تاريخ اللبنانيين شيء، وتاريخ دولتهم شيء آخر، يختلف عن الأول بالصيغة الدستورية العامة التي تطور بها المجتمع اللبناني منذ عهد الانتداب حتى عهد الاستقلال، وحتى جميع الأحداث التي عرفها لبنان من خلال وضعه المتأزم الدقيق داخل خريطة الشرق الأوسط، ولا سيما بعد قيام دولة اسرائيل واتساع أطماعها المباشرة بالعرب من خلال نفوذها الراسخ الجذور في العالم الغربي، بمعزل عن إدراك العرب لما كان يجري ضدهم منذ مئة عام، أو عن ضعفهم وانقساماتهم أمام بقايا الاستعمار القديم وحروب الاستعمار المتجدد بأشكال عسكرية وغير عسكرية، على مدى العالم العربي والعالم الاسلامي وبقية بلدان القارات النامية ليبقى عشرة في المئة من سكان الأرض، متحكمين بخيرات شعوبها جميعاً، وبإدارة هذه الشعوب لمنعها من النهوض والتقدم. لقد عرف لبنان في تاريخه القديم وفي مراحل ما قبل التاريخ مفاخر علمية وأدبية سباقة ثم تعاقبت عليه الفتوحات وهو البلد الصغير فلم يستطع التحول الى دولة قوية موحدة على رغم احتفاظ أبنائه بفرادة الابداع والتطور، وعلى رغم الحضور العالمي للبنانيين في مختلف القارات، حيث كان اللبناني المقهور في بلده والمحروم من الاستقرار، ذا حضور بارز ولو على صعيد النخب. وبينما يمر لبنان في هذه المرحلة المصيرية اقليمياً ودولياً، لا محلياً وحسب، بأصعب امتحانات البقاء، وتهب على الشرق الأوسط مشاريع التغيير الفاشل، تبدو صورة الوضع بعد انتشار القوات الدولية التي خصه بها قرار مجلس الأمن رقم 1701، لضبط الحدود بينه وبين اسرائيل ولأجل الحؤول دون تجدد الصدامات بين الجيش الاسرائيلي و"حزب الله"، شبيهة بالمشهد الذي عرفه لبنان منذ حوالي مئة وخمسين عاماً من حكم القناصل أو حكم المتصرفية أو حكم القائمقاميين، بالتوالي، للتخلص من الحكم الأجنبي، وكان عثمانياً في ذلك الوقت، فتظهر المبادرات الأوروبية والغربية والعربية التي تجتمع داخل الأممالمتحدة، وتنبع منها، باسم مجلس الأمن الدولي، وكأنها عودة الى الماضي، فتجعل المصير اللبناني عرضة لتجاذبات خطيرة، ربما يكون اللبنانيون والعرب عموماً قد اعتادوها ولكن الأخطر فيها هو معرفة أي مستقبل ينتظر اللبنانيين، وهم مسيّسون بالأفكار المستوردة، في ظل قوات دولية، عرفها لبنان سابقاً على أنها قوات طوارئ في الجنوب لمراقبة هدنة 1949 بينه وبين اسرائيل، ومراقبة ما تبع الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام 2000، فإذا بها غير قادرة على ردع الإسرائيليين عن التدخل البري والبحري والجوي للاعتداء على لبنان، وغير مفوضة بمهمات واضحة من جانب مجلس الأمن الدولي للحؤول دون وقوع الاعتداءات التي تحتم ردات الفعل من جانب المقاومة وما يستتبع ذلك من تفاقم للصدامات وتبرير للمواجهات العسكرية. والتركيز على مسلسل الأحداث التاريخية وظواهر عدم الاستقرار والاخلال بالأمن الى حد التناحر الحزبي أو الطائفي بين اللبنانيين نتيجة التحريك الخارجي والتشجيع الدولي المكشوف، يفرض أمرين على الأقل: الأول هو استقراء الأوضاع العالمية التي تبرر للقوى العظمى الساعية لاستثمار خيرات الشرق من بترول وغاز وأسواق تجارية واسعة، والسعي لأداء دور سياسي أو ديبلوماسي يجهد فيه لبنان على الدوام لتحصيل أي هدنة موقتة، بعد تعرضه للغزو والدمار والتفرقة الوطنية، وهو سعي ينجح فيه لبنان نسبياً، بمساعدة اشقائه العرب أو أصدقائه في الخارج، الذين يخترق النفوذ الإسرائيلي سياسة معظم حكوماتهم، ويعمل على تحييد بعضها أو حمل بعضها الآخر على الوقوف الى جانب إسرائيل لمنع تطبيق قرارات مجلس الأمن الهادفة لاحلال السلام في الشرق الأوسط وقطع الطريق على تزايد العنف. والحديث على الأممالمتحدة ودورها في لبنان يرمز أحياناً الى كون لبنان دولة مؤلفة من أمم غير متحدة، طالما أن تفجير الخلافات بين أبنائه يمكن أن يجعل كل طائفة تابعة لدولة أو أمة خارجية لالتماس حمايتها بالطرق السلمية أو الطرق الحربية، وطالما أن التوازن الداخلي الدقيق بين اللبنانيين، المفروض تحقيقه والحفاظ عليه وحمايته، هو الذي يعطي الصورة الجميلة عن التنامي الثقافي المنبثق من العمق الحضاري القديم الذي يبرر وجود لبنان مستقلاً، ومنفتحاً على أشقائه وأصدقائه. والأمر الثاني الضروري من أجل اصلاح أمور لبنان الداخلية بما يؤهله لحماية نفسه من الأخطار يكمن في وجوب تمكين المواطن من حسن اختيار حكامه بالطرق الديموقراطية، ولن يتحقق ذلك إلا باعتماد قانون انتخابي جديد على اساس الدائرة الفردية كي تزول تدخلات المال والاقطاع والطائفية وتمهيداً لتبديد التشنجات المريضة من نفوس المواطنين وبلوغاً الى إمكان الغاء الطائفية وفقاً لما نص عليه اتفاق الطائف الذي تهدده التيارات العاصفة بالسياسة اللبنانية حالياً، ويتوجب على كل مخلص في لبنان وخارج لبنان العمل لاستكمال تطبيق بنوده. لقد حظيت الدولة اللبنانية بدستور راق منذ عهد الانتداب، وجرى تعديله بالطبع لمراعاة الاستقلال الوطني والانتساب لجامعة الدول العربية عام 1943 وعام 1945، غير ان أهم ما رافق الدستور والاستقلال هو الميثاق الوطني غير المكتوب الذي توافق عليه اللبنانيون بشخص الرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري ورئيس حكومة الاستقلال الأولى الزعيم رياض الصلح، وحولهما مجموعة تاريخية وطنية من سياسيي لبنان. ومن أنبل ما ينطوي عليه الميثاق الوطني هو ان تكون هذه التسمية قد حصلت بنصيحة واقتراح من الرئيس الاستقلالي السوري الأول الزعيم شكري القوتلي، وفي هذا ما يدل على طيب العلاقات الأخوية بين لبنان وسورية، أو بين البلدان العربية جميعاً عندما تصفو المقاصد وتنعكس تعاوناً بناء في مختلف الميادين. ان الاخطار المحيطة بلبنان كثيرة، وسوف يزداد عددها ونوعها إذا لم يتفق اللبنانيون أنفسهم على امكانات خروج لبنان من أزماته وطبيعة الاصلاحات الكفيلة بتحرير الدولة من مستثمريها، والطوائف من مفسديها، والأحزاب من محرفيها، لتصبح الكلمة الوطنية الجامعة هي القوة الأولى حاضراً ومستقبلاً، لمقاومة التعصب والتخلف الذي يرافق التعصب، وانتفاء الحاجة الى اي مساعدة أجنبية، قبل ان تتحول هذه المساعدة الى عكس ما قامت بسببه، أو قدمت الى لبنان من أجله. * كاتب لبناني