلسطينيين المقيمين في لبنان هو الهدف الأول الذي تسعى القوى التي فرضت القرار 1559 لتحقيقه، فكان من الطبيعي أن يشكل حزب الله النواة الصلبة لتجمع القوى الوطنية الرافضة للتوطين وتصفية المقاومة، والقادرة على عزل وتهميش القوى المنفذة لأجندة أميركية - إسرائيلية. أثبتت التطورات اللاحقة أن انسحاب القوات السورية من لبنان لم يخفف الضغط الدولي على سورية وإنما على العكس. فالقرار 1559 أمدّ الولاياتالمتحدة وحلفاءها بوسائل وآليات ضعط جديدة وشكل بالنسبة اليها في مواجهة سورية ما شكله القرار 1441 في مواجهة العراق. ولأن الولاياتالمتحدة كانت تأمل في أن لا يتحقق الانسحاب السوري قبل أن تقوم سورية بنفسها بالمعاونة في نزع سلاح حزب الله، فنشطت لملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب السوري من لبنان وألقت بكل ثقلها لإدارة الانتخابات التشريعية اللبنانية على نحو يؤدي إلى إفراز غالبية برلمانية معادية لسورية. وعلى رغم أن الحكومة اللبنانية المستندة لهذه الغالبية لم تكن راغبة في الدخول في صدام سريع مع حزب الله، إلا أن الارتباط العضوي بين مصالح الداخل والخارج فرض نمطاً من التحالفات بات من المستحيل تجنبه. فالقوى الخارجية والداخلية المصممة على توريط وإدانة سورية في موضوع اغتيال رفيق الحريري هي ذات القوى صاحبة المصلحة في نزع سلاح حزب الله وتجريد المخيمات الفلسطينية من سلاحها. وبينما وجدت الولاياتالمتحدةوفرنسا في لجنة التحقيق الدولية حول ملابسات اغتيال الحريري آلية خطيرة وفعالة لمواصلة الضغط على سورية، وجدت القوى الداخلية في القرار 1559 آلية خطيرة وفعالة لمواصلة الضغط على حزب الله. وهكذا فرضت الظروف الموضوعية على كل من قوى"الموالاة"وقوى"المعارضة"المحافظة على حلفائهما الطبيعيين: الأول مع سورية وإيران والمقاومة الفلسطينية، والثاني مع الولاياتالمتحدةوفرنسا ومن خلفهما إسرائيل بالطبع. وبات من الصعب على اي من فرقاء الداخل تبني مواقف مختلفة عن مواقف حلفاء الخارج، بصرف النظر عن اختلاف الدوافع أو تباين المصالح على المدى الطويل. وبينما تخندق الحلف الأول حول مواقع دفاعية، خصوصًا بعد صدور تقرير ميليس، اتخذ الحلف الثاني مواقع هجومية واضحة. يلفت النظر أن ظهور خدام كلاعب على الساحة جاء في لحظة بدا فيها تقرير ميليس كأنه على وشك الانهيار وليحدث انقلاباً في معطيات القضية. فنائب رئيس الجمهوية السوري السابق لم يعد مجرد"شاهد من أهله"يملك معلومات مهمة قد تفيد التحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري، ولكنه بات طرفاً في صراع على السلطة وبديلاً محتملاً لنظام مطلوب تغييره! وكان من الطبيعي أن يكون لهذا التطور صداه في الداخل اللبناني حيث راحت قوى معينة، وللمرة الاولى منذ اندلاع الأزمة مع سورية، تتحدث عن ضرورة إسقاط النظام السوري باعتباره شرطاً لازماً لاستقرار لبنان. فإذا أضفنا إلى هذا المشهد العبثي ما يجري الآن على ساحة الوكالة الدولية للطاقة النووية والاحتمالات المتزايدة لتحويل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن ندرك أن المنطقة برمتها تتجه نحو أزمة كبرى ستؤدي بالضرورة، رغم أنف الجميع، إلى حالة استقطاب بين طرفين لا ثالث لهما: أميركا وإسرائيل وحلفائهما في طرف، وكل الآخرينفي طرف ثان. وفي سياق هذا الاستقطاب عادة ما يحدث الخلط بين أوراق كثيرة وتخرج الشعوب العربية المحشورة أبداص بين استبداد الداخل وأطماع الخارج كخاسر أكبر وربما وحيد. "الملف اللبناني"هو عنوان الصراع على الشرق الأوسط اليوم. لكن قراءة الملف اللبناني مستحيلة من دون قراءة"الملف السوري"و"الملف الإيراني". والرابط الوحيد بين هذه الملفات كان ولا يزال هو إسرائيل. فإسرائيل هي الخطر الأكبر على لبنان وعلى سورية وعلى إيران، فاغتصاب إسرائيل للأرض الفلسطينية وتشريدها للشعب الفلسطيني هو أساس الأزمة اللبنانية، و"الأزمة السورية"و"الأزمة الإيرانية"وكل الأزمات التي نشأت في المنطقة طوال الخمسين عاماً الماضية والتي ستنشأ خلال الخمسين عاماً المقبلة. فالصراع على لبنان وفي لبنان هو جزء من الصراع مع إسرائيل. وما لم تجد القضية الفلسطينية حلا عادلاً ودائماً لها فإن هذا الصراع سيستمر شاملاً، على دول المنطقة وفيها ايضاً. كاتب مصري.